قبل مائة عام: ذلك المؤتمر العربي الاول
أحمد بيضون
تتمّ في هذا الشهر دورة مائة سنة على انعقاد المؤتمر الذي اصبح يسمّى “المؤتمر العربي الأوّل” في باريس. فيُطرح سؤال يتعلّق بمسوّغ الاستذكار: استذكارِ لقاءٍ يسعُ أيّ مركزٍ معتبر للأبحاث اليوم، متّصل بما يسمّى الجهات المموّلة، أن يعقد مثله بل أوسع منه في باريس، لا في غيرها، وعلى جادّة سان جرمان دو بري نفسها إذا لزم الأمر. وقد يسعه أن يجمع لهذا المؤتمر الجديد من هم أظهرُ أمراً من الصحافيين وأعيان المدن والطوائف ووجهاء المهاجر الذين جمعتهم قاعة الجمعية الجغرافية قبل قرن… اليوم لن يُعِدّ أحد نفسَه لتذكّر لقاء من هذا القبيل بعد عشرة أشهر، لا بعد مائة سنة… وهذا إذا وُجد من يرى فائدةً في عقده.
وأما الفارق بين حدث حزيران 1913 وحدث حزيران 2013 (إذا وُجد من يُحْدثه) فهو أن الأخير لن يجد دولة عثمانية متهالكة، مستغرقةً في دوّامة ثورة دستورية وفي حربٍ مصيرية ذات فصول، توجس من انعقاده وتسعى في البداية إلى استيعابه ثم تعمد، بعد ارفضاضه بحين، إلى شنق بعضٍ من أهمّ المشاركين فيه… ولن يجد المؤتمر الجديد المفترض عرباً يتّخذون اللامركزية عنواناً رئيساً لمطالبهم القومية. بل هو قد يقع على اللامركزية مطلباً يرفع هنا أو هناك في وجه العرب من جانب جماعات قومية أخرى ترزح عليها من عقود كثيرة مركزيةُ السلطة العربية. أو هو سيقع على اللامركزية نفسها طموحاً لجماعات استبدلت باللافتة القومية برمّتها ما هو أدنى منها: اللافتات الطائفية مثلاً. وهي قد وضعت في المحلّ الذي كانت تشغله قبل قرن مجابهةُ العرب والترك مواجهاتٍ متحرّكة ما بين الطوائف.
انعقد مؤتمر حزيران 1913 بعد أشهر من الإعداد في خضمّ تسارعٍ للتاريخ العثماني كان يُحسب فيه للأشهر حسابٌ غير قليل إذ كان يصعب أن يصمد الظرف السياسي الذي تُرسم فيه ملامحُ مشروعٍ من قبيل المؤتمر إلى حين تنفيذه فعلاً. والحقّ أن الظرف السياسي تغيّر كثيراً في الحالة التي نحن بصددها ما بين مباشرة الإعداد للمؤتمر وانعقاده فعلاً… ثم واصل الظرف طفراته بعد ذلك نحو حالٍ أصبح العنف والقمع أبرز سماتها، فيما انتقلت الحرب من تسلسل فصولها المتردّد على الأراضي الأوروبية للدولة وعلى ساحلها الإفريقي إلى طورٍ عالميّ أصبح يتناول وجود الدولة من أصله وذلك بعد سنة وبضعة أشهر من انفضاض المؤتمر الباريسي.
بين خريف 1912 وأوائل 1913، كانت الحرب البلقانية تأكل معظم ما كان قد بقي للدولة العثمانية من “ممالك” أوروبية. فتستكمل سيرة من التضعضع والخسارة استغرقت معظم القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. وهذا بعد انقضاض إيطاليا على سواحل بنغازي وطرابلس الغرب وقصف اسطولها بيروت في سنة 1911، بحيث انتشر إلى الولايات العربية الشعور بخطر الاجتياح الأوروبي وبعجز الدولة عن حماية أراضيها. كانت الجيوش المعادية قد وصلت إلى أبواب الآستانة إذ استولت على أدرنة، بوّابتها، واحتاج الأمر إلى معجزة ليستردّها جيش السلطان، حين بدا أن المهاجمين الأوروبيين موشكون على التذابح فيما بينهم حول جثمان “الرجل المريض” حالما يُسْلِم الروح. وكانت لندن التي حمت السلطنة طوال القرن السابق قد استضافت، في أثناء حرب البلقان الثانية هذه، مؤتمراً بدت مهمّته ترجمةَ نتائج الحرب على الأرض وفي موازين الدبلوماسية.
حصل هذا كلّه في أعقاب ثورة دستورية شهدها صيف سنة 1908 وتبعَتْها ردّة وارتداد على الردّة في السنة التالية وقد جعل القائمون بالثورة في رأس أهدافهم المعلنة حفظ سلامة الدولة واستعادة عنفوانها المتداعي، إلى الخروج من الاستبداد الحكومي بالعودة إلى الدستور وإلى ما يكفله من حرّيات ومن إصلاح مؤسّسي لهياكل السلطة.
كان العرب قد اغتنموا ظَرْفَ الحرب البلقانية، على التحديد، ليواجهوا بمطلب الإصلاح اللامركزي تباطؤَ التغيير في الوصول إلى ديارهم وما كانوا قد أخذوا يلمسونه لدى ضباط “الاتّحاد والترقّي”، القوّة المحرّكة للثورة، من نزعة تركية إلى الاستئثار حالت دون تحسين الشركة العربية في مؤسسات السلطة والدولة. وهذا في وقتٍ بدا فيه أن الدولة توشك أن تتحوّل من مجالٍ إمبراطوري متعدّد القومية إلى دولة ثنائية القومية تشهد نوعاً من التكافؤ الإجمالي، في أكثر من ميزان واحد، بين الأتراك والعرب.
اغتنم العرب ظرف أواخر العام 1912 وأوائل تاليه إذن ليشكّلوا هيئات إصلاحية موزّعة المراكز ولكنها متضافرةُ الأهداف وعلنيّةُ النشاط. وكان أسرعَها إلى البروز اثنتان: حزب اللامركزية الإدارية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت. وكان الأوّل من هاتين محصّناً باتّخاذه الملاذَ المصري مقاماً له. وأما الثانية فلم تلبث أن باءت بالحلّ بعد إعلانها برنامجها وهذا على الرغم من الغطاء الذي وفّرته لها المجالس الملّية إذ تولّت اختيار أعضائها بواقع اثنين عن كلّ من الملل المسيحية واثنين عن اليهود وما يعادل مجموع هؤلاء من الأعضاء للمسلمين. فكان أن بلغ العدد الإجمالي نيّفاً وثمانين عضواً اعتُبروا ممتّعين بقوّة تمثيل وطيد للمدينة. وهو ما لم يمنع حلّ الجمعية، على ما سبقت الإشارة إليه، بعد أن أطاحت ظروف الحرب وزارةَ الصدر الأعظم كامل باشا الثانية، وهي التي كان الإصلاحيون العرب يعوّلون على مجاراتها لهم وعلى قوّتهم في حزب “الحرية والائتلاف” المهيمن عليها. أطاح جماعة “الاتّحاد والترقّي” هذه الوزارة وجاؤوا بأخرى أعادت نفوذهم المتوجّس من المطالب العربية والأرمنية خصوصاً والمناوئ لمنحى الإصلاح اللامركزي. فكان أن تغيّر مناخُ الدولة والعاصمة كثيراً في أشهرٍ قليلة فَصَلت ما بين تأسيس الجمعية البيروتية والحزب القاهري والبدء بالإعداد للمؤتمر العربي في باريس.
لم يتجاوز عدد الذين اعتبروا أعضاء رسميين في المؤتمر خمسة وعشرين شخصية. كانت سورية مدار البحث فلم يتمثل العراق إلا بعضوين ألقى أحدهما كلمة قصيرة وأعلن الرئيس أن الشأن المصري غير مطروح للبحث. وكان وفد بيروت (بما هي مدينةٌ “سورية” وعاصمةٌ للولاية المسمّاة باسمها) أكبرَ الوفود إذ ضمّ ستة أعضاء. هذا فيما كان صوت الموالين للسلطات عالياً في دمشق وتعذّر على بعض من أبرز ممثّلي الإصلاحيين فيها السفر إلى باريس لأسباب مالية. ولم يحضر من حزب اللامركزية الإداري سوى عضوين، على الرغم من اعتماد المعدّين للمؤتمر هذا الحزب راعياً لمبادرتهم. وتمثّل في المؤتمر المغتربون من أصقاع شتّى وكان أبرز جماعاتهم تمثيلاً، بطبيعة الحال، سوريو باريس ولبنانيوها.
وقد رئس المؤتمر لاذقيّ هو عبد الحميد الزهراوي أحد الموفَدَين من جانب الحزب وعيّن كاتباً له البيروتي عبد الغني العريسي. وكانت اللجنة التحضيرية الثمانيّة قد توزّعت مناصفة ما بين المسلمين والمسيحيين، وكان هذا التوزيع محبّذاً في تلك المرحلة على ما بدا من تجربة الجمعية البيروتية. وفي الحالتين – حالة الجمعية وحالة المؤتمر – كان الموقف السياسي متبايناً على أساس طائفي. فكان الأعضاء المسيحيون أصرحَ ميلاً إلى المطالبة بحماية فرنسية لسورية لم يكن بعضهم يمانع في وصولها إلى حدّ الاحتلال. هذا فيما كان المسلمون يحصرون همّهم في “الإصلاح” اللامركزي ولكن لا يمانعون في استقدام خبراء أوروبيين يتولّون توجيه دفّة الإصلاح حيث يلزم. ومما تشي به مذاكرات الأعضاء المسيحيين في جمعية بيروت ثم في مؤتمر باريس مع وزارة الخارجية الفرنسية وقنصلياتها، يتبين أن اللغم الطائفي كان مزروعاً في المبادرتين وكان انفجاره محتملاً لو أفلحت أيّ من المبادرتين في الاقتراب من أفق التنفيذ.
هذا وكانت اللامركزية هي العنوان الكاسح للحركة كلها. وكان أهمّ معانيها اعتمادُ اللغة العربية لغةً للتعليم وللمعاملات حيث تكون كثرة الرعايا عربية اللسان وتوسيعُ صلاحية المجلس العمومي للولاية في مواجهة سلطة الوالي وجعلُ الخدمة العسكرية تجري في موطن المجنّد ما لم يستوجب نقلَه داعٍ ملحّ ومنحُ الولايات أفضليّةً في إنفاق الواردات المجبية منها ومنحُ المسلمين الحقّ في إدارة أوقافهم واستثمارها على غرار غير المسلمين… إلخ. ولم يكن هذا البرنامج يمنع المطالبة بتحسين الأنصبة العربية من الوظائف المركزية ومن التمثيل السياسي…
لم يحظ هذا البرنامج بتنفيذ عملي. استبَقَته الدولة بتشريعات اعتُبرت تمويهاً لرفضها إياه وكان أهمّها قانونُ الولايات الجديد. وقد سُلّمت مقرّرات المؤتمر إلى السفير العثماني في باريس وإلى ممثّلي الدول الكبرى ثم سافر إلى الآستانة وفد من المؤتمر لمفاوضة السلطات. وكان عبد الكريم الخليل، وهو المقيم في الآستانة أصلاً، طليعة الساعين لدى جمعية “الاتّحاد والترقي” في سبيل اعتماد المقرّرات ولدى عرب العاصمة لإقناعهم بما توصّل إليه بالمفاوضة. ولكن هذا كلّه لم يَجِدْ طريقه إلى التنفيذ.
مضى التاريخ، بعد المؤتمر، في مسيرته المتسارعة المفضية إلى المزيد من تضعضع الدولة العثمانية ثم إلى الحرب العالمية التي ستلحق فيها الدولة بالجانب الألماني مواجِهةً فرنسا التي كان ظلّها قد هيمن على مؤتمر باريس ومتخلّية، على الأخص، عن مودّة بريطانيا التي كانت قد حالت دون انهيار الدولة الكلّي طوال القرن التاسع عشر. وعِوَضَ اختبار الإصلاح اللامركزي صيغةً لبقاء الدولة جنَح النافذون في إستانبول لمزيد من المركزية ولمواجهة القوميات الناهضة، وأولاها العربية والأرمنية، بالعصبية الطورانية وبالعنف.
وبين ضحايا الديوان العرفي في ساحتي الإعدام البيروتية والدمشقية، علّق ما بين صيف 1915 وربيع 1916 كلّ من رئيس مؤتمر باريس عبد الحميد الزهراوي وكاتب المؤتمر عبد الغني العريسي والمفاوض باسمه عبد الكريم الخليل وعضو هيئته التحضيرية محمد المحمصاني وأحد أبرز خطبائه أحمد طبّارة ومع هؤلاء نفر من الذين بعثوا إلى المؤتمر بتأييدهم أو رغبوا في المشاركة فيه فلم يتيسّر لهم ذلك لسبب عارض. من هؤلاء الذين جهروا من بعيد بولائهم لأهداف المؤتمر، لقي كلّ من صالح حيدر وعبد الوهاب الإنكليزي ورفيق رزق سلّوم حتفهم على أعواد المشانق أيضاً. وإذا كان عدد الضحايا من بين المؤتمرين لم يتجاوز هذا الحدّ فلأن كثيرين من هؤلاء كانوا مقيمين في مصر، متمتّعين بالحماية البريطانية، أو في خارج الأراضي العثمانية فلبثوا بمنجاة من ديوان جمال باشا العرفي ومشانقه.
وفي كلّ حال، لم تلبث الدولة العثمانية برمّتها أن علّقت على أعواد هزيمتها في الحرب ومطامع المنتصرين. فأنشأت فرنسا وبريطانيا ما أنشأته من دول في سورية الطبيعية وصحبتا ما شهدته هذه الدول من أطوار. وتكفّلتا أيضاً برعاية الطوائف والطائفية وما اتّصل بهما من أزماتٍ صغيرة وكبيرة، من طورٍ إلى طور. وذلك إلى حين استقلال سورية ولبنان والأردن ونشوء دولة إسرائيل. وعلى التعميم، برزت في كلّ من هذه الدول، قبل استقلالها وبعده، عصبيةٌ طائفية أو قوميةٌ غالبة رزَحَت بثقلها على غيرها من الجماعات. وكان الذين ورثوا إصلاحيي الهزيع العثماني الأخير، من العرب على الخصوص، أوّلَ من تَسبّب في بقاءِ حديث اللامركزية أو ما يجري مجراه سائراً على ألسنة الراغبين في الإصلاح واليائسين من إمكانه.