عن انقسام السوريين في الطوابير: النعرة المناطقية مضافة إلى النعرات الطائفية
يسار قدور
“إنت من وين” يسمع السوريون هذه العبارة كثيراً، ولكن ليس من “فيروز” وهي تخاطب “وديع الصافي” في “سهرة حب”، وإنّما في المشاجرات والمشادّات الكلامية، التي تحدث كثيراً بين المواطنين أثناء وقوفهم لساعات في طوابير طويلة، أمام المخابز للحصول على مادة الخبز، أو أمام محطات الوقود للحصول على مادتي المازوت والبنزين.
تغيرت أحوال السوريين كثيراً، بعد اندلاع الثورة، وقلّت فرص العمل تدريجياً، وأصبح الوقوف في طوابير للحصول على الكثير من المواد الأساسية مظهراً اعتيادياً وكأنه جزء من العمل اليومي للمواطنين في كل المناطق السورية على حد سواء، الآمنة وغير الآمنة (التي لم تفرغ من جميع سكانها). لقد قلّ دخل المواطن الذي يعيش في المناطق الآمنة (التي لا تتعرض للقصف) بسبب إغلاق الكثير من المعامل وقطاعات الانتاج، إضافة إلى زيادة اليد العاملة القادمة من المناطق المنكوبة التي خسر سكانها كل أعمالهم ومواردهم، وقد أدّى هذا النزوح الكبير لسكان المناطق المنكوبة إلى إحداث تغيير في الطبيعة السكانية للمناطق الأكثر أمناً، حيث أن الأماكن التي باتت تُعتبر آمنة نسبياً في سوريا يقتصر معظمها على المناطق التي تسكنها تجمعات تنتمي لأقليات دينية وطائفية، وهذه لم تطلها نيران النظام وقذائفه ليدعم بذلك حجته في حماية الأقليات، ومحاولاته المتكررة في إشعال الفتنة الطائفية، التي لم يستطع إحداثها داخلياً، فأخذ يبحث عنها خارج البيت السوري، من خلال تحالفاته المعروفة.
ازدادت حركة النزوح مع تصاعد العنف واستخدام الأسلحة الثقيلة والأكثر فتكاً، ما أدى إلى تغير كبير في التركيبة السكانية للمناطق السورية الآمنة، وتحول أبناء الطوائف الأخرى إلى أقليات في مناطق إقامتهم وقراهم. استثمر النظام هذا التغيّر مستغلاً الحالة المادية والنفسية السيئة التي يعيشها السوريون، ولم يتأخر في بث سمومه من خلال (لجانه الشعبية) واستطاع أن يُحدث شرخاً كبيراً بين الناس، ليرسم تلك النظرة غير المرحبة بالوافدين على وجوه الكثير من السكان، بترويجه أن سبب تفاقم الأزمة المعيشية هو نزوح هؤلاء الوافدين الذين يقاسمون السكان لقمة عيشهم ومؤونتهم التي كانت تكفيهم؛ بعد أن أصبحت ظاهرة الانتظار لساعات طويلة أمام المخابز ومحطات الوقود والمؤسسات الاستهلاكية، من الطقوس اليومية عند كل السوريين.
وفي ظل هذه الظروف القاسية التي يعيشها الجميع من الطبيعي أن تحدث مشاحنات كثيرة، وقد تتطور إلى مشاجرات أحياناً، ما يدفع البعض – وإن في لحظة غضب عابرة – إلى الاستقواء بانتمائه المناطقي، وطرح السؤال الذي بات يتكرر كثيراً بحكم العادة وروتين الانتظار “أنت من وين”؟
بعد فشل النظام في زرع الطائفية بين السوريين، مع الإقرار بنجاحه في بعض المناطق، عمل على خلق نعرات من نوع آخر، نعرات مناطقية تستغل الظروف المعيشية والنفسية السيئة للناس، حيث ألهى الناس بأبسط احتياجاتهم الأساسية لحظياً، وجعلهم ينصرفون عن التفكير بالأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحال، بالتفكير فقط بتأمين لوازمهم الأساسية وبأنه يوجد وافدين يقاسمونهم فيها. يظن البعض أنّ النظام قد نجح إلى حد كبير في لعبته الطائفية لأن بعض أشكالها تطفو على السطح أحياناً، لكن العارف بالنسيج السوري وتوزعه الجغرافي يدرك من اللحظة الأولى أن هذه الخطة لم تنجح تماماً، وإن بدا ذلك ظاهرياً. لكنه نجح في تقسيمه المناطقي، الذي كان ممنهجاً ابتداءً من الحواجز التي أقامها بين المدن، مروراً بتقسيم المدن والمناطق، وصولاً إلى تسليم ادارة الكثير من المناطق لفئات محددة تتبع له، مستعيناً بالتوزع الجغرافي للسوريين في كثير من المناطق، حيث تتواجد بعض الأقليات في مناطق محددة بشكل كثيف، كتواجد “الكرد” في منطقتي الجزيرة وعفرين، وتواجد “المسيحيين” في مناطق وأحياء محددة أيضاً، كما ينطبق هذا الكلام على “الدروز” في تواجدهم في “جبل العرب” وبعض مناطق الريف الدمشقي “جرمانا – صحنايا”. ذلك فضلاً عن بعض النزعات الفوقية الموجودة لدى سكان المدن، ومنذ عقود طويلة، خصوصاً الكبيرة منها (دمشق وحلب)، الأمر الذي يتجلى بنظرتهم المتعالية على سكان الريف، وحتى على سكان المدن الأخرى التي يعتبرونها أريافاً وليست مدناً.
كل هذه التقسيمات في ظل تغييب مفهوم الانتماء للوطن (سوريا) عزز الانقسام المناطقي، وزاد الشرخ بين الكثير من المكونات البشرية للمجتمع السوري، الأمر الذي حوّل الهدف من هذا السؤال البسيط: “أنت من وين”، الذي كان يُستخدم للتعارف والتودد بين الناس، إلى سؤال يحمل نبرة التهجم والاستقواء على الآخرين بوصفهم دخلاء غير مرغوب بهم. وكما لا يمكن لسوريا العودة إلى ما كانت عليه إلا بسقوط النظام، كذلك أصبحت عودة الكثير من العبارات البسيطة إلى دلالاتها الأصلية مرهونة بسقوط النظام أيضاً.
المستقبل