فوكو ليس فايسبوكياً/ روجيه عوطة
ميشال فوكو على “فايسبوك”. الأصدقاء يتشاركون المقابلة المصورة، التي أجراها معه فون ألدرز في العام 1971، تحضيراً لحواره الشهير مع نعوم تشومسكي. فللمرة الأولى، يُنشر هذا الفيديو على “يوتيوب”، قبل أن ينتشر على الصفحات الزرقاء. لكن، هل يقبل فيلسوف “مجتمع المراقبة والمعاقبة” أن يكون بوستاً في كتاب الوجه؟ هذا ما يحيلنا إلى ما كتبته الباحثة ليا بيراس عن علاقة صاحب “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” بالموقع الأزرق، طارحة ً استفهامها حول إن كان ميشال فوكو سيفتح حساباً فايسبوكياً خاصاً به، لو لم يمت في العام 1984. ذلك، بالإنطلاق من تفكره في الإجتماع العنكبوتي على مستويين، الأول، ، متعلق بآلية الإعتراف في الفايسبوك، والثاني، مرتبط بعلاقات السلطة الحاضرة داخله.
نعترف ولا نتحرر
من الممكن التقريب بين تقنية الإعتراف، التي نظر إليها فوكو على أنها طابع المجتمع الإنضباطي، والنشر البوستي، الذي يمارسه المستخدم في بروفايله. إذ لا يتوقف الفيسبوكيون عن ملء جدرانهم بالعبارات، والصور، والفيديوات، كاشفين عن شؤونهم اليومية، واهتماماتهم الخاصة تحت أنظار “الأصدقاء”، استناداً إلى مقولةٍ حاضرة خلف الفعل البروفايلي، الذي يجدوا فيه ضرباً من ضروب التعبير عما يدور في خواطرهم. والحال، أن النشر هنا يشبه الإعتراف إلى حد بعيد، وقد يكون امتداد لممارسته في الواقع، بحيث أن المنضبط، الذي يصفه فوكو بـ”المُعترف”، يستمر في “قول الحقيقة” عن نفسه في أغلب الأماكن العموم والخصوص، أكان “في مؤسسات القضاء، والطب، والتربية، وفي العلاقات العائلية، والروابط الحبية”، لا سيما أن لهذا القول جذراً راسخاً، يمتد من طقس إعتراف بالخطايا أمام الكاهن في الكنيسة إلى الإقرار بالإرتكابات أمام الشرطي، وبينهما، وطوال الوقت، أمام الذات والآخرين.
فالإعتراف يتيح لممارسه أن يندمج في نمط إنتاج خطابي، عليه، يصنع ذاته ربطاً بتأويل “قول الحقيقة” من قبل الغير، الذي يصغي إليه في الواقع، أو في الإفتراض. تماماً، مثلما يحدث على “فايسبوك”، الذي يرسو نمط إنتاج الروابط فيه على آلية النشر، أو تقنية الإعتراف، بحيث أن المستخدم يدخل في علاقة مع ذاته، التي يفبركها بوستياً، ومع الغير، الذي يتلقى ما يقرأ ويسمع ويشاهد على جدار “صديقه”. بالتالي، يصير الإقرار المتواصل سبيلاً إلى “التذييت” أمام الآخر، الذي يتعامل، أو “يتفاعل”، مع “الصديق” وبوستاته كموضوع تأويلي.
ذلك، أن النشر لا يؤدي إلى صناعة ذات الفايسبوكي فحسب، بل أنه يحوله إلى موضوع معرفي، يفسره الغير، بوصفه سلطة مفترضة، بحسب معايير التصنيف والدلالة. يساعده في هذا الفعل، أن المشترك غالباً ما يسكنه هاجس النشر، معتقداً في الغالب من الأحيان بضرورة “قول الحقيقة”، التي إذا لم يكتبها أو يصورها، تكون السلطة قد منعته عن “النطق” بها. فـ”حرية الرأي والتعبير”، التي تشكل الخلفية السببية للنشر، أو بالأحرى الإعتراف الفايسبوكي، ليست سوى فخ ، يقع فيه المشتركون، بإماطة اللثام عن خصوصياتهم، بالظن أنهم “يعبّرون” عما تقمعه السلطة، وتقصيه. إلا أن خطابهم، الذي يتألف بالإعتراف، هو الفضاء، الذي تجرهم السلطة إليه، مفبركة ً إياها، وظاهرة ً فيه، من خلال الربط بين الإقرار، وتذييت المرء، ومن ثم تغييره إلى موضوع بياني، تضبطه، وتتحكم به. في هذا السياق، لا يعود النشر البوستي تعبيراً حراً، بل سقوطاً في شرك المكبوت، كأن “قول الحقيقة” هو نفي للحقيقة نفسها.
بانوبتيك أزرق
يساهم المكان الفايسبوكي في الربط والتحويل السلطويين. ففي حال مقارنته مع “البانوبتيك” (panoptique)، أي السجن، الذي وجد فوكو أنه الشكل الهندسي الأكثر إختصاراً للمجتمع الإنضباطي وتعبيراً عنه، من الممكن الوقوع على وجه شبه قاطع بين الإثنين. فداخل “الفايسبوك”، كما في السجن البنثامي(نسبة ً إلى مصممه جيريمي بنثام)، الكل يراقب الكل، بحيث أن “الصديق” يلاحق “صديقه”، راصداً تحركاته البوستية واللايكية، بالإضافة إلى تحققه من تعليقاته. إذ أن عين الآخر مسلطة على المستخدم دائماً، حتى لو كانت على العكس التام، وهذا ما يدفعه إلى ضبط سلوكياته، أو تحسينها بحسب التفاعل المفترض وقوعه من جانب “الأصدقاء”. وفي الوقت نفسه، يتحول المشترك، بدوره، إلى مراقب أيضاً، فتنتقل السلطة من عين إلى أخرى، حتى تؤلف شبكة علاقاتها، التي تنتج خطاب الإعتراف وتتطابق معه.
عليه، ينطوي الإجتماع في البانوبتيك الأزرق على فعلين، التجسس والهذيان. فالفايسبوكي يتلصص على “أصدقائه”، ويتوهم بأنه مراقب باستمرار، تالياً، لا يأتي على حركة من دون النظر في عين الآخر، والهجس في كيفية تفاعلها معه. في هذا المطاف، يتضاعف اعترافه أكثر، لدرجة تسجيله كل رغباته، وأفعاله اليومية على جداره، صانعاً بذلك أرشيفه، الذي يشكل قسماً من “ملفه المفتوح” لدى المراقِب. كأن ذاتيته، أو فرديته ليست سوى طريق السلطة نحوه. والأخيرة لا يمكن حصرها بالإفتراض، بل أنها حاضرة في الواقع أيضاً، باستغلالها المعلومات المنشورة على البروفايل، والتي تقدر من خلالها أن تتعقب المرء، وتبلغ مكانه. فهي ما عادت تقتفي أثره، أو تتحقق من بصماته، تاركة ً له هذه المهام، كأن المستخدم، وقبله الفرد، قد أخذ على عاتقه مسؤولية تعقب ذاته، وإجراء التحقيق معها، بغاية “تحريرها”، أي ضبطها. وذلك، داخل مكان مقسم بطريقة محددة، فـ”لكل فرد محل، ولكل موضع فرد”، أو بقاموس آخر، “لكل مستخدم جدار، ولكل جدار مستخدم”.
قد لا نشعر بحضور السلطة البانوبكتية في “فايسبوك”، لكن، انعدام شعورنا هذا، بالنسبة لفيلسوف “الكلمات والأشياء”، هو امتداد للامرئيتها وصمتها. هي تضبط المستخدمين بلا أن تحدث أي جلبة، وبدون أن تصدر أي صوت، يدلنا على قمعها. يكفي أنها تتيح المجال الخطابي للمستخدمين كي يعترفوا بخصوصياتهم داخل مكان محدد بتصميمه، من أجل أن تتكئ على بروفايلاتهم، وتتركز أكثر فأكثر. من “قول الحقيقة” إلى تأويله، ومن التذييت الفردي إلى إحكام القبض، تستحوذ السلطة على فضاء الإفتراض، الذي نلجأ إليه هرباً من الواقع، بحسب المقولة-الخرافة الشائعة، وحين نصله نباشر بالإعتراف، أي بتمهيد السبل لوصولها.
كأننا عندما ننشر “ستاتوس”، ونعلق، و”نليِّك”، تحل السلطة فينا، وتنوجد قبلنا. فهل نتوقف عن عرض حالنا، ونعلن فوكوياً أن البوست الحقيقي هو البوست الذي لم ينتج عن إقرار، ولم يثر إعجاب أحدهم؟ هل بوستاتنا الحقيقية هي التي لن نكتبها، أو لم نقدم على كتابتها بعد؟ ثم، هل هناك فعلاً “بوستات حقيقية”؟
المدن