عن حجاب شابتين سوريتين
علياء إبراهيم
استوقفتني صورة تم تداولها على مواقع الإنترنت، صورة صبية سورية في مقتبل العمر تضع على رأسها حجاباً ملوّناً, ترفع يدها في وجه الكاميرا التي تنظر إليها بتحدٍّ. على إبهامها كتبت “أنا” وعلى السبابة كتبت “لا أريد أن أتزوج”، ثم على أصابعها الباقية وبالتوالي، أريد أن أتعلم, أريد أن أعمل، أريد أن أعيش.
الصورة تم تداولها تحت عنوان جمعة لاجئون والكرامة عنواننا، أي أنها تأتي في سياق الثورة السورية، لكن التركيز على ملامح الفتاة يأخذك في اتجاه آخر, يكاد يكون معاكساً.
فالنظام السوري الذي أمعن في قمع مواطنيه على مدى أربعة عقود لم يميز بين امرأة ورجل، وادعاؤه احترام حقوق المرأة تماماً مثل ادعاء العلمانية واحترام حقوق الأقليات هي مواضيع لطالما استغلها النظام وهي اليوم من أهم نقاط التماسك بالنسبة له، إن لم نقل الأهم أقله على المستوى الدولي.
كما أن الصبية، الملتزمة دينياً، تذهب في تحديها الى أبعد مما هو خطير وطارئ على الساحة السورية، أعني المجموعات الإسلامية المتطرفة التي لن تبقى للفتاة لا وجهاً سافراً تظهره ولا يداً ترفعها في وجه أحد.
الفتاة في الصورة بدت لي وكأنها ترفع عينيها ويدها وصوتها في وجه مَنْ يزوجها باكراً ويحرمها حقوقها الشخصية من حق التعليم، الى حق العمل وما يعنيه من استقلالية مادية وصولاً إلى حق اختيار الحياة التي تريد.
إنها ترفع يدها في وجه مَنْ تحب، في وجه أهلها وبيئتها.
هي ثورة خاصة إذا، وإن كانت تجمع هذه الصبية مع كثيرات من بنات جيلها اللواتي كبرن في بيئات محافظة لطالما اعتبرت أن الزواج المبكّر حصانة للمرأة, إلى أن أتت الثورة وأطاحت بكمٍّ من التقاليد موضوع الزواج المبكر ليس إلا واحد منها.
فالثورة أخرجت النساء من بيوتهن، وفجّرت طاقات لم تكن صاحباتها واعيات أنها موجودة أصلاً.
ريم حلب، وهو اسم مستعار، واحدة ممن خرجن.
ابنة الاثنين وعشرين عاماً التي درست الشريعة في المرحلة الثانوية قبل أن تتابع دراسة الأدب العربي بدلاً من الإعلام الذي كانت تريد, كانت منذ اليوم الأول في صفوف الثورة، قادت التظاهرات، كانت مصدراً أساسياً للأخبار اعتمدته كبريات محطات التلفزة العربية، ذاع صيتها بأسماء وهمية، فهي نور حلب وأم ليلي، وأخريات، بقيت تتظاهر، أصيبت في واحدة من التظاهرات، خرجت مؤخراً من المحافظة الى إحدى المدن التركية حيث أطلقت مجلة وإذاعة تدير من خلالهما فريق عمل أغلبه من الشبان من بينهم أخوها الداعم لها الى أبعد حدود.
تتحدث ريم بشغف عن حقوق المرأة، وعن ضرورة تمثيلها في المجالس المنتخبة، تقدم برنامجاً إذاعياً تحاور فيه نساء أخريات، ممرضة أو محامية، أو ناشطة أو فنانة، لعبت دوراً قيادياً خلال السنتين الماضيتين.
لا تقبل ريم أن لا تكون في الصفوف الأمامية، لا ترى في حجابها عائقاً وإن كانت تعترف بأن هناك على الأرض مَنْ يهدّد استمرار المرأة السورية بلعب هذا الدور, ولكنها وفي الوقت نفسه تدافع عن الإسلاميين بما في ذلك جبهة النصرة، فريم – برأيها – أنهم اليوم هم مَنْ يحققون النتائج على الأرض، وهذه أولوية، كما أنها حتى هذه اللحظة قادرة على التواصل المباشر معهم.
ريم اليوم أقرب الى المتطرفين الذين يهددون مستقبلها منها الى العلمانيين والليبراليين الذين يجب من حيث المبدأ أن يكونوا الضمانة لاستمرارها.
الجغرافيا اعتبار من دون شك، فريم لا تزال على تواصل شبه يومي مع محافظتها حلب، وهي في خندق واحد مع المقاتلين أياً كانت خلفياتهم أو نواياهم فيما تبعد مسافات شاسعة “عن هؤلاء العلمانيين الليبراليين القابعين في دول أوروبا”، كما قالت لي.
كلام ريم عن العلمانيين يقول الكثير عن الكثير مما يجري في سوريا، بين الداخل والخارج، والمحتل والمحرر، والريف والمدينة، والفقراء والأغنياء وإلى ما هنالك, لكنه فوق كل شيء يطرح سؤالاً جوهرياً على العلمانيين أنفسهم، لم أستطع إلا أن أطرحه على نفسي.
أليس صحيحاً أننا كعلمانيين نضع أية امرأة محجبة في خانة الفئات الإسلامية؟ اليس صحيحاً أننا بذلك نخون أنفسنا؟ مبادئنا باحترام حق المعتقد؟ الأهم من ذلك، ألا يعني موقفنا هذا أننا نتنازل عن شريحة كبيرة، إن لم نقل الاكثرية، ومن دون معركة؟ هذا ليس كلاماً في علم الاجتماع، إنه كلام في السياسة.. المجموعات الإسلامية بدءاً من الإخوان المسلمين وصولاً الى جبهة النصرة يخوضون معركة كسب العقول والقلوب كل يوم في مجتمع محافظ لكنه حتى هذه اللحظة لم يحسم أمره باختيار الإسلام السياسي.
ماذا يفعل دعاة الدولة العلمانية في المقابل؟ أين هم من الفتاة المحجبة التي جاهرت بحقها في الزيِّ والعلم والعمل وتحديد المصير؟ أين هم من حجاب ريم، حجاب مسلمة, ليس إسلامية بالمعنى السياسي. على الأقل ليس بعد.
حاولت الوصول إلى الفتاة في الصورة ولم أنجح، كما أنني لم أنجح في أن أطرد من رأسي فكرة أن هذه الفتاة تستحق مني نفس الدعم الذي لم أتردد بإظهاره للحظة لأمينة, الفتاة التونسية التي تعرّت وكتبت على جسدها جسمي لي.
من بعيد قد تبدو المسافة هائلة بين الفتاتين لكنهما في المحصلة تطرحان نفس التحدي بالنسبة لنا, نحن الليبراليين.
قد لا يعجبنا خيار أيٍّ منهما, لكن ذلك لن يغير من حقيقة أن كليهما امرأة وقفت في وجه كل شيء وبعثت الرسالة ذاتها:
أنا امرأة ثائرة وسأصنع مستقبلي بيدي.