غنائم الأسد البشرية/ حسام جزماتي
هل تعتقد أن المصالحة تعني السلام؟ أنت مخطئ. إنها تعني وقوع مئات، أو آلاف، الشبان الجدد في يد النظام ليجندهم إلزامياً في حروبه. هذه إحدى أبرز النقاط الكارثية التي يغفلها مشايخ ووجهاء المصالحة المحليون ويتجاهلها مراقبون غربيون ينصحون مقاتلي المعارضة بحقن الدماء في ظل الاختلال القائم في ميزان القوى.
حسناً. سيعيش الأطفال ومعظم النساء والعجائز في أمان، دون التعرض للقصف بشتى أنواع الأسلحة، غير أن على الرجال أن يدفعوا ثمن ذلك إن لم يقبلوا بالمغادرة إلى إدلب، وهو خيار ليس مغرياً على كل حال. ففضلاً عن التهجير ينتظرهم هناك مصير مجهول وسط الاكتظاظ الهائل للمناطق المدمرة وندرة فرص العمل وصراع الفصائل والفوضى المنتشرة وخطر القصف من جديد مع غياب مناطق آمنة محمية ومعترف بها. أما من يشاؤون البقاء في منازلهم وبلداتهم فأمامهم معادلة واضحة، على كل أسرة تقديم أضحية فأكثر على مذبح ماكينة الحرب. حتى الاستسلام لا يعني النجاة من الموت، بل فقط تغير في طريقته ووجهته. فبعد أن كان قد يطال أي فرد من الأسرة بشكل عشوائي حسب القصف، ها هو الآن يختار ضحيته وفق جداول مديرية التجنيد العامة.
على المقاتلين السابقين في صفوف الثورة «تسوية أوضاعهم». يتم ذلك بسرعة في الغالب. فهم مدرّبون بالحد الأدنى، وربما ملكوا بنادقهم الخاصة. ما يلزم فقط هو تنظيم أسمائهم في سجلات تتبع أحد تشكيلات النظام المقاتلة، وتثبيت علمه الأحمر على البدلة، ثم الانخراط فوراً في إحدى المعارك الراهنة، والتي قد تكون المعركة نفسها التي كانوا يخوضونها من الضفة الأخرى، ولكن هذه المرة ضد رفاق البارحة، بشكل يهين كل سنواتهم السابقة ويبدد فيهم أي تماسك أخلاقي شخصي.
ناهيك عن رميهم كوقود للمعارك على خطوطها الأمامية الخطرة وتعرضهم للتشكيك والتخوين المستمر من القوات المسيّرة لهم بوصفهم «مقاتلي مصالحات».
غير أن الأمر لا يطال المنقلبين فقط، بل يتعداه إلى كل الشباب والرجال الذين هم في سن التجنيد الإلزامي أو الخدمة الاحتياطية. ما دام النظام يحتل موقع الشرعية القانونية في البلاد، باعتبار أن أي عملية انتقال سياسي معترف بها داخلياً ودولياً لم تحدث، فهو يحتفظ بصلاحية تجنيد السوريين في القوات المسلحة الرسمية. وبقدر ما يبدو الأمر كارثياً وغير أخلاقي فإنه «سليم» وفق المعايير البيروقراطية الشكلية البحتة. وهو ليس جديداً بل معروف في مناطق المصالحات. ولم يحصل مؤخراً مع الهاربين من الغوطة إلى مناطق سيطرة النظام فقط، وإنما مع الذين لجؤوا إليها من عفرين أيضاً. الأسوأ أن مئات آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً من الثوار مهددون بالمصير ذاته. وقد حصل ذلك بالفعل في الحالات القليلة نسبياً التي تم فيها إطلاق سراح سجناء، إذ كان جهاز الشرطة العسكرية يلتقط المطلوبين للجيش منهم قبل أن يخرجوا من باب الجهة التي أمرت بالإفراج عنهم، ويحولهم للقتال في صفوف الأسد الذي خرجوا ضده ولقصف المناطق التي استجابت لدعوتهم الثورية نفسها!
وبالنظر إلى طموح النظام في السيطرة على جميع سورية، وهو ما دأب على إعلانه بشكل متكرر وما تعززه ممارساته الفعلية، فإن هذه المفرمة البشرية الهائلة ستستمر في التغذي على أرواح السكان. وبخلاف خطابه الإعلامي الانتصاري يعي النظام جيداً أن 45% صعبة من مساحة البلاد تقع تحت سيطرة قوى مختلفة. إذ ما تزال داعش تحتل أجزاء من ريف دير الزور، وتغير على مواقع النظام وحلفائه هناك وتكبدهم الضحايا بشكل يومي.
بينما تسيطر قوات قسد على نصف المحافظة ذاتها وعلى معظم الرقة والحسكة، وهو ما لم يمر دون اشتباكات دامية متكررة بهدف الوصول إلى حقول النفط ذات الأهمية الحيوية للنظام، الذي يحافظ بشكل ثابت على توعده «الانفصاليين» بالمعركة حين يحين وقتها المناسب. وذلك فضلاً عن قوى الثورة في إدلب وحلب، وهي عدوه الأول، وبقدر ما يعزز سيطرته على محيط العاصمة فإنه يمد الشمال بمقاتلين. وأخيراً القوات الأجنبية التركية وقوات التحالف، وهي ما لم تتوقف دعاية النظام عن التلويح بطرده في نهاية المطاف، كما لم يغِب عن المسرحيات المصورة لبعض مجموعاته بإنشاء «مقاومة شعبية».
حرب النظام طويلة جداً، إذاً. وهو ما يغيب عن جمهور الثورة حين ينظر إلى هزائمه فقط، ولكنه لا يغيب عن جمهور النظام الذي يشعر أن عليه الاستمرار في تغذية هذه المعارك الكثيرة، الواحدة تلو الأخرى، بالذخيرة البشرية. ومهما قيل عن تململ حاضنة الأسد واستنزافها فإنها ما زالت مستعدة عملياً لتقديم التضحيات. لكن زجّ أبناء الثورة وسكان المناطق المنتفضة في المعركة ضد أنفسهم، بالمعنى الحرفي، جريمة أخلاقية إضافية تحسب على «حارقي البلد» الذين أعلنوا منذ البداية أن الأسد لن يغادر السلطة قبل الإجهاز على سورية، بعمرانها وسكانها.
تلفزيون سوريا