في تحقيق أجرته مؤخّراً محطّة “بي بي سي” البريطانيّة ونشرت نتائجه على موقعها، تبيّن أنّ قوى الإرهاب الجهاديّ والتكفيريّ تسبّبت خلال شهر واحد بموت 5042 ضحيّة، أي بمعدّل وسطيّ هو: 168 ضحيّة في اليوم الواحد.
التحقيق الذي امتدّ على 30 يوماً، وشمل 14 بلاداً، وغطّى 664 هجوماً وعمليّة حربيّة، خرج بنتائج بالغة الأهميّة ربّما كان أبرزها التالي:
– أنّ السكّان المدنيّين هم أكثر ضحايا العنف الدينيّ المسلّح لتلك التنظيمات. ففي نيجيريا مثلاً، قضى 700 مدنيّ، بينهم 57 طفلاً على الأقلّ، بينما لم يُقتل من الجنود وأفراد الطواقم العسكريّة سوى 28 شخصاً.
– أنّ العراق يحتلّ المرتبة الأولى في تقديم الضحايا، حيث قضى 1770 قتيلاً في 133 هجوماً، تليه بالترتيب العنفيّ نيجيريا فأفغانستان فسوريّا فاليمن.
– أنّ القوى الدينيّة المرتكبة للعنف تتدرّج في مراتب الارتكاب على النحو التالي: تنظيم “الدولة الإسلاميّة” (داعش)، ثمّ “بوكو حرام” في نيجيريا، تليها “طالبان” في أفغانستان وباكستان، فـ “القاعدة في شبه جزيرة العرب” لا سيّما في اليمن، ثمّ جماعة “الشباب” في الصومال.
والانطباع الأوّل الذي يخرج به من يقرأ المعطيات والأرقام هذه هو صواب النظريّة القائلة إنّ البلدان الغربيّة أصبحت بمنأى فعليّ عن تهديدات هذه التنظيمات. فبلدان العالم الإسلاميّ هي من يتلقّى اليوم الضربات الموجعة على يدها. ولا يقال هذا من قبيل الدعوة إلى توجيه العنف الإرهابيّ نحو البلدان الغربيّة، إذ أنّ عملاً كهذا لا يقلّ إجراماً عنه في البلدان الإسلاميّة. بيد أنّ ما تكشفه تلك الحقيقة هو تهافت الحجّة التكفيريّة في ما خصّ الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواجهة “أعدائهم” من “الصليبيّين الكفّار”. وهذا ناهيك عن تبديد المزاعم الانتصاريّة الجوفاء حول تركيع الغرب وأمريكا وما سوى ذلك.
ذاك أنّ التنظيمات المذكورة التي ولدت من رحم الفشل في بناء دول ناجحة ومجتمعات على قدر من التماسك، إنّما ترفع هذا الفشل المزدوج إلى مستوى الاستحالة والانسداد الكاملين. أمّا عملها هذا فيصطبغ بالكثير من دماء “إخوتنا في الإسلام”.
والحال أنّ العنف لا بدّ أن يكون ملازماً لهذا المشروع الذي يهبّ في وجه الطبيعة والزمن، منقلباً على كلّ ما تمّ التعارف على اعتباره معاصراً. فالإيديولوجيّ المتزمّت لا يهمّه الإستيلاء على السلطة وكفّ أيدي خصومه عن التأثير، بقدر ما يهمّه تغيير عقول الناس وقناعاتهم العميقة، فضلاً عن تغيير أنماط حياتهم التي تنعكس فيها العقول والقناعات. لهذا السبب نرى أنّ العامل الثقافيّ يضطلع، في دعوات الحركات التكفيريّة، بدور لا يضطلع بمثله أيّ عامل آخر، سياسيّاً كان أم اقتصاديّاً أم غير ذلك. يكفي القول إنّ حركة كـ “بوكو حرام” جعلت من مكافحة “التعليم الغربيّ” علّة وجودها، بينما استأثر وضع برامج تعليميّة بديلة وهدم التماثيل وقمع الفنون بقدر ملحوظ وأساسيّ من اهتمام تلك الحركات جميعاً.
وقد سبق لكاتب هذه الأسطر أن سمع قصّة معبّرة من معارض إيرانيّ لنظامي الشاه والخميني، نجح لاحقاً في الهرب إلى أوروبا. فقد ذكر المعارض أنّه قضى في سجون الشاه سبعة أعوام ولم يقض في سجون الخميني إلاّ ستّة أشهر. غير أنّه ما لبث أن أضاف: لكنّ كلّ يوم في سجن الخميني أقسى من سنة في سجن الشاه. وحين سألته عن السبب، رأى أنّ الشاه لم يكن معنيّاً بتغيير العقول، بل كان همّه وهمّ نظامه تعطيل قدرة المعارضين على الإزعاج، وهذا ما يتكفّله حجزهم في الزنزانات. أمّا في عهد الجمهوريّة الإسلاميّة فأصبح المطلوب تغيير الطريقة التي يفكّرون بموجبها وينظرون إلى الأمور. ذاك أنّ القاعدة التي يعمل بموجبها الإيديولوجيّ المتزمّت، أكان خمينيّاً أم داعشيّاً، تُختصر بالتالي: فكّروا مثلنا أو موتوا.
موقع 24
