في الانتقائية والتلفيق: أوليفر ستون نموذجاً/ عبدالله أمين الحلاق
تداول الكثيرون مؤخراً، عبر رسائل تطبيق «واتس آب»، الكلمة القصيرة التي تحدث بها المخرج والسيناريست الأميركي أوليفر ستون، والتي تناول في جزء منها السياسة الأميركية في العالم في عهدي ترامب وأوباما، موجهاً الإدانة إلى الجمهوريين والديموقراطيين. وختمَ ستون حديثه الذي استمر لمدة ثلاث دقائق بجملة توجه فيها إلى «الكتّاب الشبان في أميركا»، وهو يحضّهم على «قول الحقيقة» وعدم الكتابة «وفق ما يريده الجمهور» قائلاً:
«حاوِل أن تجد المعنى الحقيقي لوجودك على هذه الأرض، ولا تتراجع عمّا في قلبك».
يُحيل الكلام الذي ذكرنا بعضه أعلاه، وبالمعنى المجرّد والنظري، إلى رؤية سياسية وثقافية واعية لكارثة السياسات الأميركية في العالم «على مدى الــ30 عاماً الماضية»، وفق قائله. وهو يحمل في ختامه رسالة قوية تحض على قول الحق والدفاع عنه من دون مواربة في ما يتعلق بالسياسة، وبالحياة بشكل أعمّ وأشمل. ينبغي الاعتراف بأن الفيديو إياه لفت نظر معارضين سوريين جذريين وفقاً لمحموله وفحواه، وقد وصل إلى كاتب هذه السطور من صديقين منهم. وكنتُ واحداً من الذين أعجبوا به في بداية المطاف، لتقصير منّي في الاطلاع على أعمال ومواقف سياسية للمخرج المذكور، قبل الانتباه إلى أنه أحد «البافلوفيين»، وفق تعبير الصديق سلام كواكبي، والذي نبّهني أثناء حديثنا عن كلمة أوليفر ستون، إلى الفيلم الوثائقي الذي سبق أن أعده صاحب تلك الخطبة «الإنسانية» العصماء، وهو فيلم تمجيدي وتبجيلي لشخص فلاديمير بوتين. هكذا، كان لا بد من البحث والتمحيص في الموضوع.
قال المخرج الأميركي في مقابلة معه، على هامش عرض الفيلم الوثائقي، أنّ «فلاديمير بوتين هو الابن البارّ لروسيا الاتحادية». من هنا، ومن هذه الجملة، يمكن التقاط بداية الخيط الذي سيفضي في النهاية إلى تأكيد تهمة «البافلوفية»، إذا تخيلنا أننا أمام لجنة مستقلة ذات ضمير حيّ من المحلّفين والمتابعين. والبافلوفية، هنا، هي ذلك المنعكس الشرطي الذي لا يعرّف الصراعات ولا يعترف بها وبالحق في خوضها إلا إذا كانت مع «الاستعمار» و «إسرائيل»، وهذه الأخيرة هي «مخلب قط» للأول في منطقتنا، بحكم العبارة الرائجة في ديارنا منذ الخمسينات وحتى اليوم.
الازدواجية في موقف ستون، وبعيداً من طرح كل الموضوع في ما يتعلق به شخصياً كنموذج غير فريد في هذه المسألة، هي ما يمكن أن يكون مناسبة متجددة للحديث عن الرسائل والمواقف الأخلاقية والإنسانية بالعبارات المنمقة التي لا تخلو من «تفلسف»، وهي تخفي بين سطورها انحيازاً إلى قطب عالمي صاعد اليوم، هو روسيا، في مواجهة القطب التقليدي الذي كان واحداً في وقت مضى، أي الولايات المتحدة. وخصوصاً، مع ما أتاحته الساحة السورية المشتعلة من عودة روسيا إلى المشاركة في رسم مستقبل المنطقة بعد غياب طويل عنها.
الموقف المبدئي يُلزم صاحبه وقائله بعدم الانتقائية، وبالاتّساق في الموقف من القتل، والإجرام، ومن دعم أنظمة كالنظام السوري من جانب الروس، ودعم دولة مثل إسرائيل من الولايات المتحدة. لكن البديهيات التي تضيع في عالم اليوم تُفسح المجال أمام ما يعمل بعضهم على جعله «بديهيات» و «مُسلّمات» مضادة، نقيضة للبديهيات الأولى، بحيث يكون الانحياز إلى روسيا فلاديمير بوتين بالتزامن مع انتقاد وشتم أميركا هو «المبدأ» وفق معايير «مثقفين نقديين»، من أميركا إلى سورية، وما بينهما من دول وأشباه دول.
وهذا سيقودنا، بطبيعة الحال، إلى «الأوليفرستونيين» السوريين والعرب الذين امتلأ الكون بضجيجهم مع إعلان ترامب عزمه نقل سفارته إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، من دون كلمة منهم عن المقتلة السورية التي كان «الابن البار لروسيا الاتحادية» واحداً من رموزها وممن ارتكبوا فيها ما ارتكبوه، دعماً لبشار الأسد.
ثمّة نكتة شهيرة راجَت بشدة أيام الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق، تتلخص في حوار بين مواطن أميركي ومواطن من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي. إذا يبدأ الأميركي حديثه بالقول: «نحن في أميركا نستطيع أن نقف عند جدران البيت الأبيض ونشتم الرئيس الأميركي». فيرد عليه ذلك المواطن السوفياتي المنكود الحظ بالقول: «ونحن أيضاً، نستطيع أن نقف عند جدران الكرملين ونشتم الرئيس الأميركي».
واستطراداً، يستطيع ملايين الأميركيين أن يوجهوا الاتهامات إلى حكومتهم ورئيسهم، لكن الأمور لا تبدو بهذه السهولة في روسيا اليوم، وإن انهار الاتحاد السوفياتي، على رغم قول أوليفر ستون في أحد تصريحاته: «أنا لم أشاهد في الرئيس الروسي ذلك الشخص الذي يوعز بقتل خصومه من السياسيين والصحافيين، أو الشخص الذي حصل على ثروات طائلة بفضل منصبه».
المكان والجغرافيا يحددان إمكان أو عدم إمكان إعلان الموقف في كثير من الحالات، خصوصاً إذا كان المكان حيزاً أمنياً تهيمن عليه سلطات مستمدة من أيام المنظومات التوتاليتارية الكبرى في العالم. أما سورياً، وفي ما خص المكان، فإنه من المفهوم ألّا يبادر معارضون سوريون يعيشون اليوم داخل سورية وفي ظروف بالغة القسوة، إلى إعلان موقف واضح وعلني من رأس النظام السوري، وذلك حفاظاً على ما تبقى لهم من إمكان للحياة داخل البلد. إلا أنه من غير المفهوم، والحال على ما هي عليه، أن يكون هناك «معارضون» في بلدان عربية وأوروبية شتى يكررون الآليات والمضمون الخطابي الذي اعتمده المخرج الأميركي في التعاطي مع روسيا ونظام بشار الأسد من جهة، ومع أميركا وإسرائيل من جهة ثانية. المنهج «الأوليفرستوني» في السياسة وفي الثقافة هو التعريف المباشر والأدقّ للممانعة، وليس أي موقف لهذه الأخيرة من إسرائيل ومن أميركا فقط، من دون سواهما.
مع الفترة القادمة والطويلة جداً، والتي ستشهد سيطرة لأقوياء العالم وحلفائهم المحليين، ومع احتضار الحق والأمل الذي بشّرت به الثورات العربية، ستكون هناك مجالات أكبر ومنابر ومساحات أعرض لخطابات ومقالات كثيرة تكيل المديح للأقوى ولــ «السيد». ثقافة البلاط باقية وتتمدد.
* كاتب سوري
الحياة