قصص سورية على خطى ابن المقفع/ هيثم حسين
يحاول القاص السوري أحمد عمر في مجموعته القصصية الجديدة “هدهد في زجاجة” مقاربة جانب من أصداء التهجير والتشريد والتدمير الذي يعاني منه الشعب السوري في الداخل والخارج، وذلك من خلال التقاط تفاصيل تمزج بين المأساة والملهاة بطريقة ساخرة، تصل إلى حدّ النيل من الذات أحيانا، وذلك في تصعيد للقص إلى مرتبة التقريع والدفع إلى الامتلاء بمشاعر المرارة والأسى بالترافق مع الابتسامة السوداء التي تظلّ متخلّلة القص.
يختار عمر لمجموعته، التي اختيرت في اللائحة الطويلة لجائزة الملتقى الكويتية المخصصة للقصة القصيرة في دورتها الأولى، عنوانا فرعيا “صبوات في القصّ والنصّ”، ويظهر أثره من خلال معانيه الظاهرة والمضمرة، فالصبوة تشير إلى جهل الفتوة والميل إلى اللهو، كما تشير إلى الحنين والاشتياق، وتكون صبات الريح هبوبها شرقية، ويختزن ما يصبو إليه المهاجر من حنين وشوق إلى وطنه، وتطلعه لأمسه وحاضره وغده، وما يعانيه على هامش ضياعه وتشتته كأنما ريح تذروه وتبعثر ما يمكن أن يشكل له مستراحا ومقاما.
واقع الشتات السوري
يقسم صاحب “مقصوف العمر” مجموعته إلى قسمين، يحكي في القسم الأول حكايات من واقع الشتات السوري، قبل الثورة وبعدها، والتشويه الذي كانت تعتمده المخابرات وتنهجه لتدمير البنية الاجتماعية للبلد، وما شهده وعاينه وعاشه ككاتب من ذاك التشويه الذي وصل إلى حد أمره بالمنع من الكتابة، وهي وسيلة قتل مؤجلة للكاتب، وحكم بعذاب دائم لمن تكون الكتابة عالمه وملاذه.
تكون القصص في مجموعة أحمد عمر، الصادرة عن دار نون السورية، غازي عنتاب بتركيا 2017، حاملة للوجع الذي يعيشه أبطالها ويستشعرونه ويمضون به إلى مآسيهم اللاحقة المتجددة، ويكون الهجاء السياسي المباشر وغير المباشر وسيلته للنيل من الدكتاتورية وأطنابها الضاربة في مؤسسات الدولة وآثارها الاجتماعية الكارثية التي خلفتها على امتداد عقود من نسف البنى الاجتماعية وتلويث المواطن وتزيين الانحرافات في عينيه وقلب موازين القيم والمعايير الأخلاقية المتعارف عليها.
الكاتب يستعمل الهجاء السياسي المباشر وغير المباشر للنيل من الدكتاتورية وأطنابها وآثارها الاجتماعية الكارثية
في قصته “السوري الأبيض المتوسط” يحكي عن شاب سوري تعرض للسجن والتعذيب في بلده عقب التظاهرات في بداية الثورة، ومن ثم خروجه إلى ألمانيا عبر طرق التهريب، وبقائه هناك فترة بانتظار استكمال أوراقه، وتعرفه إلى عجوز ألمانية ومعاملته لها بكل تقدير واحترام، وكان يهديها أطباق الطعام المختلفة التي يعدها، وذلك من دون أن ينتظر منها أي ردّ على ما يفعل، وكان يجد سعادته في التواصل معها، وهي في الوقت نفسه عاملته بطيبة، وكانت تسعد بجواره. يتفاجأ الشاب ذات صباح برجال الشرطة يقفون على عتبة بابه، ينتابه شعور بالرعب، يتذكر المخابرات في بلده، تنهال عليه الخيالات التي تعذبه، يخشى الترحيل والاعتقال كما يخشى أن يكون قد أساء إلى المرأة العجوز، وتكون المفاجأة في إخبار رجال الشرطة له بأن جارته التي كانت محامية سابقة ماتت، وأنها كانت قد ساعدته في الحصول على الإقامة، كما أوصت بأموالها وممتلكاتها له، وكانت قد خطّت له رسالة تعبر له فيها عن امتنانها لتجميله حياتها في تلك الأيام القصيرة.
ينتقل عمر في “لهجات قاتلة” إلى تشريح جانب من النظام الشفهي الذي كان متعارفا عليه ومعمولا به من قبل النظام الطائفي، إذ يتمّ تصنيف الناس اعتمادا على لهجاتهم، واللهجة تفضح صاحبها، إما أن تكون جسره للخلاص وإما مأزقه ومعبره إلى السجن والاعتقال والتعذيب، فأن يرطن أحدهم بالقاف المقلقلة، فهذا يعني انحداره من مناطق الطائفة التي ينتمي إليها النظام، وبالتالي يكون مقربا ومدللا بطريقة آلية.
يرمز القاص إلى أنّ لهجة المرء تكشف عن هويته، وقد تكون قاتلة، وكأنّها صدى لـ”الهويات القاتلة” أو هي نسختها السوريّة المحدّثة، ولا يخفى أن لكلّ منطقة لهجة خاصة بها تميزها عن غيرها من المناطق، ويمكن بناء على ذلك الاتهام المسبق إلى حين إثبات الولاء.
يقول في مستهل القسم الثاني إنه في كتاب “كليلة ودمنة” ستة لا ثبات لها: ظل الغمام، وخلة الأشرار، والمال الحرام، وعشق النساء، والسلطان الجائر، والثناء الكاذب. ويذكر أنه ظن كلّ الظنّ أنّ كليلة ودمنة سيغادران يوما الأدب الرمزي السياسي العربي إلى حدائق الحيوان، أو قصص الأطفال، لكن تكون المفاجأة في أن كليلة ودمنة من بين ثوابت كثيرة في الواقع.
على خطى ابن المقفع
يستعيد صاحب “خلاف المقصود” مشاهد من “كليلة ودمنة”، يتّخذ الحيوانات شخصيات رئيسة في قصصه ويجري مداولات على ألسنتها، يسلم دفة القيادة للحمار كي يسود ويحكم، يدمر الغابة على رؤوس الحيوانات، ولا يستثني الثعلب الذي يشير عليه بالمكر والخداع والأساليب الملتوية التي يشتهر بها. وبالرغم من اعتماده على رموز أدبية وسياسية استخدمت كثيرا في الأدب والتاريخ، إلّا أنّه يحاول إسباغ نوع من معاصرة مرجوة عليها من خلال تسويرها بواقع سوري ودفعها إلى عتبة المواجهة مع المحتل المتعامل مع البلد كغابة متوارثة يحرق الأخضر واليابس فيها.
ينتقل عمر بين محور وآخر، كما يتحرك في فضاء القصة نفسها، يستشهد بأبيات من الشعر العربي، وبنصوص دينية يوظفها في سياق القصة، وعلى لسان البطل الذي يكون عادة متّكئا على الأنا في بوحها واعترافها وانكشافها على داخلها ومحيطها، وفردها أوراقها ووساوسها ومخاوفها للآخرين، لتكون وثائق القاص الحكائية وشهاداته عن مراحل البؤس التي تتفاقم باطراد وتؤدّي إلى المزيد من الإيذاء والإيلام.
يمكن التوقف عند جوانب مختلفة من اشتغال القاص في مجموعته، من ذلك مثلا العنونة وتلاعبه بعناوين لكتب وأعمال مشهورة، وممارسة نوع من الإسقاط على الواقع والتاريخ السوريين، من ذلك مثلا عنوان “داعشتان بلدي” ويتلاعب فيه بعنوان “داغستان بلدي” لرسول حمزاتوف، مع الإنذار ممّا يتفجر به العنوان من توسيع لرقعة داعش الإرهابي وتغطيته على بلده الذي ينسبه إليه بطريقة مأساوية. ومن تلاعبه بالعناوين أيضا عنوان “إبليس في بلاد الخرائب” ويشير إلى “أليس في بلاد العجائب”، ويعتمد على التغيير اللفظي والتلاعب ببعض الحروف للإحالة إلى واقع مختلف سوداوي محبط بعيد عن واقع الحكاية الأصلية التي يوحي بها.
يكون الهدهد المسجون في زجاجة ترميزا من جهة إلى ذاك الإنسان الحرّ الملقى به في لجة النسيان، تغلق عليه زجاجة النفي ويرمى في سجون مظلمة كئيبة موحشة، أو في بحار تلتهم إنسانيته وحياته وأحلامه، ويكون البحث عن سبيل للانعتاق والتحرّر من الزجاجة المغلقة بإحكام أحد دروب الإبحار في جحيم الانتظار والترقّب.
العرب