عيد مئة ألف شهيد سوري
هيفاء بيطار
لا يحقّ لوطن أن يحتفل بعيد الشهداء كما يحق لسوريا اليوم. لن يخذل شهداء سوريا عيد الشهداء أبداً، فهم يستعدون للاحتفال منذ أكثر من عامين حين أعلن الموت انتصاره واستوطن في سوريا.
في 6 أيار ستشهد سوريا احتفالاً عظيماً حاشداً لدرجة لن تتمكّن كاميرات الفضائيات من تصويره كاملاً. احتفال على مساحة وطن، سيقوم من بين الأموات أكثر من مئه ألف «شهيد» سيقفزون من المقابر الجماعية، زرافات زرافات، وسيتمكن البعض من لحم أعضائهم المُقطعة بالسكاكين كيفما اتفق، ليعيدوا على الأقل شكلهم الإنساني، إذ لم يفقدهم الموت ذبحاً وتقطيعاً ذاكرتهم أنهم بشر، مثل قاتليهم. مثل من يتاجرون بهم. الذاكرة لا تموت وتتحدى الدبابات والكيماوي والسارين والفوسفوري وكل إبداعات الموت.
في 6 أيار ستشهد سوريا ثـورة حقيقــية هي ثورة الشهداء على شهادتهم، عـلى من زجــهم في المــوت، لأنهم لا يريدون أن يموتـوا وهـم في ربيـع العمــر، لأن من الإجـرام ألا نسمح للبراعم أن تتفتح على أغصان الحياة. سيلتقي أكثر من مئة ألف شهيد في سوريا في عيد الشهداء وسينشدون نشيداً بديعاً من تأليفهم وتلحينهم عنوانه: نشيد الحياة. سيصرخون في وجوه من دفعوهم للموت وجعلوهم يصدقون أو يُجبرون على التصديق أن غاية الحياة هي الشهادة وأن الشهادة مُقدسة. سيصرخون: لا نريد الموت بل نريد الحياة، ولا غاية للحياة سوى الحياة، سوى التمتع بنور الشمس ورائحـة الخبـز والقـهوة ونشـوة القبلة. ستكون احتفالية لم يشهد التاريخ مثلها، وسيفقأ الشهداء عيون العالم، ويشوشون رؤيتهم، لن يتمكن أحد مهما كان خبيراً وعبقرياً في السياسة، أن يميز هوية هؤلاء الشهداء. هل هم من الجيش السوري أم من الجيش الحر؟ هل هم من سكان درعا أم حلب أم القصير أم معرة النعمان أم دير الزور أم من قرية سلمى أو داريا وغيرها. سيُصاب المحللون السياسيون بالبُكم والذهول وهم يتفرّجون على احتفالية سوريا بعيد الشهداء، حيث سيهب وطن نازف وموجوع بكل مدنه وقراه، وطن دعم تربته طبقة من جثث أبنائه. ستكون الشمس في هذا اليوم كقرص من نار، وستتفتح دفعة واحدة مئـات الآلاف مــن زهور شقائق النعمان وقد مالت أعناقها من ثقل الدم السوري الذي شربته. ولن يتمكّن المشاهدون ولا الثرثارون من تحديد انتماء هؤلاء الشهداء ومن فرزهم كما يفرز الراعي قطيعه. لن تتمكن إحدى الناشطات على الفـيس بوك من الشماته بشبان بعمر البراعم من الجيش السوري حين يُقتلون فتكتب على صفحتها: مات العشرات من فطائس النظام. كيف يمكن لإنسانه ـ وأقول هذه الكلمة بمشقة كما لو أنني أبصق حجرة ـ وهي أم! أن تفرح لموت شبان في عمر أولادها وتقول عنهم فطائس. كيف بإمكانها أن ترى صور شبان ملصقة على الجدران وقد ماتوا ولا تتأسف على شبابهم المهدور ولا تتعاطف مع أمهاتهم الثكالى؟ ولن يتعرف قادة العمليات العسكرية على جثث فلول الإرهابيين الذين أرادوا تطهير المدن والقرى من هذه الفلول المُجرمة الإرهابية، ستتشابه كل الوجوه في عيد الشهداء. لا عداله أصدق وأكثر نزاهة من عدالة الموت. سينتفض كل من مات في سوريا التي أصابها فيروس جنون القتل والتدمير وسيحتفلون احتفالاً عظيماً في عيد الشهداء. الدعوات مفتوحة لكل قادة العالم الذين لا يخجلون من لا مبالاتهم بالشعب السوري والمتاجرة بدمه، لا يخجلون من تبديل تصريحاتهم بالشأن السوري كما يبدلون ربطات عنقهم. لا يخجلون ليس فقط من عدم احترامهم للشعب السوري بل من عدم احترامهم لكلامهم وموقفهــم. ستكـون الصفـوف الأولى في الاحتفالـية للأمهــات الثكالى، سيُخصص أكثر من مئة ألف كرسي لتجلـس عليـه الأمهات الثكالى، وستتعرف كل أم على ابنها من جرح عميق في عنقه أو من عين مفقوءة أو رجل مقطوعة، سيكون جرحاً أو طعنة أو آثار تعذيب وحشي هي العلامات التي ستميز بها الأمهات فلذات أكبادهن الذين ماتوا، وسيبدأ الاحتفال برقصة رشيقة سيقدمهــا شهـداء سـوريا الأطـفال، سيكملون أغنية: «طيري طيري يا عصفورة أنا مثلك حلوة زغيورة»، سيدورون فرحين أنهم استطاعوا أخيراً إكمال الأغنية حين حصدهم مطرٌ من رصاص فقتلهم وقتل عصافير أغنيتهم. ثم سيبدأ احتفال الشباب الشهداء. سيشبكون أيديهم مع بعض ويغنون كل أغاني الحب في العالم. سيلعنون كل الأسلحة وتجار الأسلحة والموت، وسينادون حبيباتهم وزوجاتهم وأطفالهم. سيسألون عن فاكهة الصيف وعن خبز التنور وعن الشاي المغلي مع أعواد القرفة، سيسألون عن أشجار العناب في الحفة وعن حبات الفطر الشهية في درعا، وعن تفاح كسب. سيسألون عن جيران وأحبة نزحوا بالملايين وصارت خيمهم وحياتهم البائسة مصدر رزق لفضائيات أبدعت مفردات لغوية في وصف الجرح السوري. لن تتخلل الاحتفالية ألعاب نارية لأنها ستذكرهم بالقنابل الفوسفورية التي أذابت لحم الكثير منهم، وستذكرهم بأصوات الصواريخ ومضادات الصواريخ، ولن تتخلل الاحتفالية طائرات تُلقي أوراقاً ملونة وهدايا للأطفال، لأنها ستذكرهم بالطائرات التي تقصف براميل متفجرة بالأحقاد والبارود والموت. ستكون احتفالية الشهداء بسيطة وجميلة كبساطة الحياة ذاتها. ستكون الفرحة مكتملة وناضجة نضج ثمرة مثقلة بالهوى، منتشية بذاتها ورحيق الحياة في قلبها. ستكون احتفالية عيد الشهداء في سوريا احتفالية بالحياة والفرح والرغبة بمجرد عيش كريم. لن يكون لهم من مطالب سوى مطلب واحد أن يعودوا للحياة، ليعيدوا إعمار بيوتهم المُدمرة، ومدارس أولادهم وليزرعوا أشجاراً عوض الغابات التي احترقت. لن ينتقموا ممن قتلهم لأن لا وقت لديهم سوى للبناء والحب والحياة، وسيكون انتقامهم راقياً واستثنائياً بالنسيان، سينسون جنون القتل ولعنة السلاح. وسيرمون بأنفسهم في بحر الحياة الدافئ بكل الشغف والهوى للعيش الذي حُرموا منه.
سيُجمع أكثر من مئة ألف شهيد أو قتيل في سوريا يوم 6 إيار على مطلب واحد: العودة للحياة. وسيصرخون بحنجرة واحدة لم يتم اقتلاعها: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً. ستمر لحظة صمت ثقيلة في نهاية الاحتفالية وسيتهامس قادة العالم فيما بينهم وعيونهم تتفرس في وجوه مئة ألف شهيد سوري لهم مطلب واحد: الحياة.