في ميزان التراكم: رصاص الأضاليل وقطرات دم الشهداء
المثنى الشيخ عطية
في آراء البعض، وبغض النظر عن دوافع هذه الآراء، ترد مقولة وجوب انتظار وعود النظام السوري بالإصلاحات، وترد إلى جانبها مقولة الخوف من الفتنة التي روّجها النظام بصنع عصابات مندسّة تبين للعالم مدى فشل الإعلام السوري في إخفاء أنها بلطجية النظام التي تسمّى في سورية بـ “الشبّيحة”.. والحقيقة هي أننا مهما حاولنا من قراءة تعويذات ومن تبخير لمنح النظام السوري فرصة أشهر بعد الأحد عشر عاماً من وعد الأسد في قسمه الدستوري أمام مجلس الشعب، والتي تراكم فيها الفساد والاستبداد إلى درجة الغليان، فإن الأمر كامن في الواقع السوري الذي يخضع لقوانين الطبيعة والتاريخ شئنا ذلك أم أبينا…
في الكيمياء وتفاعلات العناصر في الطبيعة يتحول الماء كمثال عن تحولات المادة بتراكم كميات درجات الحرارة التي تعطى له من الحالة السائلة إلى الغازية في الدرجة مائة، ودائماً لا قبلها ولا بعدها، ولا يمكن تأجيل وصوله إلى هذه الدرجة إلا بتنفيس ضغط التراكم من خلال صب كميات من الماء البارد تؤجل وصول الحرارة إلى منتهاها/ الغليان، لحظة صفر التغير النوعي.. وهذا القانون المسمّى بـ “التراكم الكمي يؤدي إلى تغيّر نوعي” هو أحد قوانين الديالكتيك التي تحكم الطبيعة، وحياة المجتمعات الإنسانية كذلك وفقاً لكارل ماركس، وإن بدرجة متشابكة ومعقدة أكثر بتعقّد الإنسان.
وفي التاريخ، في آمالنا بحدوث اللحظات التاريخية حيث يبلغ التراكم ذروته، يحدد التاريخ مسيرته ومفاصل انعطافاته بالثورات التي لا يمكن إيقافها، لكن ليس بميكانيكية ما يحدث في الكيمياء إذ أبطلت الرأسمالية بتنفيسها لوصول التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج حدّه الأعلى توقّعات كارل ماركس بحدوث الثورة في بريطانيا على سبيل المثال…
لحظات الثورات الديمقراطية العربية ضمن مسيرة التاريخ واستحقاقاته التي لا تردّ، تحددت كما يبدو، حيث بلغ تراكم الشعور الصارخ ذروته لدى كل شعب في البلدان العربية على اختلاف درجات التطور بأن نظامه أوصل البلاد ووضع أجيالها على عتبة مفرمة الموت، وبات على الأمة أن تطلق دفاعاتها من أجل الحياة…
عربة خضار البوعزيزي، التي تدحرجت ناراً في اشتعال جسده، كانت كما يبدو إحدى ابتكارات الأمة في توليد التراكم، الذي أوصل كميات الفساد والقهر وإذلال الناس وانسداد مستقبل أجيالهم أمامهم من قبل النظام الديكتاتوري التونسي إلى القشة التي قصمت ظهر بعير الصبر وضغطه الهائل، ودحرجت عربة خضار النار إلى ما لا يمكن لنظام مهما كان استبداده وخداعه وقفه…
وفي سورية الدامية، التي تراكم فيها القهر منذ انقلاب الثامن من آذار، وفرض قوانين الطوارئ وتكريس الحكم الديكتاتوري المطلق بالحركة التصحيحية، ومرارة فقد السوريين انتصارهم على الإسرائيليين في تشرين باتفاقيات الفصل، مع مرارة رؤية جولانهم المحتل يتحول إلى مستوطنات إسرائيلية، دون أي فعل من قبل النظام لتحريره، مع تدمير الحياة السياسية بشق الأحزاب وتشكيل جبهة وطنية كاريكاتيرية من المنشقين عنها، وتدمير الأجيال بـ “طلائع البعث” لتصنيع أجيال من المعاقين الهتافين ببلاهة للديكتاتورية، وخلق شرخ بين الشعبين السوري واللبناني، وتفتيت المقاومة الفلسطينية، وقمع انتفاضة الشعب السوري الوطنية الديمقراطية في عهد الأسد الأب في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بحجة مواجهة الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين وارتكاب مجازر في كل مدينة سورية أشهرها حماة، لإرهاب الشعب السوري، وتلويث الجيش السوري بإفساده وصنع ضباط لصوص وأفاقين لايتورعون عن سلب المجندين ما يرسله لهم أهلهم من قوت يقاومون به الجوع ورداءة طعام الجيش، ومشاركة أمريكا حربها الأولى على العراق، وسلب نفط سورية، ومقدراتها الزراعية وتقحيطها مع تدمير بناها الاقتصادية من قبل مافيات النهب والفساد، وجرائم هجرة الكفاءات السورية، واعتقال كل من يصرّح برأي حرّ، مع تدمير البنية المدنية للمجتمع السوري بشكل ممنهج من خلال الممارسات الطائفية، وخلق نعرات الكراهية بين الريف والمدينة، وتدمير الطبقة الوسطى، وهزّ أمان الناس بسلب وتبخير مدّخراتهم المتوارثة.. ثم ارتكاب إثم التوريث في جمهورية اشتراكية بتغيير الدستور المفصّل على حجم الديكتاتور الأب ليسع الإبن خلال دقائق من قبل مجلس مزور باسم مجلس الشعب، ثم وعود قَسَم بالإصلاح ترجمت إلى زيادة في الفساد وامتهان كرامة البلاد، وسجن أنبل مثقفيها وسياسييها وحقوقييها، شباباً ونساءً وشيوخاً، بأحكام لم يحدث وصول مهزلة إلى درجة انحطاطها الأخلاقي، من قبل قضاة يعملون خدماً لدى أجهزة المخابرات، مع ارتكاب جرائم قتل بحق المواطنين السوريين الأكراد المحرومين من الجنسية…
في سورية الدامية التي تراكم فيها امتهان كرامات السوريين وغليان القهر في صدورهم، ليصل إلى ذروته بصفعة من شرطي على وجه شاب بمنطقة الحريقة في دمشق، بقشة تقصم ظهر بعير الصبر وتخرج السوريين بمظاهرة يرفع فيها شعار سورية البالغ التعبير: “الشعب السوري ما بينذل”.. وصل إلى حافة الغليان مع سجن المخابرات السورية لستة عشر طفلاً من مدينة درعا، ومع ضرب نساء وقفن باحتجاج سلمي أمام وزارة الداخلية تضامناً مع أهالي معتقلي الرأي المضربين عن الطعام، وسحل بعضهن في الشارع، وسجن عشرة منهن ضمن اثنين وثلاثين معتقلاً من المحتجين، ثم القشة الأخرى بعد محاولة تنفيس ثقل القشة الأولى بما لايمكن تنفيسه: إطلاق النار الفوري من قبل الأمن ثم الفرقة الرابعة والأمن على أهالي مدينة درعا الخارجين بمظاهرة سلمية تطالب بإطلاق سراح أطفالهم وبقية المعتقلين السياسيين، ثم إطلاق النار على أهالي الصنمين واللاذقية وحمص ومعظم المدن والبلدات السورية، والاستخفاف بعقول الناس بمسرحيات هزلية سقيمة يفبركها مستشارون وضيعون لايثق بهم أحد لما يحدث بأنه عصابات وقوى خارجية مندسة، مع صب ماء بارد يتحول هو الآخر إلى ماء حار في التراكم بوعود سقيمة أخرى بالإصلاح، وليبلغ التحوّل ذروته بخروج الرئيس في النهاية بخطاب يحمل: “سبعة أضاليل لا تطمس قطرة دم واحدة” وفقاً للكاتب الباحث السوري صبحي حديدي في مقاله الكاشف بعمق عن خداع النظام السخيف واللامجدي للشعب، ويراكم القهر والإذلال كماء ساخن توهّم من صبّه أن يكون بارداً لتنفيس التراكم إذ تكشفت وعود الإصلاحات للشعب السوري بأنها تغيير لأقنعة النظام وبعنجهية كونها أشدّ قبحاً وفساداً وأن قانون الطوارئ الذي يزمع النظام إلغاءه سيوضع بقناع أبشع باسم قانون أمن الوطن ومكافحة الإرهاب، مع استمرار خداع الشعب بإعلام ذليلٍ معاق حتى بالتضليل، وإهانة المسلمين بتصدير نفاق شيوخ دين محتالين مثل محمد سعيد البوطي، الذي وصل به فقدان الضمير إلى أن يُرجع بتبريرات خرقاء خروج السوريين للتظاهر السلمي، وقتل شبابهم من قبل الأمن إلى غضب الربّ على رؤيتهم مسلسلاً خاوياً لنجدت أنزور!، مع تشديد القبضة الأمنية الرهيبة كحلّ وحيد أمام النظام يترجمه بالاعتقالات والقتل وإعداد المسرحيات المشوِّهة لتظاهر الشعب إياها باختراع عصابات مندسة. كما يتكشف للسوريين أن “بنية النظام المستعصية على الإصلاح” وفقاً لتعبير صبحي حديدي ليس لها من حلّ إلا طريق التغيير: إلغاء مواد الدستور التي تبقي على تحكم القبضة الأمنية برقاب الناس، وتمنع تداول السلطات، وترهن القضاء للسلطة والفساد، وأن يكون هذا بالحوار مع الشعب وقواه المعارضة لا بقوانين تصدر من سلطة ألّهت نفسها وأفرغتها من صفة الكائن الإنساني، وباتت تحدّد للسوريين حتى في عز انتفاضتهم من أجل الحرية واهمةً كيف ومتى يتنفسون…
التراكم الكمي للقهر بقطرات دم الشهداء الثقيلة على رقاب القتلة، والذي أضاف إليه السوريون صمودهم الطويل، واحتفاظهم بذكرى شهدائهم وكلمات رموزهم في السجون وفي المنافي، مع تربية شبابهم خارج معلبات سردين النظام وخداعه، على احترام الوطن واحداً لا يتجزأ بجميع أديانه وطوائفه، والتضحية في سبيله، يصل شئنا ذلك أم أبينا إلى تغيّره النوعي، ويقود دون إرادة سوى إرادة الشعب وبآلية إبداع السوريين لثورتهم الديمقراطية خطاهم نحو الحرية.