على كرسي قَشٍّ يهتزُّ/ مالك ونوس
ما إن جلس على عرشه، الذي لم يبرحه، حتى أخرج الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من جيبه حزمة عيدان تعد سبعة وأربعين عوداً على رأس كل منها مقترحٌ دستوري لتغييرٍ وَعْدٍ وَعَدَ به شعبه، ما إن يستتب له المقام بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية. الفوز الذي قيض له تحقيقه في الثامن عشر من الشهر الماضي. من هذه المقترحات تحديد ولاية الرئيس بفترتين ومنح مزيد من الصلاحيات لرئيس الوزراء. يحزنك هذا الإعلان ويضحكك في الوقت عينه: يحزنك لأمر شعبه والشعوب العربية التي يتلاعب بها أولو أمرها ببهلوانيةٍ تبدو فيها مطواعة تبز طواعية الدمى في يد محركها. أما الضحك فيأتيك به إلغاء بوتفليقة من قبل للقيود المحددة لعدد الفترات الرئاسية التي يحق لرئيس قضاؤها في الحكم كي يتمكن من الوصول للمرة الرابعة، ثم يعود فيفرضها الآن كي لا يتنعم بها من يخلفه، كأني به ينشد: «فلا نزل القطر» إن لم أتأبد.
إنها لهوُ صبية في الحارات لعبة الرئيس هذه، إصلاحات تمنَّعَ عن تنفيذها، بل منعها، حين كان في أوج قوته، فكيف به يفعلها وهو يهتز. وهي سخرية تستدعي إلى مخيلتي صورةً سابقة لهذا الرئيس المرتجف، وتبقى ماثلةً أمامي خالقةً لدي تداعياتٍ تطوف بي في شرق الأرض العربية ثم في مغربها عبر صحاريها وتصحر قلوب أهليها، فلا تتركني إلا وقد بدأ العرق يتصبب من جبيني وضربات النبض تقرع في رأسي حتى لتكادُ تحيلني إلى حفرةٍ عجزت حتى الآن أحوال أهلي والبراميل المتفجرة فوق رؤوسهم من إحالتي إليها، أو أجلتهُ.
الصورة التي رافق ظهورها وانتشارها لغطٌ دار حول حقيقتها أو فبركتها، ليست صورته على الكرسي المتنقل يدلي بصوته بادياً فيها شبه عاجز، بل هي صورة قديمة تظهر بوتفليقة وهو واقف معتلياً كرسياً صغيراً، مصنوعاً على الأغلب من القش، كذلك الذي يصنعه سكان القرى العربية وأحياء المدن الفقيرة لمجالسهم، ويدخل ضمن ديكورات منازل الأثرياء كـ«أنتيكات» تزيينية. لقد اعتلى ذلك الكرسي كي يتمكن من مقاربة طول جنرالين يتوسطهما في مناسبةٍ أَفترضُ أنها عرض عسكري.
لكن ومهما كان من أمر تلك الصورة من حيث فبركتها أو حقيقيتها، فهي تبعث على السخرية من ديكتاتور جل اهتمامه مجاراة مظهر الآخرين. وهي صورة استدعتها أيضاً صورته الأخيرة على الكرسي المتحرك أثناء اقتراعه لولايته الرابعة، التي تظهره على حافة قبره يريد استمرار وُلُوجِه في السلطة وتأبده فيها بالرغم من عجزه عن الظهور أمام كاميرات التلفزة بحالة صحية جيدة، أو مقبولة على أقل تقدير، أو ربما بسبب أن ذلك الظهور يتطلب منه مجرد جهدٍ بسيط هو فاقده. والسخرية تأتي في النهاية حين التفكير في حال ديكتاتور عاجز يصر على الاستمرار في كتم أنفاس أبناء شعبه. وتتضخم تلك السخرية لدى مقارنة صورة فلاح هرمٍ يكد تحت شمس الجزائر ليخرج من الأرض خيراتها ويوزعها على أهل بلاده دون انتظار شكر أو تهليل، بصورة هذا الديكتاتور الذي يعلم بعجزه عن تقديم أي منفعة لأهل بلاده، إلا أنه يستمر في السلطة ليجعل تلك الصور تتصارع في ذهننا، فلا نرى فيها سوى تشظٍ بين مواطنين وحكام، طرقات تتباعد ومستقبل لا يُدرك.
تتداعى الصور وتتلاقى، تتلاقح فلا يبقى من تلاقحها غير صورة أخرى، صورة الزعيم وهو بين أيادي أبناء شعبه بعدما أخرجوه من ذلك الأنبوب الذي أصبح قلعته بعد أن هدمت قلعته في «باب العزيزية». التي كان يطل عليهم من فوقها كي يسبغ عليهم الأوصاف واللعنات. إنها صورته الحقيقية بين أبناء شعبه بعدما رحل الحراس. أرى الصورة وقد توقفت، لكن الوجوه فيها تتبدل.
السفير