في تفاهة ثوراتنا المضادة/ عمر قدور
لا يخفى اليوم وجود ميل إقليمي ودولي للتحكم التام بارتدادات ثورات الربيع العربي، هذا التوجه الذي يزداد وضوحاً تتويجٌ لمسار دُشّن مع انقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ثم مع تحويل الأوضاع في اليمن وليبيا إلى حربين داخليتين لا أفق لهما. العراق، الذي كان حكمه مهدداً باندلاع ثورة، سرعان ما أُحكمت السيطرة عليه بذريعة داعش، وأُعيد إلى الحظيرة المشتركة بين طهران وواشنطن. القضية السورية ربما كانت الأعقد بسبب تنازع القوى الإقليمية والدولية، وأيضاً بسبب صعوبة إخراج النظام من مأزقه ما دام هو وحلفاؤه يرفضون الخروج منه.
في هذه الغضون هناك كلام كثير عن الثورات المضادة، البعض رأى في بروز الإسلاميين نوعاً من ثورة مضادة، إما حصدت نجاح الثورة في بعض البلدان أو استبقت نجاحها في بلدان أخرى فتسببت في فشلها. بينما يرى البعض الآخر في مجمل النظام الإقليمي وتحالفاته الدولية العقبة الأساسية أمام التغيير، وهذا النظام الذي تعرض لهزة قوية مع اندلاع الثورات استجمع قواه، وعاد ليقود ثورة مضادة ترجع بالمنطقة إلى ما كانت عليه قبل سبع سنوات.
في مصر، على سبيل المثال، بُرّئ حسني مبارك من تهمة قتل المتظاهرين، ولم يخضع نجلاه اللذان كان يتحكمان في الحياة العامة السياسية والاقتصادية لمساءلة قانونية تليق باستغلالهما السلطة. في ليبيا تم الإفراج عن سيف القذافي الذي كان يُنظر إليه كخليفة محتمل لوالده، وفي اليمن ما يزال الرئيس المخلوع على عبدالله صالح يلعب دوراً بارزاً يفوق تأثير خلفه. أما في سوريا فيبدو تنظيم الدولة الأسدية مرتاحاً أكثر من أي وقت مضى، بما أن الجهد الدولي منصب على محاربة داعش، وكل ما يُقال عن تقاسم لمناطق النفوذ يعني شيئاً واحداً هو عدم تهديد معاقل الأسد الحالية، لا الآن ولا في المدى المنظور.
مجمل اللوحة يشجع على الظن بأن الثورة المضادة تحقق نجاحاً مطرداً، بعد فشل الثورات في تحقيق أهدافها، أو بعد قدرة النظام القديم وتحالفاته على تحطيمها. إلا أن هذه الخلاصة يشوبها الكثير من التسرع، والكثير من قياس الواقع على مقولات نظرية لا يجري التدقيق فيها. فالثورات المضادة في المقام الأول ليست شأناً خارجياً، ولا تُعتبر الوصايات الخارجية من سماتها، ويُفترض بها أولاً التعبير عن قوى مجتمعية تنتمي إلى النظام القديم، وتضررت “أو في سبيلها إلى التضرر” من قيام الثورات عليها.
وإذا كانت معطيات العصر الحالي قد خلخلت مفاهيم الداخل لجهة اختراقه خارجياً فهذا لا يعني انعدام الحد الفاصل مفهومياً، مثلاً دفاع طهران وحزب الله وموسكو عن تنظيم الأسد لا يمكن اعتباره ثورة مضادة بأية حال، مثلما لا يمكن النظر إلى الحوثيين في اليمن هكذا. الأهم أننا في هذه الحالات جميعاً أمام الانقضاض النهائي على الدولة والمجتمع، وأمام فئات تهدف إلى سحق فئات أخرى، لا بالمعنى السياسي وإنما بالمعنى المادي أيضاً. أي أن غاية ما يُنظر إليها كثورات مضادة اليوم هي إعادة النظام القديم، بعد تفريغه تماماً من كافة إمكانيات التغيير مستقبلاً.
وعلى رغم ما يشوب مصطلح الثورة المضادة من سمعة سيئة إلا أنها في الأصل تعبير محقّ عن الصراع المجتمعي، تبرز أحقيته خاصةً من تعلم درس الثورات والاستفادة منه، وتالياً عدم عودة النظام القديم كما هو، وإنما عودته بعد استيعاب حاجة المجتمع إلى التغيير. الثورة المضادة، بهذا المعنى، جزء من عملية مساومة تاريخية ضمن المجتمع نفسه. وإذا كانت الثورة تطلعاً راديكالياً إلى التغيير فالثورة المضادة تأتي مسلِّمةً بحد أدنى من التغيير، وهو الحد الذي يضمن التوسط بين المصالح الاجتماعية المتضاربة. بتعبير آخر، تعمل الثورة المضادة على إزالة أسباب الثورة، وهذا بالتأكيد مختلف تماماً عن اجتثاث الشرائح الاجتماعية التي قامت بها على أمل عدم تكرارها.
يتقدم المجتمع بموجب الثورات؛ هذا جزء من الرواية المبسّطة التقليدية، أما في الواقع فالتقدم عملية لا تسير إلى الأمام دائماً، وثمة ميل معهود للتخلص من راديكالية الثورات بعد انتصارها، أو لجعلها مطابقة لمحصلة المصالح الاجتماعية. في هذا السياق يمكن النظر إلى الثورة المضادة كجزء من حركة تاريخية تمضي قدُماً، حتى وهي تنكفئ أحياناً. فشل الثورة، أو النجاح في الإجهاز التام عليها، يضمر غياب الثورة المضادة لصالح الإبقاء على النظام القديم، وغالباً الإبقاء عليه على نحو أكثر وحشية مما سبق، لأن هذه الوحشية هي التي ستعوّض انقضاء زمنه تاريخياً.
إذا تجاوزنا تلك الرؤية الرحبة، ونظرنا إلى ما بات يُعرف بثوراتنا المضادة، فسنرى تلك التفاهة التي عاد بها النظام، وكأن الدرس المطلوب استيعابه هو الترحّم عليه كما كان قبل الثورات. دعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة لم يكن سوى حلقة من أجل الوصول إلى هذه النتيجة المطلوبة، وهو دعم على الضد من أية محاولة مطلوبة لتعزيز الاعتدال في المجتمع، لأن الاعتدال يتطلب مصالحة مجتمعية ليست من اهتمامات الذين دفعوا المجتمع إلى الثورة.بهذا المعنى أيضاً لا تمثّل الحركات الإسلامية الراديكالية الثورة المضادة، لأنها مثل النظام الذي أنتجها تهدف إلى الانقلاب على المجتمع، وليس في حسبانها إطلاقاً الاستفادة من درس الثورات لتعزيز الاعتدال الذي تقتضيه الصراعات والمساومات الاجتماعية الصحية.
وأن يكون عنوان إعادة إنتاج النظام القديم “الحرب على الإرهاب” فهذا عنوان لا يحمل أي مشروع مستجد يستحق لقب الثورة المضادة لاعتبارين، الأول أنه عنوان مخادع يبتغي الاحتماء بمنظومة الحرب الدولية على الإرهاب، والثاني يتلخص في أن البنية المنتجة للإرهاب غير كفيلة بمحاربته ما دامت هي نفسها لم تتغير. يزيد فوق ذلك ما يُتداول مؤخراً عن قيادة الثورة المضادة في المنطقة من قبل شيخ طامح، لم يجد له مستشاراً أفضل منشخصية مخابراتية لفظتها السلطة الفلسطينية على علاتها، ليمكن القول بأن مجمل النظام الإقليمي من التردي بحيث يحرمنا حتى من وجود ثورات مضادة بالمعنى المحترم قليلاً للكلمة.
المدن