عن حزب البعث الذي مات باكراً في ضمائر مؤسسيه/ منير الخطيب
ما نراه اليوم من خراب ودمار وقتل في كل من سورية والعراق، وهذا الانبعاث الخرافي للأحقاد المنجدلة على عصبيات، صنّعتها «ثقافة» هوامش الهوامش على نصوص الأموات الذين لا يزالون يمسكون بتلابيب الأحياء، هو فاتورة الإجهاز على «دولة» الاستقلال وعلى بدايات تشكّل السوريين كشعب سوري والعراقيين كشعب عراقي.
لقد التقط عدد من البعثيين المؤسسين، باكراً، مقدمات هذا التوحش الذي تشهده حالياً كل من سورية والعراق، ولاحظوا بذور هذا السقوط الإنساني والأخلاقي والقيمي في مبادئ التجربة البعثية وممارساتها. لاحت نذر هذا السقوط حينما انفصل «الفكر» القومي عن الواقع، وتحول إلى مجرد أيديولوجيا قوامها «الحشو» الشعاراتي، وانقطعت صلاتها بالمعرفة والمنطق والمجال العام، من غير أن ننسى انقطاع صلتها بالحداثة أيضاً، كما اندمجت هذه الأيديولوجية الضحلة مع السلطتين الاستبداديتين في كل من سورية والعراق، لتمارس دور القناع على ظواهر احتكار السلطة المطلق، والنهب المطلق للثروة، ولتغطي اعتماد كل من السلطتين على العصبيات المذهبية في السيطرة والتسلط. فبتنا أمام «سلطانية – محدثة» كتعبير عن تقليد مملوكي – عثماني راسخ في مجتمعاتنا، أدت إلى تغول غير مسبوق للسلطة في إحكام الهيمنة على «المجتمع»، إذ أن أبرز سمات السلطة المتغولة هذه هو تخارجها مع المجالات السياسية والوطنية والأخلاقية والإنسانية.
كان لافتاً للنظر عناوين تلك الكتب التي كتبها بعض هؤلاء البعثيين المؤسسين. فمثلاً، اختار القيادي البعثي العراقي هاني فكيكي عنوان «أوكار الهزيمة» لمذكراته، إذ كانت الهزيمة تفرخ وتنمو في بنى الحزب التنظيمية والأيديولوجية. أما القيادي البعثي الأردني منيف الرزاز فكتب كتاب «التجربة المرة» بعدما تذوق طعم مرارة التجربة البعثية التي شهد تفارق النتائج التي آلت إليها مع الأهداف الرومانسية التي كان يحملها الجيل المؤسس. وعنون القيادي البعثي السوري منصور الأطرش مذكراته «الجيل المدان». نعم إنه جيل يستحق أكثر من الإدانة، لأنه أجهز على مكتسبات المرحلتين الكولونيالية والاستقلالية، وأسست ضحالته الفكرية لكل الخراب اللاحق. أما نبيل شويري القيادي البعثي السوري، فوضع مذكراته تحت عنوان «سورية وحطام المراكب المبعثرة» في نبوءة عبقرية عن هذا الحطام الجنوني الذي يحكم سورية راهناً.
إن عناوين «أوكار الهزيمة»، «التجربة المرة»، «الجيل المدان»، «سورية وحطام المراكب المبعثرة»، تعبر عن شعور هؤلاء المؤسسين بالخيبة العميقة من نتائج التجربة أولاً، وتعبر عن سقوطها أخلاقياً وسياسياً في ضمائرهم ثانياً، وتشي، ثالثاً، بوضعية العزلة والتهميش التي فرضها عليهم الطائفيون في الحزب. ومما لا شك فيه، أيضاً، أن القطيعة الأخلاقية والسياسية لدى هؤلاء لم تصل إلى منسوب القطيعة المنهجية مع الأيديولوجية القومية، وتجاوزها جدلياً نحو تأسيس بدايات لتجاوز الإشكالية البعثية، فتوالت الانهيارات والهزائم هزيمة تلد أخرى، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه.
فالإشكالية البعثية التي هي ذاتها معضلة الأيديولوجية القومية، هي إشكالية في المنهج أساساً، يشترك فيها التيار القومي مع تيارات اليسار وتيارات الإسلام السياسي التي كانت جميعها تيارات مولدة للعنف والحروب وللانقسامات المجتمعية، والتي أصبح تجاوزها ضرورياً لاستمرار الأوطان.
* كاتب سوري
الحياة