علمتُ مرّةً، ثم نسيتُ/ تشارلز سيميك
من (العالم لا ينتهي)
طفني الغجرُ. لكن سرعان ما خطفني والداي منهم. ثم عاد الغجر فخطفوني من جديد.
وجرى الأمر هكذا لبعض الوقت. في لحظة كنتُ في القافلة أرضع الحَلَمةَ الداكنة لأمي الجديدةِ، وفي اللحظة التالية جلستُ إلى طاولةٍ طويلةٍ في غرفةِ الطَّعامِ أتناولُ إِفطاري بملعقةٍ فِضِّيَّة.
كان أوَّلَ أيَّامِ الربيع. واحدٌ من آبائي كان يغنّي في مغطسِ الحمَّام، الآخرُ كان يُلوِّنُ دُورِيَّاً حيَّاً بألوانِ عصفورٍ استوائيّ.
***
كنّا فقراء للغاية لدرجة أني حللتُ محلَّ الطَّعْمِ في مصيَدَةِ الفئران. وحيداً في القبو، كان يمكنني أن أسمعهم في الأعلى يذرعون المكانَ جيئةً وذهاباً، يأرقون، ويتقلّبون في أسرَّتهم. “إنّها أيامٌ ظلماء ومشؤومة،” أسرَّ إليَّ الفأرُ بينما كان يقضمُ أُذُنِي.
مرّتْ سنون. ارتدتْ أمي ياقةً من فروِ القطِّ ظلّتْ تُمَسِّدُها حتى انتثرَ ومضُها وأضاءَ القبو.
***
أنا آخرُ جنديٍّ نابوليونيّ. وها مائتا سنةٍ قد انصرمتْ وأنا لا أزالُ أتقهقرُ من موسكو. الطريقُ محفوفةٌ بأشجارِ البَتُولا البيضاء والوحلُ يكاد يصلُ رُكبتيّ. وتلك المرأةُ العوراء تريد أن تبيعني دجاجةً، رغم أنّه ليس لديّ ما أكسو به نفسي.
كان الألمانُ يغذّون السَّيْرَ في اتّجاه. وأنا ماضٍ في الاتّجاه المعاكس بينما اتّخذَ الرّوسُ اتّجاهاً آخرَ وهم يلوِّحون بأيديهم تلويحة الوداع. لا يزال لديَّ سيفي الرسميّ. أستعمله لقصِّ شَعري الذي يبلغ طوله أربع أقدام.
***
كانت حقبة سادةِ الخِفَّة.
في بعض المساءات شاهدنا رجالاً ونسوةً يهوِّمون فُرادى فوق قمم الأشجار الداكنة. أتُراهم كانوا في سُباتٍ أم غارقين في تفكير عميق؟ لم تبدر منهم أدنى محاولةٍ لتغيير وجهتهم. برفقٍ كانت تدفعهم الريح.
كنّا وجِلين من الكلامِ، من التنفُّسِ. حتى إنَّ طيور الليلِ كانت ساكنة. ولاحقاً، سنتحدّث عن الكتاب الصغير الذي حضَنتْه يدا الصبيّة، والطريقةِ التي أضاع بها العجوزُ قبّعتَه بين أشجار السّرْوِ.
في الصّباح لم يكن ثمة غيوم في السماء. رأينا بضعة غربانٍ تُسوّي ريشها بمناقيرها على حافّة الطريق، بينما أشْرَعَتِ القمصانُ أكمامَها الفارغةَ على حبلِ غسيلِ المرأةِ العمياء.
***
يا إله النّظريَّةِ العظيم، إنّه مجرّد عِقْبِ قلم رصاص، عقب معلوك بممحاةٍ متآكلة بعد خربشة هائلة.
***
الرجل البدين الذي يركض وراءها في الشّارع، يتذلّلُ. الذي يناديها باسمها… يقول إنه يريدها أن تعودَ!.
الخنثى السوداء الجميلة، بعباءة ساتان أبيض للرِّجال، تهوّي نفسها بجريدة رغم أن الثلج يغمر الرصيف.
يلتفت النّاس لكي يروا عاشقاً برأسٍ حليقة، حافي القدمين، يدعو الله أن يشهد.
***
أدَّيتُ أدواراً
في أصغر المسارح
شكائمُ من حصىً جهنَّمِيٍّ
على عتبة النافذةِ
تُطَوِّقُ كِسرةً مَنْسيَّةً
من خبزٍ أبيضَ.
***
الحجَرُ هو مرآةٌ تعملُ بِرَداءَةٍ.
لا شيء فيها إلا العماء. عماؤكَ أو عماؤه، أيهما نقول؟ في الصمتِ يلوحُ قلبُك كجدجدٍ أسود.
***
أيا عاشق الخيبات اللانهائية بمجموعتك العتيقة من بطاقات البريد، ها أنا ذا آتٍ! أنا آتٍ! إذ تريد أن تُرِيَني محطةَ قطارٍ وساعتَها المتوقفةَ عند الخامسة وخمس دقائق. ليس بوسعنا أن نرى ما وراء نافذةِ ناظرِ المحطّة بسبب السّخام. حتى أننا لا نعرف على وجه اليقين إن كان ثمة قطار ينتظر عند الرصيف، وأقلّ من ذلك، إن كانت ثمة امرأة في الأسود تدلفُ على عجلٍ عبر الباب الأماميّ. ما من بشر في المشهد، فلا بدّ أنها محطة هادئة إذاً. إنها محضُ بلدةٍ صغيرةٍ عاث بها الزمن إلا من أرملةٍ ذاتِ وِشاح، هي الآن في طريقها للرحيل برفقة سِرِّها.
***
درسٌ في التاريخ
تبدو الصراصير
كخَرْقى هزليين
في مسرحياتٍ جادّة.
***
كانت مارغريت تنسخ طريقةَ إعدادِ طبق “قدّيسين مشويين بالبصل” من كتاب طهو قديم. أصوات العالم العشرة آلاف كانت قد أُخمدتْ حتى أننا سمعنا صرير قلمها. كان القدّيس هاجعاً في غرفة النوم وعلى عينيه ثمة قماشة مبلّلة. وعبر النافذة، قعد مؤلِّفُ الكتاب على شجرة تفّاحٍ مُزهرة يقتل القملَ بين أظافره.
***
قصيدةٌ في الجلوس على سطحٍ نيويوركيّ ذات مساءٍ خريفيّ بارد، تحتسي النبيذَ الأحمر، مُحاطاً بأبنيةٍ شاهقة، وبأولادٍ صغارٍ يتراكضون باتجاه الحافّةِ الخطِرة، وتلك الفاتنة المنـزوية التي أحبّها الجميعُ في السّرّ. ستموتُ في ريعان الصِّبا لكننا لم نعلم ذلك بعد. ثمة ثقب في جوربها الأسود، يُبرز إصبع قدمها الكبيرة…إصبعٌ بطلاء أحمرَ… وناطحات السّحاب… في الضوء الذّاوي… مثل كلدانيين جدد، وكاهنات معبد دَلْفيْ، وكاساندرات… بسبب نوافذها العمياء الكثيرة.
***
المُزارعُ العجوزُ بسرواله ذي الحمّالتين معلّقٌ من عارِضَةِ الحظيرة. البقراتُ تشيح بأنظارها إلى جِهاتٍ أخرى. المرأة العجوزُ جاثيةٌ تحت قدميه المتأرجحتين في ثوب الأحد الأسود تلامس الأرضيّة بجبهتها مثل مُسلِمٍ. وفي الخارج كانت السّماءُ تحفَلُ بغيومٍ مزبدةٍ فوق حقلٍ محروثٍ بلا علامات حدودٍ على مدِّ النّظر.
***
عزيزي فريدريك، لا يزال العالم مزيّفاً، قاسياً وعذباً..
منذ انسدال الليل، وأنا أرقب عامل المصبغة الصّينيّ، الذي لا يقرأ لغتنا أو يكتبها، وهو يقلّب صفحات كتابٍ خَلَّفَهُ زبونٌ عَجول. لكم بعثَ ذلك فيّ الغبطة. أردتُه أن يكون كتابَ أحلام، أو مجلّدَ شعرٍ عاطفيّ سخيف، لكنني لم أرَه عن كثب.
إنها الآن تقارب منتصف الليل، ولا يزال مصباحه مُضاءً. لديه ابنةٌ تُحْضِرُ له العشاء، ترتدي تنانير قصيرةً وتمشي بِخُطىً واسعة. تأخرتْ، تأخّرتْ للغاية، حتى إنه توقف عن الكيّ ومضى يرقب الشارع.
لو لم نكن كلانا، لما كان هناك سوى العناكب تُعلِّق شباكها بين مصابيح الشارع والأشجار الدّاكنة.
***
“ثمة ترف استوائيّ يكتنف فكرة الرّوح،” يكتب نيتشه. لطالما شعرتُ بذلك، أيضاً، يا فريدريك! أدغال الأمازون بطيورها الملوّنة الزاهية تزعق ثم تزعق، لكن أعماق تلك الأدغال تبقى خامدة وظلماء. البنت الحلوة الضائعة تُلْقِمُ قرداً صغيراً صدرها. وضمن الحضور ترتدي السحالي حِلّةً كنسيّة وتتحدّث إليها بالفرنسية: “La Reine des Reines” “ملكة الملكات” بما يشبه الترتيل. ليس لأدنى درجات الفتنة في هذا المشهد أن تُمحى بتلك السهولة التي يُمحى بها فعلٌ منافٍ للأدب.
***
أسَرَّتْ له الغيومُ بأسمائها ظهيرةَ صيفٍ هادئة. لكنه عندما سألَ غيومَ المساء، “هل رأيتنّ ماري وبريسيلا؟” لم تحره جواباً. كانت قطيعاً صارماً وأخرسَ. أولته ظهورَها الرّماديّة متّجهةً نحو “ستارغِس”، حيث للتوِّ أطلقَ مُزارعٌ النارَ على حصانٍ مريض.
***
آلاف الرجال العجائز بسراويلهم المُنْزَلَةِ هاجعون في المراحيض العامّة. أنتَ تُبالغ! أنتَ تهذي! آلاف المريمات والمجدليّات يبكينَ عند أقدامهم.
***
هل أَكَلَةُ لحوم البشرِ الرّوسُ أسوأ من أقرانهم الإنكليز؟
بالتأكيد. فالإنكليز يأكلون القَدَمَ فقط، بينما يأكلُ الرّوسُ الرّوحَ. “الروح سرابٌ،” قلتُ لآنا ألِكساندروڤنا، لكنها مضتْ تأكل روحي رغم ذلك.
“أمثل طبق (كونفيت) البطّ رائع المذاق، أم مثل بطلينوس العنق القصير المذهل الآتي لتوِّهِ من موطنه المالح؟” تساءلتُ. بينما اكتفتْ بِفَرْكِ بطنها وابتسمتْ لي عبر الطاولة.
***
علمتُ مرّةً، ثم نسيتُ. كان الأمر كأنني غفوتُ في حقلٍ لأكتشف لدى يقظتي أن أيكةً من الشجر قد نهضَتْ من حولي.
“لا تشكّ في شيء، صدّقْ كلّ شيء”، تلك كانت فكرة صديقي عن الميتافيزيقيا، مع أن زوجته هجرته لتذهب مع أخيه. أما هو فلا يزال يشتري وردةً لأجلها كلّ يوم، ملازِماً البيت الخاوي طيلة العشرين سنة التي تلَتْ متحدِّثاً إليها عن أحوال الطقس.
كنتُ سهوتُ في إغفاءةٍ وجيزةٍ تحت الظلّ، فرأيتُ في ما يرى النائم أن الأشجار ذات الحفيف كانت ذواتي العديدة التي تعبّر عن ذاتها جميعاً في ذات الوقت فلم يتسنَّ لي أن أنبسَ ببنتِ شفة. كانت حياتي لغزاً أخّاذاً على حافّةِ التَّجَلّي، أبداً على الحافّة! فكِّرْ بها لوهلة!
منـزلُ صديقي خاوٍ وكلّ نافذةٍ منه مُضاءة. والأشجار الدّاكنة تطفر في تكاثرها حول كلِّ جهات البيت.
***
سيُقَيَّض لإبهامي أن يشهد مغامرةً عظيمة. “أرجوك، لا تذهب،” تستجدي الأصابع. ثم تحاولُ ثَنيَه. هنا تَصِلُ ليموزين سوداء وعلى متنها امرأةٌ ذات خمار في المقعد الخلفيّ، وما من أحد خلف المقود. وإذ تتوقف السيارة، تتناول مقصّاً ذهبياً من حقيبة يدِها وتقطعُ الإبهام. نحن برفقتها في طريقنا إلى شيكاغو نستعمِلُ جَدَعَةَ إبهامي المدمّاة لطليِ شفتيها.
***
قرنٌ من الغيوم المتجمِّعة. السّفنُ الأشباحُ تصلُ و تغادر. البحرُ أكثر عمقاً، أكثر اتساعاً. الببَّغاء في قفص الخيزران يرطنُ بلغاتٍ عديدة. وجنتا القبطان في صورته الشمسية لوِّنتا بالأحمر. كان قد جلب فتاةً نصف عارية من السّكان المداريين تُرِكتْ مغلولةً في السقيفة حتى بعد وفاته. في الليل كانت تصدرُ أصواتاً لعلها كانتْ غِناءً. وكان قد ترامى للقبطان أنّ ثمة عِرْقاً من الرجال بدون أفواه لا يعتاشون إلا على رحيق الأزهار. ما حدا بزوجته وأمه أن تصلّيا لخلاص جميع الأنفس التي لم تُعمّد. غير أننا أمسكنا القبطان، مرّةً، متلبِّساً بخلع لحيته. كانت مزيّفة! وكان له تحتها لحيةٌ أخرى تضاهيها في سخف المظهر.
كان عصرَ تسكُّعات الأرملة المنشغلة. حيث لا تزال لغاتُ الحبّ الآفلة قيد الاستعمال، غير أنه كان هناك أيضاً كثير من الصّمت، كثير من الصرخات المخنوقةِ في أعالي الرِّئات.
***
ثمّةَ في داخلِ إناءٍ على الموقد مَنْ يتوعَّدُ النّجومَ بملعقةٍ خشبيّة.
وإلاّ، فالمدى ساكنٌ دون غيوم. ساعةَ الرّاعي.
***
ها قد أتى زمنُ الشّعراء الأقلّ شأناً. وداعاً ويتمان، ديكنسون، فروست. أهلاً بكم يا مَن لن تتعدى شهرتهم نطاق عائلتهم الضيِّق، وربما واحداً أو اثنين من الأصدقاء الطّيبين الذين يتحلقون بعد العشاء حول إبريق نبيذٍ أحمرَ رديء… بينما يوشك الصّغار على النوم متذمِّرين من الضجيج الذي تُحْدِثُه وأنت تنقِّبُ الخزائن بحثاً عن قصائدك القديمة، خائفاً أن تكون زوجتك قد تخلصتْ منها أثناء التنظيف أواخر الربيع الفائت.
إنّها تثلجُ، قال أحدهم وهو يلقي نظرةً إلى الليل الدّامس، ثم يلتفتُ صوبك، هو ذاته، وأنتَ تهيِّئ نفسك لكي تقرأ بطريقة مسرحية بعض الشّيء وبوجهٍ تعلوه الحمرة، قصيدةَ الغزَلِ الطويلةَ المفككةَ وقد ضاع منها إلى غير رجعة مقطعها الختاميّ (الذي تجهله).
***
حيث الجهلُ نعمةٌ، حيث يداهِنُ أحدُهم الليلَ على فراشِ الجهالة، حيث يركعُ أحدهم على ركبتيه يصلّي لملاكٍ رقيع… حيث يلتحقُ أحدهم بأحمقَ إلى الحرب في جيش الضّلالات السعيدة… حيث الدِّيَكةُ تصيحُ طوال اليوم…
***
M.
سرتُ على قدميّ باتّجاه M.
لم يكن هناك أحد في M.
كان عليّ أن أخفِّفَ الوطء
بمحاذاةِ البيتِ المقام بأوراقِ اللعِبِ-
التي يفكِّرُ نَسَقٌ منها بأكملِه
أن يتهاوى
في M. عند انقضاء اليوم.
***
نبوءة
منتصف الطريق نحو لامكان-
خيِّل إليّ أني سمعتُ
أجراس كنيسةٍ وهي تقرع،
الأعمى على النّاصيةِ
يهتُف باسمي.
***
المترجم: ترجمة أحمد م. أحمد
ضفة ثالثة