في غرفة الانتظار/ رشا عمران
قبل أيام، رافقنا، شقيقتي وأنا، والدتي إلى مستشفى في ضواحي باريس الجنوبية لإجراء عمل جراحي بسيط لها. لدى وصولنا، تولت شقيقتي متابعة إجراءات الدخول، كونها الوحيدة بيننا التي تتكلم الفرنسية، ثم تم إدخال والدتي إلى غرفة العمليات، وبقينا نحن في غرفة الانتظار. كنا نشاهد المرضى الذين سيخضعون لعمليات جراحية، يأتون فرادى، يتابعون إجراءات دخولهم، ثم يسلمون أنفسهم للعاملين هناك، ويدخلون من الباب الواسع في انتظار دورهم في العملية. نادرا ما كان أحدهم برفقة أحد، وإنْ كان ثمة مرافق لمريض، فإنه ينتظر معه حتى دخوله إلى غرفة العمليات، ثم يغادر المستشفى إلى أشغاله، من دون أي ملمح لقلق أو لخوف. كان الأمر مستغربا بالنسبة لي قدر استغراب العاملين في المستشفى من انتظارنا، شقيقتي وأنا، والدتي في غرفة الانتظار، فبرأيهم أننا قلقتان بلا سبب، وأنه لا معنى لانتظارنا حيث نحن.
قلت لشقيقتي: قولي لهم إننا قادمتان من بلادٍ تذهب فيها العائلة والأصدقاء جميعا إلى المستشفى، لمرافقة عزيز ما في محنته المرضية. ولا يمكن لمريضٍ أن يُترك وحيدا هكذا إلا إذا كان متشرّدا، أو مقطوعا من شجرة. فكّرت، خلال مدة الانتظار، بهذا السلوك الجمعي المشرقي، هل السبب أننا أكثر ترابطا في علاقتنا الإنسانية، العائلية والاجتماعية، من الغرب؟ لوهلةٍ كنت سأقول: نعم، هذا هو السبب، غير أن الأمر ليس كذلك. ثمّة ثقافة اجتماعية مختلفة هنا، لا تشبهنا في شيء، ثمّة درجةٌ من الاستقلالية في السلوك الاجتماعي اليومي، تكاد تكون شديدة الغرابة علينا، كأبناء مجتمعات مختلفة، استقلالية محترمة من الجميع، ويتم الاشتغال على تكريسها منذ الطفولة، لينشأ الشخص، وهو يمتلك قدرا كبيرا من الحرية، تتيح له أن يختار ما يشاء من الأفكار والمعتقدات، من دون فرضٍ من أحد.
هذه الاستقلالية، بقدر ما هي معنوية ونفسية، هي مادية أيضا، إذ ثمّة في هذه المجتمعات ما يمكّن الشخص من الاكتفاء المادي الذاتي، من دون الاعتماد على أحد. ثمّة قيمة للفرد بذاته ولذاته، بغض النظر عن جنسه ولونه أو معتقده. وثمّة احترام لخصوصيته وحريته الفردية التي تشكل جزءا من الحريات العامة في المجتمع. هذه الخصوصية والاستقلالية قد نراها نحن برودا عاطفيا، وضعفا في الترابط الأسري والاجتماعي، لكنها تنتج مجتمعاتٍ صحيةً ومعافاةً أكثر من مجتمعاتنا بكثير. نحن أبناء مجتمعات مريضة، وعلاقات مريضة، نحن لم نبلغ بعد مرحلة الفطام الاجتماعي. ما زلنا اتكاليين في كل شيء، والأصعب أننا نُكبنا بأنظمةٍ فاشلةٍ اشتغلت على تكريس الإعاقة في بنية مجتمعاتنا، وأفقدتنا تقدير ذواتنا بوصفنا أفراداً، وأفقدتنا أماننا النفسي الذي نعتقد أننا نجده في الارتباط المرضي العائلي والقبلي.
ما علاقة ذلك كله بالمستشفى، وبسلوكنا الجمعي في حالة المرض؟ هل ما نعتبره علاقةً عائليةً دافئةً يجعلنا نفعل هذا، بينما برود علاقات الغرب يجعل سلوك أفرادها مغايرا؟ ببساطة لا، ليس هذا هو السبب فقط. في الغرب، هناك ميزة التأمين الصحي التي تضمن لأي مريض العلاج في مشافي مجهزة بكل وسائل الرعاية والأمان الطبي، بحيث لا يحتاج المريض إلى مرافقٍ ما معه، فلن يعاني، لا هو ولا أحد من عائلته، من أي قلق بهذا الخصوص. الجميع مدركون أن المريض سيحظى بالرعاية اللازمة والكافية حتى شفائه وخروجه من المستشفى، بينما يذهب المريض في بلادنا إلى المستشفى، وهو يودع عائلته ومحبيه، وكأنها المرة الأخيرة التي يراهم فيها، إذ يعرف هو، ويعرفون هم، أن العناية بالمريض تتناسب طردا مع مكانته الاجتماعية وحالته المادية، وأن مجرّد ذهاب المريض، من دون مرافقين له، إلى المستشفى، يعني بالضرورة تعرّضه لإهمالٍ ما قد يودي بحياته، أو قد يجعله نزيلا دائما في المستشفيات، فالنظم الفاشلة تنتج أيضا خدماتٍ تشبهها، فاشلة مثلها، وهو ما لن يتغير، طالما بقيت النظم نفسها، أو بقيت آليات تفكيرها نفسها! كنت أفكر كيف يمكن أن نشرح كل هذا للممرضة الفرنسية التي تستغرب قلقنا، أنا وشقيقتي، لأن والدتي تأخرت عن موعد خروجها من غرفة العمليات ساعة واحدة فقط.
العربي الجديد