عندما ينطق رئيس المخابرات الجوية السورية/ مصعب قاسم عزاوي
في مقابلةٍ استثنائيةٍ تُعد الأولى من نوعها، مع رئيس جهاز المخابرات الجوية السورية، جميل حسن، عرض الصحفي المخضرم روبرت فيسك في صحيفة ذا إندبندنت البريطانية ما سمعه من أحد أركان الدولة الأمنية السورية التي صمّمها حافظ الأسد على قياسه الاستبدادي، عقب انقلابه على رفاقه البعثيين كلهم في 1970، بحيث يكون ظاهرها حزباً شكلياً يقود الدولة والمجتمع، من دون أن يغير ذلك من حقيقة تغوّل نظام الدولة الأمني العسكري على كل بُنيات الدولة المدنية، وتغييبه في ذلك السياق لأي عقد اجتماعي مناط به تأطير هوية وطنية جامعة وتأسيسها وحمايتها، بشكل ما، لكل أولئك المتعاقدين فيه، وهو ما تمثل بشكل عياني مشخّص في مهزلة تعديل الدستور السوري في العام 2000، تمهيداً لتوريث بشار الأسد سدة ذلك النظام الأمني العسكري.
يجادل جميل حسن في مقابلته مع فيسك بأن “إجراءات قمعية مثل التي قام بها نظام حافظ الأسد في 1980 في حماة كانت كفيلةً، في حال تم اتباعها في بداية الأزمة، بحفظ الدم السوري”. ويرى ضمنياً أن سياسة بشار الأسد مهادنة يختلف معها، وأنه لا بد من اتباع سياسة حافظ الأسد في حماة، ومنهجية سحق المنتفضين بالدبابات في ساحة تيانامين في الصين في 1989. خطاب يثير القشعريرة لدى السوريين الذين يدرك كل منهم أن نظام بشار هو نظام أبيه، لم يتغيّر فيه إلا رأس هرم السلطة الأمنية، من دون أن يغير ذلك من أيٍّ من آلياتها الداخلية في التعامل مع مواطنيها، بوصفها قوات احتلال عقيدة وسلوكاً؛ وما فعله نظام حافظ الأسد من مجازر في حماة (قدّر روبرت فيسك نفسه عدد ضحاياها حينما زار حماة خلسة إبّان حصارها بأنه جاوز 20000)، فقد أعاد استنساخه نظام بشار الأسد بشكل أكثر وحشيةً،
“المقابلة كشفت عن عمق الوعي الاستبدادي في صميم بنيان النظام الأسدي” أفصح عن نفسه في ابتكار همجية البراميل المتفجرة، والحصار والتجويع المزمن، واستخدام الأسلحة الكيماوية التي لم يتفتق ذهن حافظ الأسد السادي عنها آنذاك. وهو خطابٌ قافز فوق وقائع الثورة السورية التي أفرزت طوفاناً من المتظاهرين السلميين بعشرات ومئات الألوف في كل المدن والقرى، على امتداد الخريطة السورية، من دون أن تكون موضعة كما في تاريخ انتفاضة 1982 في حماة أساساً وحلب ودير الزور، و بحيث لم يتح، من الناحية العملياتية، تطبيق منهجية الإبادة الجماعية على طريقة حماة في الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة السورية، بالتوازي مع الانشقاقات المهولة في عديد الجيش السوري وكوادره، في الرتب المتوسطة والدنيا منه؛ والتي أفقدت النظام السوري الجزء الأكبر من قدرته الضاربة، وهو ما قاد، في المآل الأخير، إلى سقوط قناع الاستقلال والوطنية عن نظام الأسد باضطراره إلى إعلان رهن مصيره في مواجهة ثورةٍ شعبه عليه، بدعم المليشيات المافيوية، والمرتزقة العرب والأعاجم الذين تحرّكهم إيران وفق تقنيات التطهير العرقي التي تعتمدها قوات الاحتلال الصهيوني، بالإضافة إلى أساطيل أجنبية، تقصف المواطنين السوريين في أرضهم، وفق منهجية الأرض المحروقة التي لا يستطيع القارئ الحصيف التفكّر فيما يراه جميل حسن من إجراءاتٍ أكثر وحشيةً منها، كان ممكنا للنظام الأسدي القيام بها، ولم يقم بها، وهو ما تجلى بترميزٍ منقطع النظير في حذاقته، حينما أفاد روبرت فيسك، في مقاله، بأن على باب مكتب جميل حسن “أربعة أعلام، سوري وثلاثة روسية”، بما يشي بأن ثلاثة أرباع سورية بيعت سلفاً للروس ومصالحهم، ومافياتهم الحاكمة.
ويضيف جميل حسن نفسه مستطرداً في تفسير أس التراجيديا السورية بأنه “مخطط لتقسيم سورية البلد الكبير، تلاقت فيه مصالح الإخوان المسلمين، ممثلين بالشيخ القرضاوي، والنظام القَطَري، ونظام الوهابيين والقاعدة ذوي العقيدة السوداء. والأهم من ذلك كله إسرائيل رأس الأفعى، والدليل على ذلك عدم قصف إسرائيل الأراضي السورية التي سيطرت فيها جماعات من تنظيم داعش على عدة كيلو مترات بمحاذاة الحدود الإسرائيلية”. شواش منطقي مخزٍ، واستغباء للقارئ العارف، أو غير العارف، بشؤون المنطقة العربية، وهو يتعامى عن حقيقة أن من قسّم سورية، ودقّ الأسفين في نعش أي ممكناتٍ للوحدة الوطنية فيها، هو بربرية نظام الأسديْن نفسه التي أظهرت وجهها الفاشي بشكله الأكثر قبحاً، ومن دون مواربة، والذي تغزّل به جميل حسن نفسه مراتٍ في المقابلة نفسها، في مجازر حماة 1982، والتي حوّلت
“إنه منظار ديماغوجي شعبوي، يستند إلى عمق الوعي الشعبي المناهض لدى كل العرب للكيان الصهيوني” السوريين، في الحقبة التي تلتها، إلى معتقلين دائمين في سجنٍ كبير أسواره حدود الجغرافيا السورية، يحكمهم قانون “الكل مدان تحت الطلب”، وفق توصيف المفكر السوري، طيب تيزيني، وسجّانوهم من أبناء الطائفة العلوية التي اختطفها نظام الأسدين، بنقلها من واقع الحياة الزراعية الريفية إلى واقع الارتزاق في الحواضر السورية، وخصوصا العاصمة دمشق. وهو أيضاَ منظار ديماغوجي شعبوي، يستند إلى عمق الوعي الشعبي المناهض لدى كل العرب للكيان الصهيوني، والذي لم يعكّر صفو جبهته على الجولان، منذ حرب أكتوبر 1973، أي طلقة أو مناوشات مع نظام الأسدين في حلفٍ غير معلن، أكده رامي مخلوف خازن بيت مال آل الأسد، في مقابلته مع أنتوني شديد في صحفية نيويورك تايمز، بأن “أمن إسرائيل من أمن سورية”.
ويختتم جميل حسن حديثه بإنكار مأساة “تقليع أظافر أطفال درعا الذين كتبوا على جدران حواريهم: الشعب يريد إسقاط النظام”، وقال إن ذلك كان محض دعاية سوداء، وأنها حكاية لم تحدث، مستتبعاً ذلك بالكذب بأن “النظام السوري كان منذ العام 2005 على حربٍ مع التفجيرات الانتحارية من تنظيم القاعدة في عمق الأراضي السورية”، متناسياً كيف كان الفرع الداخلي في مدينة دمشق بقيادة حافظ مخلوف مسؤولاً عن إرسال المجاهدين الإسلاميين إلى العراق، بالتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني، كما وثقه الباحث المرموق مارك كورتيس. وكيف كان قبل غزو العراق يحشد المواطنين السوريين للسفر إلى العراق للدفاع عنه، والذين هم أنفسهم أصبحوا، عقب عودتهم إلى وطنهم، في نظره عناصر من تنظيم القاعدة، لا بد من اعتقالها، لأخذ الثناء على ذلك من سادة واشنطن آنذاك؛ ومن ثم زج الأخيرين في غياهب سجن صيدنايا، لكي تؤدلجهم عناصر متطرفة فعلاً في ذلك السجن، وليتم إطلاقهم عقب بداية الثورة السورية في تزامن هوليودي مرعب مع حادثتي هروب مئاتٍ من معتقلي سجون التاجي، وبعقوبة، وأبو غريب والتي تمّت في عهد نوري المالكي، ربيب النظام الإيراني في العراق، ليشكلوا، مع طلقاء صيدنايا والفرع الداخلي، نواة السرطان الداعشي الذي لا يتفارق إلا شكلاً عن نهج نظام بشار الأسد في تهشيم بقايا الوطن السوري، وإذلال من بقي من شعبه فيه وتركيعهم.
مقابلة كشفت عن عمق الوعي الاستبدادي في صميم بنيان النظام الأسدي، وعن استخفاف رموزه بحقائق التاريخ، وعقول المتلقين لخطابه، سواء في الغرب أو غيره، وتمترسه وراء خطاب مؤدلج رغائي، يخلط فيه كل المتناقضات، ليبرّر فيها بربرية نظامه، وارتهانه المطلق لكل ما يخالف حقوق مواطنيه ومصالحهم، للبقاء في سدة السلطة، حتى لو كان على هشيمٍ قد يقال عنه، في مقبل الأيام، بأنه كان يُعرف فيما مضى باسم سورية.
العربي الجديد