قاسيون الصامت.. وجون ماكين
صادق عبد الرحمن
الغارة التي شنها الطيران الحربي الإسرائيلي كانت كفيلة بإسكات مدافع ومنصات صواريخ النظام الرابضة على سفح قاسيون، أقله إلى حين، تلك المرابض التي كانت تدك داريا وأحياء دمشق الجنوبية ومساحات واسعة من الغوطة الشرقية. ولكم كان هذا صدمة في وعي السوريين هناك، هل يمكن فعلاً لسلاح العدو أن يقينا بعضاً من الموت الذي يأتينا بسلاح الأهل؟ أي بؤس هذا الذي شعر به بعض السوريين يومها، لم يكن واحداً منهم يعتقد في أسوأ كوابيسه أنه قد يسرُّ بعمل عسكري يقوم به جيش الدفاع الإسرائيلي، لكن السرور المكتوم لم تكن لتخطئه عين تريد أن ترى الحقيقة.
ليس مفيداً تكرار القول بأن عنف النظام هو ما ساقنا إلى هنا، بل لعله سلوك تبريري لا معنى له، فلنعترف أن ما يجري يمكن أن يقود السوريين إلى إعادة تعريف العدو، ولنتذكر معاً أن الأعداء يتغيرون في السياسة، والحلفاء كذلك. على أي حال، فإن الغارة الإسرائيلية فتحت آفاقاً جديدة أمام السوريين جميعاً بصرف النظر عن دوافعها، وكانت نموذجاً لميزان القوى المختل بين السوريين بجيشيهم الحر والنظامي من جهة، وبين الغرب وحليفته إسرائيل من جهة ثانية، وكانت رسالة للجميع مفادها أن انظروا ما الذي يمكن أن تغيره القوة الغربية العسكرية الضاربة في موازين الصراع.
لم تستقبل المعارضة السورية بمختلف أطيافها أياً من الرسائل على ما يبدو، كان هذا واضحاً من تكرار الخطاب السخيف حول التحالف الخفي بين النظام وإسرائيل، ومن استمرارها في الصراع على الايديولوجيا والمصالح والمناصب والولاءات، ومن تكرار قسم منها لخطاب السيادة المنتهكة واستقلال القرار الوطني، فيما يمكن القول اليوم إننا على وشك توديع الدولة الوطنية السورية إلى الأبد.
يدخل السيناتور الأميركي جون ماكين الأراضي السورية للقاء قيادة الجيش السوري الحر، يدخلها بعد أن أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من نعي المعارضة السورية، وممثلها الأبرز الائتلاف الوطني السوري، الذي فشل في كل شيء، حتى في أن يكون ائتلافاً، يدخلها لا ليتنزه بكل تأكيد، يدخلها حاملاً مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وحاملاً ما يمكن له أن يساعد السوريين في إسقاط النظام، بما يحفظ مصالح بلاده قبل أي شيء آخر. لعل درس الغارة الإسرائيلية يجب أن يكون مفيداً هنا، لم تتدخل إسرائيل إلا لمصالحها، هذا صحيح دون شك، لكن مصالحها هذه أسكتت مرابض مدفعية قاسيون إلى حين.
هل يمكن لقيادة الجيش الحر أن تقوم بما فشل فيه الائتلاف، هل يمكن لها أن تلعب لعبة المصالح فعلاً وتكف عن الاستجداء ومحاولات الابتزاز الإنساني البائسة، التي لم تورث السوريين سوى الموت؟ لعل هذه الأسئلة ليست رهناً بالجنرال سليم إدريس ومن معه فحسب، بل هي رهنٌ بما قاله وسيقوله ماكين من جهة، وبأداء النخب السياسية والثقافية السورية من جهة أخرى. هذه النخب التي قد يكون خطابها عائقاً أمام قيادة الجيش الحر، في الاستفادة من فرصة، قد تكون الأخيرة، لتجنيب سوريا صوملةً طويلةً الأمد.
على أي حال، لا تزال المزايدات سيدة الموقف رغم كل هذا البؤس، ولا يزال الجميع يبكون السوريين المقتولين على قارعة الطرقات من دون بارقة أمل، ولا يزال كثير من المعارضين السوريين مصرين على ألا يروا في الغرب سوى شريكٍ في القتل لأنه لا يساعدنا، وكأن من واجب الغرب أن يساعدنا بلا أي مقابل. يقدمون، وهم يستجدون مساعدة العالم، خطاباً فصامياً غير مسبوق. إنهم أنفسهم أولئك الذين يسخرون من خطوط أوباما الحمراء، هم من يرفضون أي تدخل أميركي في الوقت نفسه، وإنهم أنفسهم أولئك الذين يسخرون من ميثاق الأمم المتحدة بوصفه صناعة استعمارية، يتوقعون من دول العالم أن تساعد السوريين لأن هذا الميثاق يلزمها بذلك، بينما يستمر قسم آخر من المعارضين التاريخيين وتلاميذهم غارقين في أوهام النضال السلمي، الذي لم يعد البحث في مدى جدواه ذا معنى أصلاً، فيما ينتشر السلاح في كل مكان.
لن يرحل الأسد من دون ليِّ ذراعه عسكرياً، هذا إذا كان سيقبل بالرحيل أصلاً. ومما لا شك فيه أن الجيش الحر والكتائب الإسلامية لا تمتلك القدرة على القيام بهذه المهمة بقواها الذاتية، ومما لا شك فيه أن قاسيون الذي غدا صامتاً إلى حين كان درساً قاسياً للجميع. ميزان القوى ليس في صالح أي من طرفي الصراع، هذه خصوصية الصراع الذي تخوضه الثورة السورية، وسوريا سقطت رغم أنفها في لعبة المحاور الدولية. هذا نتاج ضعفها وتموضعها التاريخي والجغرافي. بقي أن يتعلم السياسيون الدروس ويبحثوا عن طوق النجاة الأقل كلفة، الأقل كلفة للسوريين النازفين في كل بقعة من سوريا. ربما يحمل جون ماكين طوق النجاة هذا، وربما لا يحمله. لكن هذا ليس متوقفاً على ما يريده الأميركيون فقط، ذلك أن ما يريده وما يستطيع القيام به السوريون سيكون حاسماً هنا.