في العلاقة بين المجتمعين المدني والسياسي (*)
الدكتور عبدالله تركماني
بادئ ذي بدء، يتعين القول: إنّ التقابل بين الدولة والمجتمع المدني، بوصفهما كيانين منفصلين، هو تقابل خطر على الدولة والمجتمع، سواء بسواء. إذ أنّ دراسة المجتمع المدني لا يمكن أن تتم بمعزل عن الدولة وتطورها ودستورها وقوانينها، ذلك لأنّ ظهور الدولة ونشأتها، بالمعنى الحديث، وتضخم أجهزتها الإدارية وتعدد مسؤولياتها وتنوع بيروقراطيتها، قد ترك تأثيره على المجتمع المدني.
إنّ إشكالية الدولة وأسئلتها قد تكون من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي العربي المعاصر، خاصة أنّ أغلب الدول العربية شهدت تضخماً واضحاً لأجهزة السلطة الأمنية وانحساراً لمؤسسات المجتمع المدني. فإلى أية درجةٍ يستطيع المرء أن يلقي بكل اللوم على الاستبداد السياسي لتفسير هذه الظاهرة ؟ وإلى أية درجة يمكن الادعاء بعدم وجود مجال لعملٍ اجتماعي وثقافي ؟ وهل يجب أن يسبق المجتمع المدني وجود الدولة أم أن وجود الدولة هو الذي يؤسس لقيام هذا المجتمع ؟
مؤشرات الحكم الرشيد
يعتبر الحكم الرشيد أحد توجهات العصر في عالم السياسة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وقد اكتسب شرعية متجددة في حقول علم الاجتماع والسياسة مع نضوج ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، وأصبح طموحاً وشاغلاً إنسانياً على الصعيد العالمي، فتوفرت في هذا المجال اقتراحات متعددة لمعايير الحكم الصالح تقاس نماذج الحكم على سلّم قيمها، كما أصبح من الشائع مسارعة أنظمة عديدة إلى إعلان مقاربة ذلك الأنموذج في بعض ممارساتها. فهو يُبنى على ركائز أساسية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والفاعلية، والإنصاف. ومن المؤكد: أولاً، أنّ توفير الركائز السابقة لا تكتمل إلا بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وفسح المجال أمامها لمراقبة أجهزة الحكم ومؤسساته وتقويمها ومحاسبتها. وثانياً، أنّ الحكم الرشيد لا يعني إضعاف دور الدولة بل يعني تغيير دورها، خصوصاً في بلداننا، فعندما يسعى منظور الليبرالية المتوحشة لإضعاف دور الدولة، بدعوى تقوية السوق وإطلاق آلياته الفعّالة، تتحول الليبرالية إلى عائق أمام الديمقراطية، ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة.
الدولة هي ملكوت الحرية
وفي الواقع لا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد/المواطن في هذا المجتمع. وإذا كان المجتمع المدني، في فلسفة التنوير، هو مجتمع المصالح المادية ومجتمع المصالح الخاصة، فإنّ الأفراد/المواطنين في الدولة هم من يعنيهم بالأساس تحقيق تلك المصالح.
إنّ التنكر للدولة باسم المجتمع المدني قد يصبُّ في مصلحة الأنشطة الدولية المصاحبة للتحول إلى اقتصاديات السوق عالمياً، وما ينتج عن ذلك من انسحاب تدريجي للدولة من دورها الرعائي والخدماتي لمصلحة الشركات المتعددة الجنسية. وبالتالي فالقبول بإحلال المجتمع المدني كبديل عن الدولة ليس إلا وهماً جديداً، لا يختلف في جوهره عن الوهم السابق الذي سيطر على بعض النخب العربية بعد الاستقلال والمتمثل بالتعويل على التنمية الوطنية من خلال فصل القضية الاجتماعية عن القضية الوطنية.
ومن جهة أخرى، من الخطأ النظر إلى الدولة بمنطق التماهي أو المماثلة مع الحكومة، أو مع غيرها من المؤسسات. إنّ التمييز بين الدولة وغيرها من الأجهزة المندرجة في إطارها، أو المعضِّدة لعملها، أمر في غاية الأهمية، لفهم مضمون الدولة وتمثّلها من جهة، ولترشيد الفعل السياسي والمدني من جهة أخرى. فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، ومنبثاً في ثقافتنا السياسية، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في منطقتنا العربية.
ومن اللافت للنظر أنّ الدولة التي دخلت مرحلة الأفول في الغرب، لا تزال مطلباً ضرورياً في الحالة العربية، بوصفها مرجعاً وخياراً للعمل المجتمعي المؤسسي، وتقع على عاتقها مهمة بناء الهوية المجتمعية القوية في بلداننا ذات التكوينات الهشة، التي تتقاذفها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية وقبلية، وتخطّي تبعات البنى والتكوينات المجتمعية الضيقة، إلى جانب حماية الفرد من بطش سلطة الدولة القمعية والشمولية وسطوتها.
في ضرورة قيام مجتمع مدني مستقل
يخترق تعبير المجتمع المدني اليوم الشعارات والبرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان المتقدمة والنامية على السواء، ويُعتبر إحدى الوسائل في مواجهة طغيان سلطة الدولة وسبيلاً لتحقيق حرية الفرد. ويتعاظم دور هذا المجتمع في كل مرة يصبح فيها الشأن العام أكثر التصاقاً بأمور مطلبية مباشرة، هادفة ومشروعة.
هذا المجتمع المدني، الذي أثبت في محطات متكررة انه أكثر وعياً من السلطة التي تحكمه، كيف له أن يؤثر على هذه السلطة وكيف له أن يحملها، بوسائل الضغط المشروعة، على تبنّي مشروعه أو على القبول به كمدخل للنقاش في اتجاه شراكة حقيقية بينها وبينه ؟
إنّ ما يتوافق عليه الجميع، كون مؤسسات المجتمع المدني مستقلة عن مؤسسات الدولة، وغير خاضعة لسلطتها، وتمارس دوراً متعدد الجوانب، يبدأ بالسياسة لجهة الرقابة ومتابعة ما يصدر عن سلطة الدولة في ميادين متصلة بحقوق الإنسان والحريات السياسية والفكرية والإعلامية، إلى مهام اجتماعية وتنموية، وقضايا تتناول هموم المواطن. لكنّ حدود الفاعلية والقدرة على التدخل تبقى شأناً آخر له علاقة بطبيعة السلطة القائمة ومدى سماحها بحرية ممارسة هذا التدخل.
المجتمع المدني والعولمة
وفي الواقع، يكاد المجتمع المدني الحديث في المجتمعات العربية يدين في وجوده بشكل رئيسي لظاهرة العولمة، التي أدت إلي إدخال تغييرات على خريطة المجتمع المدني في العديد من الأقطار العربية، حيث نلاحظ أنّ أساس هذه الخريطة في المجتمعات العربية، حتى نهاية سبعينيات القرن العشرين، كان منظمات شعبية تعبّر عن مصالح فئات اجتماعية معينة كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والمنظمات النسائية والشبابية، أو منظمات غير حكومية دفاعية، أو جمعيات أهلية خيرية وثقافية واجتماعية تقدم لأعضائها خدمات متنوعة كما تقدم خدماتها للفئات الضعيفة في المجتمع، أو أندية رياضية وثقافية واجتماعية تشبع احتياجات أعضائها لأنشطة متطورة في هذه المجالات، وكذلك الجمعيات التعاونية.
لكن العولمة جاءت معها بقضايا جديدة ومشاكل جديدة، مثل: حماية البيئة من التلوث، والفقر، والهجرة واللاجئين، وضحايا العنف، والسكان الأصليين، والمخدرات، والإرهاب، وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية. ولأنّ منطق العولمة يستبعد قيام الدولة بدور أساسي في مواجهة هذه المشكلات فإنها شجعت على قيام منظمات غير حكومية للتعامل معها، كما أنّ نشطاء المجتمع المدني سارعوا، في كثير من الأقطار العربية، لتكوين منظمات غير حكومية للتعاطي مع هذه المشكلات والتخفيف من حدتها.
وتستحوذ إشكالية المجتمع المدني، منذ ثمانينات القرن الماضي إلى الآن، على جانب أساسي ومركزي من الخطاب السياسي العربي المعاصر، الذي وجد فيه مخرجاً من المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حُشرت فيه الحكومات العربية. فقد طرح المفهوم على خلفية الانتقال إلى مجتمع الحداثة، مجتمع الدولة العصرية المؤسساتية على أنقاض المجتمعات القبلية والعسكرية والتسلطية. إلا أنّ طرحه جاء ملتبساً وإشكالياً ومتناقضاً، إذ تعددت الرؤى والتصورات بشأنه، إن لجهة نشأته التاريخية وأصوله ومنطلقاته الفلسفية، أو لجهة معناه ومضمونه وامتداداته الاجتماعية والتاريخية.
إنّ شرعية وجود المجتمع المدني مهمة من حيث وظيفته الاعتراضية السلمية، ذلك أنّ توسّع فكرة المجتمع المدني فتح باباً لدخول شركاء جدد في الحياة العامة لا يشكلون خطراً على الأنظمة القائمة، لكنهم يرصدون ويراقبون ويحتجون ويعترضون ويقترحون بدائل عما هو قائم، ولا يريد التدخل بالسياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، لكنه لا يلين بالدعوة إلى الإصلاح والتغيير.
وإذا كان ما يميّز مؤسسات المجتمع المدني في الغرب أنها أصبحت قوة ضغط على الحكومات لاتخاذ القرارات، ولاسيما في بعض الميادين، حتى باتت الحكومات لا تتخذ أياً من القوانين أو القرارات دون التشاور مع المجتمع المدني، فإنّ البلدان العربية لا تزال تطمح للاعتراف بها أولاً، ومن ثم سماع رأيها فيما يتعلق بالبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها ثانياً، ناهيكم عن تعزيز كياناتها المستقلة ثالثاً.
إنّ مجتمعاً مدنياً، على أساس المواطنة والمساواة والتعاقدية والتطوعية يسعى لتفعيل حق المشاركة، يمكن أن يسهم في عملية التنمية المستدامة بحيث يصبح قوة اقتراح وشراكة مع الدولة والقطاع الخاص.
خطر تماهي المجتمعين السياسي والمدني
حيوية مؤسسات المجتمع المدني تفقد دلالاتها عندما تتماهى مع المجتمع السياسي، أو اشتغالها ضمن النظام القائم وعدم المسّ به. ويعود سبب التمييز بين المجتمعين المدني والسياسي، أنّ الأخير يسعى إلى الهيمنة على المجتمع المدني، محاولاً التأثير على واقعه ومستقبله. إذ أنّ غالبية النخب السياسية الحاكمة في البلدان العربية تتخذ موقفاً سلبياً من الدعوة إلى إحياء أو تقوية المجتمع المدني، وتتصوره مقتصراً، فقط، على جملة من المنظمات غير الحكومية التي تقف في وجه الدولة. وتنظر إليه بعين الحذر وتضعه تحت المراقبة وتواجهه بألوان شتى من المضايقات، وتشكك بولائه الوطني. وما كان للدولة التسلطية أن تفلح في ذلك لولا ما سماه المغفور له الدكتور خلدون حسن النقيب ” الاحتكار الفعال لمصادر الثروة والسلطة والقوة “، وما يقتضيه من احتكار الحقيقة والوطنية.
إنّ مقاربتنا لمفهوم المجتمع المدني تنطلق من/وتتأسس على فرضية التعارض والتضاد بين المجتمع المدني وتعبيره السياسي الدولة الوطنية الديمقراطية من جهة، والمجتمع الجماهيري وتعبيره السياسي الدولة التسلطية ذات الطابع الشمولي من جهة أخرى. وذلك لاعتقادنا بأنّ هذا التعارض هو التعارض الرئيسي الذي يحكم سائر التعارضات الاجتماعية والسياسية الأخرى، في المجتمعات التي تعاني من مثل هذه الدولة، لاسيما أنّ الدولة التسلطية تقوم على تدمير مختلف الفئات الاجتماعية، وإلغاء جميع أشكال التضامن الاجتماعي داخل كل منها وفيما بينها، وتحوّل المجتمع إلى سديم بشري، أو إلى ” جماهيـر ” أو كتل من أفراد سلبيين ومنعزلين وخائفين، أو لا مبالين تقوم بين كل منهم، بصفته الشخصية، وبين السلطة علاقات خطية مباشرة، قوامها الإرهاب والخوف، أو الاستتباع والولاء، لا تنتج سوى الفرار من السلطة أو الفرار إليها، وتطغى على حياتهم قيم الوشاة والمخبرين، بقدر ما يطغى الطابع الأمني على مؤسسات الدولة وآليات عمل السلطة، وبقدر ما تتحول السلطة إلى نسق مولّد للعنف الذي ينتج الجلادين والضحايا والمخبرين.
وما كان للدولة التسلطية أن تحقق ذلك لولا الاحتكار الفعّال لمصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع، ومن ثم فإنّ لإحياء المجتمع المدني ثلاثة مداخل ضرورية: أولها، كسر احتكار سلطة الدولة، وتعزيز طابعها الديمقراطي ووظائفها الاجتماعية. وثانيها، إلغاء طابعها الجزئي، أي إلغاء كونها دولة الحزب، أو دولة النخبة أو دولة الطغمة أو دولة أي عصبية من العصبيات. وثالثها، إلغاء طابعها الأمني.
ومن جهة أخرى، ثمة إجماع مفاده أنّ العالم العربي يشهد وجوداً للمجتمع المدني، وإن كان بشكل متفاوت بين بلد وآخر، وأنّ مؤسسات هذا المجتمع تتفاوت في فاعليتها بين دولة عربية وأخرى، وفق درجة التطور السياسي والاجتماعي وحدود الحريات القائمة والجاري ممارستها. وواقع الحال يعيدنا إلى المربع الأول في موضوع المجتمع المدني العربي، وكيفية استعادته دوره في البلدان التي جرى استبعاد المجتمع فيها وإخضاعه لشروط السلطة السياسية كما في الأنظمة الشمولية، أو تطوير دور المجتمع المدني في البلدان التي احتفظت أو طورت هامشاً لنشاطات المجتمع المدني وجماعاته، وهذا ما يقودنا إلى المفصل في عدم تقدم المجتمع المدني ومنظماته على طريق قيامه بمهماته، وهو نمط العلاقة التي تحكم المجتمع ومنظماته بسلطة الدولة. فإن كانت السلطات لا تزال رهينة فكرة الحجر على المجتمع ومنعه من التعبير عن نفسه، أو الحد من حراك المجتمع وجماعاته، فمن البديهي عدم حصول أي تقدم في دور المجتمع المدني، وإبقاء الحال على ما هو عليه، خصوصاً لجهة تعميق الانسدادات القائمة، وهذا الأمر يبدو ظاهراً وواضحاً في واقع عدد من البلدان العربية. غير أنّ السماح بحراك المجتمع ومنظماته المدنية في أي مستوى كان، قد لا يغيّر من النتيجة السابقة ولا يبدلها، إذا كان ذلك الحراك غير مرتبط بسياسة إيجابية وتفاعلية من جانب السلطة.
نحو شراكة المجتمعين: هل يمكن تجاوز أزمة الثقة ؟
إنّ شراكة المجتمع المدني مع الحكومات تحتاج باستمرار إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر ببعض جوانب العلاقة، وما اعتراها في السابق من سلبيات ومن إهمال أحياناً أو محاولة للتدجين أو لامتصاص النقمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ما يُراد لها في الحاضر والمستقبل خصوصاً إذا وضع المجتمع المدني أهدافاً محددة وأولويات واضحة: ماذا يريد من الحكومات ؟ وهل يمكن تجاوز أزمة الثقة ؟ وأية علاقة يتعين أن ترتسم بين المجتمع والدولة، من أجل تجاوز حالة الخلل ؟
إنّ تجسير العلاقة بين السلطات والمجتمعات المدنية المحلية هو خطوة ضرورية من خطوات الإصلاح المنشود، وتبدأ عملية التجسير بالاعتراف بحق هذه المجتمعات في الوجود من خلال إطلاق حرية تكوين الجمعيات والأحزاب والنقابات وتحرير وسائل الإعلام من كل أشكال الاحتكار. ثم فتح الحوار مع الممثلين الشرعيين للمجتمع المدني، وإشراكهم في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وصياغة السياسات العامة.
ولكن ثمة شروطاً حاسمة لعلاقة صحية بين الدولة والمجتمع المدني: أولها، المجتمع المدني لا ينشأ من ضعف الدولة أو تراخيها أو استقالتها أو تفسخها. المجتمع المدني، في تحديده الحديث، هو وليد قوة الدولة، من أجل الموازنة معها، ومنع تسلطها والرقابة على حركتها، وتحديد ميادينها وصلاحياتها. وثانيها، المجتمع المدني لا يمكن أن يحل محل الدولة، بفعل اختلاف الوظائف جذرياً. وثالثها، أنّ افتراس الدولة للمجتمع يؤدي إلى دولة تسلطية، كما أنّ تحلل الدولة يؤدي إلى الفوضى.
وهكذا لا يكون من مآل للدعوة إلى الحد من الدولة سوى زوال الدولة، يقال ذلك ويُفعل باسم النضال الديمقراطي والمدني من دون الانتباه إلى أنّ الدولة الوطنية القوية والراسخة هي البيئة السياسية الحاضنة للتطور الديمقراطي والمدني، ومن دون الانتباه إلى الخلط الفادح، الذي نقع فيه، بين معنى الدولة ومعنى النظام السياسي.
والعيب هنا ليس في منظمات المجتمع المدني الحريصة على الحوار والتعاون، وإنما في عديد الأنظمة التي لا تزال رافضة لصيغة الشراكة، لأنها ترى في ذلك تهديداً لصلاحياتها وتحديداً لنفوذها، فالأنظمة التي ترفض تقاسم السلطة بالمفهوم الواسع لكلمة السلطة، سيبقى يزعجها وجود منظمات غير حكومية تتحرك خارج السيطرة والاستتباع.
إنّ وضع قواعد واضحة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في البلاد العربية أمر ممكن، إذا صدقت النوايا وتوفرت الإرادة السياسية. ولهذا يجب طرح العلاقة الجدلية بين سلطة الدولة والمجتمع المدني من خلال رؤية جديدة لا تتأثر بسلبيات الماضي وتكون مجرد رد فعل لتاريخ تسلط الدولة ومصادرتها لنشاط المجتمع المدني وقواه الحية. وتلك الرؤية الجديدة تستدعي طرح العلاقة الجدلية بين السلطة والمجتمع المدني، من خلال تصور واضح لطبيعة ومهام الدولة. إذ ليس هناك أي تعارض بين دولة الحق والقانون ومؤسسات المجتمع المدني، بل أنّ دور كل منهما يكمل الآخر. فالدولة القانونية لا تلغي مؤسسات المجتمع المستقلة عنها، إنما تساعد على تفتحها. ومؤسسات المجتمع المدني تساعد الدولة في القيام بمهماتها، لأنه هو الإطار السليم لتطور البنية الاجتماعية الدينامية.
ولا شك أننا في سباق مع الزمن والخيارات باتت أمامنا محدودة، والمطلوب من الجميع السرعة في اتخاذ قرار شجاع ووحيد وهو خيار الدولة القوية والعادلة، فهي القادرة على حماية مواطنيها والحفاظ على كرامتهم وممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية في ظل سيادة القانون بحيث يخضع له الحاكم والفرد على حد سواء، وينعم الجميع بعدالته إذا ما روعيت المناهج السليمة والموضوعية في فرض أحكامه.
وفي الحالة العربية، فإنّ الأولوية تقتضي إعادة السياسة إلى المجتمع، بما يضمن ويمكّن الجمهور العام وقواه الحية من الدخول في الحوار، وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، بصبر وروية، والابتعاد عن الشعارات الطنانة، كي نقترب من جوهر السياسة القائم على الاستعداد للتفاعل والتبادل والتسويات، من خلال عقد الاجتماعي مبني على إرادة جماعية عليا، على جميع أفراد المجتمع احترامها وقبولها والانصياع لها. ويقتضي ذلك الموافقة الضمنية والصريحة على كل بنود وعناصر العقد الاجتماعي المبرم الذي يضمن الحقوق المدنية والواجبات مع احترام حقوق الآخرين.
وفي إطار الإصلاحات أيضاً يتعين تطوير نظام فصل السلطات ومراقبة بعضها البعض، إذ لا يجب لمؤسسة بعينها أو شخص مهما كان أن يستحوذ على سلطات كبيرة كما هو الحال بالنسبة للجهاز التنفيذي الذي يتمتع بصلاحيات متضخمة في معظم أرجاء العالم العربي، وبالموازاة مع ذلك يتعين تطوير الجهاز التشريعي وضمان استقلال القضاء، لأنه بالجهازين معاً يمكن ضمان فصل السلطات وعدم تغوّل إحداها على الأخرى، وهو ما سيقلص من آفة الفساد المستشرية.
خاتمة
وهكذا، لن يستطيع العرب الخروج من تأخرهم الحاضر دون إيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر ومعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تستطيع فيه جميع مكوّنات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته. نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، ويتم تداول السلطة فيه بطريقة حضارية وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري دون اللجوء إلى قعقعة السلاح و المهاترات الكلامية.
ولاشك بأنّ عوامل التطور والتغيير السريع والثورة التكنولوجية، وبالتالي توفر الاتصالات السريعة والمعلومات والإعلام بكافة أشكاله، عمل على إحداث التغيير الكبير في حياة الناس خاصة الشباب، و الذي أصبح أكثر علماً ووعياً وله مطالب لا يستطيع أحد أن يوقفه عن المطالبة بها. ناهيك عن خروج النساء لطلب العلم والعمل وازدياد مستوى مشاركتهن في مؤسسات المجتمع المدني بكل أشكالها نتيجة لكفاحهن ولتقلص تأثير المعوّقات الحضارية والثقافية والتي كانت تعيق مساهمتهن في التنمية، وأثر ذلك على النمط الأسري ومستوى وعي أفراده.
وعليه لا بد من الحكم الرشيد كمطلب أساسي في إدارة الدولة، بتعزيز الشراكة ما بين القطاعات الثلاثة العام والخاص والمجتمع المدني. والأهم من كل ذلك محاربة الفساد وتنشيط دور المجتمع المدني ليقوم بدوره الرقابي والمساءلة في حال التقصير أو العبث بالمال العام وبالتالي المصلحة العامة.
تونس في 21/10/2011 الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(*) – نُشرت في مجلة ” العربي ” الكويتية – العدد (638) – يناير/كانون الثاني 2012.