مراجعات كتب

إنجاز ضخم للشاعر والباحث العراقي عبدالقادر الجنابي: قصيدة النثر ـ أنطولوجيا عالمية

 

 

صدر للشاعر العراقي مؤلف ضخم جدير بالاهتمام، لجديته ودقته، ومقدمته القابلة للمناقشة والمباحثة: عبدالقادر الجنابي، الشاعر المميز، والمترجم الذي ينقل روح النص وإيقاعه من دون التفريط بالدقة، والباحث الدؤوب، ومكتشف زوايا وشخصيات مهمة من الشعر العالمي، ها هو يصدر «ديوان إلى الأبد، قصيدة النثر، أنطولوجيا عالمية». وهي المرة الأولى التي يُعد مثل هذا الديوان الكبير لقصيدة النثر. وإذا كانت المقدمة، على أكاديميتها تطرح جوانب مهمة عن ماهية وتحديدات قصيدة النثر، وجذورها، وامتداداتها، فإن مئات القصائد التي أدرجها (من الشعراء العرب)، أو ترجمها من الشعر العالمي، تكمل «النظرية» بنصوص التطبيق.

هنا جزء من «على سبيل التقديم»، في هذه الحلقة، على أن تكون الحلقة الثانية مخصصة بالنصوص. هنا الجزء الأول من المقدمة.

[ ما هي قصيدة النثر؟

[1 صحيح أن مصطلح قصيدة النثر كان شائعاً منذ القرن الثامن عشر. وأول من استخدمه، فوفق سوزان برنار، هو اليميرت عام 1777، أما مونيك فتلاحظ، في دراستها التي تتمحور حول الإيقاع في شعر سان جون بيرس، أن المصطلح هذا يعود إلى شخص اسمه غارا، وقد استعمله في مقال حول «خرائب» فونلي، وذلك عام 1791. وفي دراسة قيمة، صدرت في باريس عام 1936، حول «قصيدة النثر في آداب القرن الثامن عشر الفرنسية»، يتضح أن المصطلح كان متداولاً في النقاشات الأدبية. على أن بودلير أحدث تغييراً في مصطلح قصيدة النثر، وأطلقها كجنس أدبي قائم بذاته، بل هو أول من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطرة. ولم يكن اعتراف بودلير بمرجعية اليزيوس برتران في هذا المجال اعتباطياً أو مجرد اعتراف بالجميل، وإنما كان تلميحاً إلى «معجزة نثر شعري» كان يحلم بإنجازها. ذلك أن اليزيوس برتران، هذا الشاعر الرومانتيكي، ترك تعليمات إلى العاملين على طبع كتابه «غاسبار الليل»، أن يتركوا فراغاً بين فقرة وأخرى مشابهاً للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر، وبهذا يكون أول من التفت إلى تقديم نص نثري ملموم ومؤطّر في شكل لم يُعرف من قبل. كما أن بودلير كان واضحاً أنه يعني شيئاً جديداً غير موجود، وذلك عندما كتب في رسالته الشهيرة إلى هوسييه، «من منا لم يحلم، في أيام الطموح، بمعجزة نثر شعري». إذن من الخطأ الكبير أن نحاول العثور على أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي. ذلك أن بودلير في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع أن تتقاطب وما يتجدد مدينياً في شوارع الحياة الحديثة، جعل كل القطع النثرية التي كتبت قبله، تنام كأشباح في ليل النثر الفرنسي؛ آثاراً توحي ولا تُري أي إمكانية نظرية تأسيسية.

[2 من الخطأ الشائع اعتبار قصيدة النثر تطوراً للنثر الشعري الكلاسيكي الفرنسي وتكملة له. ذلك أن ما كان يُطلق عليه قصيدة نثر هو أعمال روائية تتوسل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم، لكي ترتقي إلى مصاف الأعمال الشعرية. بينما قصيدة النثر هي قصيدة مادتها النثر (وهذه هي الترجمة الحرفية للكلمة الفرنسية: Poème en prose). وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين، الأولى: إن السبب وراء الفكرة التي تقول إن ظهور قصيدة النثر كان تصدياً لطغيان العروض، هو أن النثر أداة قصيدة النثر خال من كل قواعد عروضية وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر لكي يعبر عن انفعالاته الباطنة. والثانية: إن تصاعد الرومانتيكية أعطى معنى جديداً لمفردة «الغنائية» Lyrique. فبعد أن كانت تُطلق على الشعر الذي يُنظم بقصد التغني به في موضوعات أو الرواية أو السرد القصصي على أوتار القيثارة القديمة المسماة القيثارة، (وهذا يعني أن عنصر الموسيقى جزء حاسم في صياغتها)… صار لها معنى جديد اعتباراً من الربع الأول من القرن التاسع عشر، هو: الوظيفة المشاعرية كالحسية المُعبّر عنها في الصور، في العاطفة الفردية وأحاسيس الفرد الداخلية، وباتت مصطلحاً يُطلق على كل عمل أدبي، حتى النثر (وفق قاموس ليتريه)، يعبّر عن الوجدان والعواطف ومتحرر كلياً من مُضمرات الموسيقى. واقترح كلمة «الوجدانية» كمقابل لـ Lyriqueلكي يتّضح هذا التغيير الانقلابي والحداثي في الحسية الشعرية التي مهدت الطريق لظهور قصيدة النثر.

[ 3 قصيدة النثر ولدت على الورقة أي كتابياً، وليس كالشعر على الشفاه، أي شفوياً. لم ترتبط بالموسيقى كالشعر ولم يقترح كتّابها أن تُغنّى، ولا يمكن أن تُقرأ ملحمياً أو بصوت جهوري يحافظ على الوقفة الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر، كما في قصائد حركة «النظم الحر» (وأقصد Vers Libre، لأن ترجمة هذا المصطلح بـ»شعر حر» يخلق سوء فهم مفاده أن الصراع هو بين الشعر Poèsie والنثر، بينما هو، في الحقيقة، بين النثر والنظم).

إن غياب التقطيع أو التشطير في قصيدة النثر يشكّل علامتها الأساسية. ففي النظم الحر، في نهاية كل سطر/ بيت، ثمة فراغ يسميه كلوديل البياض… هذا البياض هو لحظة تنفّس إيقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطّرة، كما يتغير فيها الإيقاع من شاعر إلى شاعر بسبب هذه الوقفة/ القطع في سير الإيقاع. هذا البياض يمنح القصيدة الحرة هيئتها الشعرية، بينما قصيدة النثر تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة… والبياض غير موجود (رغم وجود الفواصل والعلامات فيها لأسباب يقتضيها بناء الجملة) إلا في نهاية الفقرة التي تجعل القارئ مستمراً في القراءة حتى النهاية. ولا ننسى أن أغلب قصائد النثر تتكوّن من فقرة واحدة، وبعضها من فقرتين. علينا ألا ننسى أيضاً أن «الشعر» كلمة عامة وشاملة يمكن أن تُطلق على أي شيء، بينما كلمة قصيدة تدل على وجود مستقل، على بناء لغوي قائم بذاته…

[4 قصيدة النثر لا يختلف بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية. يمكن لشاعر قصيدة النثر أن يبدأ من أي مدخل يشاء:

«كان يا ما كان…»

«عندما كنا…»

«ذات ليلة، عندما….»

أو على طريقة الشاعر الصديق عباس بيضون، الذي يختار الدخول على نحو مفاجئ: «الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة..».

المدخل إذن سهل جداً، ما هو صعب المنال في كتابة قصيدة النثر هو الختم/ نهاية القصيدة. لا يكفي أن تعرف كيف تبدأ فحسب، وإنما عليك أن تعرف كيف تخرج من، أي كيف تختم القصيدة، كما يقول روبرت بلاي.

[ 5 شاعر قصيدة النثر يَعرف مسبقاً وذهنياً، وإلى حد، حجم الكتلة/ مساحة القصر. ذلك أن قصر المتاهة بناء مكوّن من حيطان تتعاقب وتتقاطع؛ قصيدة النثر فقرة مكونة من جمل تتلاحق بكثافة حادة دافعة القارئ إلى أن «يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرعدات الدقيقة… مستضيئاً بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة»، على حد عبارة بشر فارس في تلخيصه عن القصة القصيرة من دون أن يدري أنه كان يعرّف قصيدة النثر، بشكل ما.

[ 6 هناك عنصر مكوّن أساسي يمكننا من خلاله فقط أن نُميز قصيدة النثر عن باقي الكتل، النصوص والأشعار النثرية. إنه اللاغرضية المجانية (gratuité). وهو أشبه بالخيط الذي أعطته أريان إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبعه حتى الطريق الذي يخرجه من المتاهة.

الإيجاز brièveté إذن، هو نتجة تقاطب عنصرين أساسيين يعملان داخل قصيدة النثر، كل وفق حركته؛ قاعدته: الكثافة حد الاحتداد intensité حيث السرد المتحرك المنقطع السلك بين حائط وآخر، جملة وأخرى، يشدنا بسلسة واحدة من البداية حتى النهاية دون أي تباطؤ.. واللاغرضية المجانية هي سلك الخيط الذي يقود من المدخل /البداية الى المخرج/الخاتمة وعلينا ان نتتبعها، والا سنضيع في متاهة نثر شعري له الف رأس والف ذيل، بينما غايتنا كتلة «لا رأس لها ولا ذيل»، كما وضح بودلير في رسالته الى هوسييه.

تكمن شعرية قصيدة النثر في هذه اللاغرضية.. المجانية. فالنثر بحد ذاته غير قادر على التخلص من وظيفة الوصف بغرضية منطقية. فبفضل عنصر اللاغرضية، يتخلص السرد الذي هو سمة اساسية في قصيدة النثر، من جفوته، ومنطقيته النثرية، فهو هنا ليس وصف مخطط روائي يريد ان يصل الى نتيجة ما، وانما لغرض مجاني فني جمالي محض. عندما يبدأ أنسي الحاج قصيدة له بـ «ذلك العهد يدُ ماموت لم تكن ظهرت…» «ذلك العهد» ليس هنا لغاية سياقية تاريخية معلومة، وانما لخلق ايحاء جمالي لحدث غير موجود.

[7 – يجب الا نخلط بين قصيدة النثر والشظية الفلسفية كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/الشقائق النثرية، ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة، أو متسترة وراء موعظة ما. قصيدة النثر هي النثر قصيدة: كتلة «يتأنى قصرها من نظامها الداخلي، ومن كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة». ليس لها اية غرضية، بل خالية من اي تلميح إلى مرجع شخصي: كتلة قائمة بذاتها.. أو كما كتب الشاعر الفرنسي ادموند جالو، عام 1942، «قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف.. إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف، خارج أي تصميم ملفق مسبقاً، في بناء شيء متقلص، ايحاءاته بلا نهاية، على غرار الهايكو الياباني».

[ 8 – «تنطوي قصيدة النثر»، كما تقول سوزان برنار «على قوة فوضوية، هدامة تطمح الى نفي الأشكال الموجودة، في الوقت ذاته، على قوة منظمة تهدف الى بناء (كل) شعري؛ ومصطلح قصيدة النثر نفسه يظهر هذه الثنائية». في قصيدة النثر، إذن، توتر كامن يطيح بأية امكانية توازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما. وهذا يعني ان قصيدة النثر، كما تقول بربارة جونسن في دراستها الرائدة عن ثورة بودلير الثانية، تتسم بقوتين: «إذا الشعر هو عرض ذو سمة بمواجهة النثر كعرض بلا سمة واضحة، فان قصيدة النثر تتميز بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة و»احالة الى قانون الشعر» ضد «إحالة الى قانون النثر».. فقصيدة النثر لا هي نقيض ولا هي توليف، انما هي المجال الذي اعتباراً منه تبطل وظيفة الاستقطابية، وبالتالي التناظر بين الحضور والغياب، بين الشعر والنثر».

من هنا يتفق جل النقاد على أنهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع Genres. ناهيك عن ان شكلها الوحيد الأوحد، ينطوي ايضا على بعد تهديمي بصري وبالتالي مفهومي، يقوم بنسف الافكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ الذي ما يرى ابياتاً أو عبارات مقطعة حتى يصرخ انها قصيدة، إذ انها في نظره ليست نثراً.

[ 9 – نعود ثانية الى سؤالنا: ما هي قصيدة النثر؟ إنها كل هذا وليس. لكن الشيء المؤكد هو انها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلباً واحداً مما اتفق جل النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر. هناك أنماط من قصيدة النثر: البارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والاميركية الغارقة بقضية اللغة والسرد الغرائبي. لكن في كل هذه الأنماط، الشكل واحد أوحد: كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس اي نثر آخر.

[ 10 – بطبيعة الحال، يحق لكل شاعر ان يكتب وفق نبض احاسيسه وصوته الخاص، وليسم مخلوقاته كما يشاء، فقط عليه ان يعرف ان مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. وقد يعترض شاعر على ان التسمية ليست ضرورية، ربما، لكن لماذا يسمي «قصيدة نثر»، عملاً مشطراً اعتنى بتقطيعه موسيقياً متوسلاً كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر.. بل حتى شدد على وقفات تعتبر عامل بطء اذا استخدمت في كتلة قصيدة النثر؟ اليس اعتباطاً ان يسمي شاعر يكتب عادة أشعاراً موزونة، كل قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضياً، قصيدة نثر وليس شعراً فحسب! وكأن الشعر في نظره ليس سوى تفعيلات قررت سلفاً.

[11 – رفض الحدود المرسومة لا يتم الا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز…. حتى يكون لرفضه فضاؤه هو، منقى من كل شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. لقد وقف بروتون ضد فكرة الأجناس الأدبية، معتبراً ان الشعر تعبير عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنساً أدبياً خاضعاً لقوانين مدرسية.. من هنا لم يسم كتله النثرية قصائد نثرية رغم ان النقاد يعتبرون بعضها قصائد نثر بامتياز! ان الاصرار على تسمية عمل جوهره يتعارض، شكلاً ومضموناً، مع ما يتميز به هذا الاسم، لهو في نظري، تعبير عن اعتباطية العمل نفسه.

ولنجمل القول في اعطاء تعريف مبسط لقصيدة النثر، نقول، معتمدين على مقال للشاعر الفرنسي لوك ديكون: ان قصيدة النثر لهي عمل فني، وكأي عمل فني آخر، فهي ذات قابلية لتوليد انفعال خاص يختلف تماماً عن الانفعال الحسي او الانفعال العاطفي. ولتحقيق هذه الغاية ينبغي على قصيدة النثر ان تختار الوسائل المناسبة: ان تختار الاسلوب بعبارة أوضح: ان تختار المواد المركبة للعمل المتكامل. على قصيدة النثر ان تكون قصيرة ومكثفة، خالية من الاستطرادات والتطويل والقص المفصل وتقديم البراهين والمواعظ. عليها ان تكون قائمة بذاتها، مستقلة بشكلها ومبناها، لا تستمد وجودها الا من ذاتها، مبعدة ومنفصلة تماماً عن المؤلف الذي كتبها؛ ينبغي ان تمتنع قدر الامكان عن اقحام امور لا تمت بها بصلة، وذلك لكي تتحلى بالفنتازيا وبخفة الروح والخيال. المهم ان تتواجد تواجداً حراً داخل هامش ما. ان اختيار الأسلوب وتحديد المقام يفرضان ما يمكن تسميته «التأثير» و«الانغلاق»، فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محصور بخطوط صارمة، وبنسج محكم. انها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة. قصيدة النثر ذات المبنى المحكم والاطار المحدود، لا تتحمل الاستقاضة في استعمال الأدوات الجمالية، أو المبالغة بالصور والتزويق. يجب ان تتحاشى كل تظاهر متعمد.

وحسب قول ماكس جاكوب «ان القصيدة مادة جاهزة وليست عارضة مجوهراتي» ويضيف «على قصيدة النثر ان تبتعد عن اية مقابلة مع الواقع، فلا مجال للمقارنة بينها وبين شيء آخر لإقامة التشابه. قصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي».(…)

ير ريفردي (1889 1960)

[ الموسيقيون

الظل والشاعر في الزاوية حيث يحدُث شيء ما. الرؤوس المتجمعة تسمع أو تنظر. العين تمر من الرصيف الى الآلة التي تعزف، التي تقرع، الى السيّارة التي تعبر الليل. بروق مصباح الغاز تقطع الحشد بلا هدف وتفصل الأيدي المتصافحة، كل النظرات المعلقة والضجيج. الناس هنا والكل في الساعة نفسها، عند ملتقى الطرق. الأصوات الموزعة تقود الحركة على الوتر الذي يصر ويموت كل دقيقة. وإشارة السماء، الإيماءة التي تلملم فيختفي كل شيء في ذيل الملابس، في جزء من حائط يخر. كل شيء يتزحلق والضباب يلفّ العابرين، يبعثر الأصداء، يحجب الانسان، الفرقة والآلة.

أندريه بروتون (1896 1966)

[ خرائط على الكثبان

( الى غيسيبّي أونغاريتي)

جدول مواقيت الأنهار الجوفاء والوجنات البارزة، يدعونا الى مغادرة الممالح البركانية الى أحواض مخصصة للطيور. فوق منديل ذي مربعات شطرنجية متوردة، مرتبة أيام السنة. لم يعد الهواء نقياً، الطريق لم تعد عريضة كالبوق المشهور. في حقيبة رسم فوقها ديدان خضراء كبيرة، نحمل هذه الأمسيات الفانية التي هي موضع الركب على مجثى. دراجات هوائية صغيرة مضلعة تطوف فوق بار ألحانه. أُذن الأسماك، متشعبة أكثر من زهر العسل، تسمع الزيوت الزرقاء تنزل. ومن بين البرانس الزاهية التي تضيع عبوتها في الستائر، ميزت رجلاً متحدراً من دمي.

[ منطق

الحجارة الأولى لهذا البيت الذي تحلمين به، لا وجود لها. إلا أن الغبار الأول لم يستقر أبداً على القصور التي كنا ندعم. كانت ثمة نوافذ مزدوجة، لكلينا، أضواء مستمرة وليال جسام، يا لك من عاطفية!

[ موت

الموت يأتي وحيداً، يذهب وحيداً، وهذا الذي أحبَّ الحياة سيبقى وحيداً.

[ نائمون

النائمون بيض معرقون عروقاً شاحبة الخضرة، وشفافون أيضاً شفافية البلور الحجري، أفخاذهم تجعل خيوط النهار يدلفها. كما ليس لهم صلابة الرخام العادي، بل إنهم جد أرقّاء حتى أننا نستطيع نحتهم وصوغهم بسكين.

لكن ما إن نمس أجفانهم حتى يتصدر الليل القاسي والقارس كصخرة من الاردواز.

[ المقص وأبوه

الصغير مريض. سيموت الصغير. الذي منحنا البصر، الذي حبس الظلمات في الغابات الصنوبرية، الذي جفف الشوارع بعد العاصفة. كانت له معدة خدوم، كانت له، كان يحمل في عظامه أجمل الأقاليم اللطيفة ويضاجع بروج الأجراس

جان فولان (1903 1971)

[ ضوضاء الريح

ضوضاء الريح تحيي الأيام القديمة عندما كان للخبز والنبيذ، وحتى للخبز المنقوع بالنبيذ، مذاق آخر. زمن هائل انتهى به الى التكدس. رقم عدد السنوات لا يبعث أي شيء. كما لو تخرج من غابر الزمان، تظهر فتاة معصوبة العينين كأنها تلعب الغميضة. محاطة بفتيات أخريات يركضن حولها، تحاول أن تعرف اسم الذي يمسكها. وبعد أن سحبت سماطاً مشمساً، منسوجاً بطريقة خاصة، تحزر وتصرخ عندها صرخة رضا فريدة ليس لها نظير.

لويس جنكينز (1942)

[ قصيدة النثر

طبعاً، أن قصيدة النثر ليست قصيدة حقيقية. ويعود أحد الاختلافات الأساسية بينهما الى أن الشاعر لا يقطع القصيدة الى ابيات، إما لأنه جد كسول أو جد مغفل. على أن كل كتابة، حتى قصيدة النثر، تتطلب مقداراً معيناً من المهارة، مثلما يتطلب رمي رزمة أوراق في سلة مهملات عن بعد عشرين قدم، مهارة معينة، مهارة قد تحسن تناسق العين واليد، لكنها لا تؤدي بالضرورة الى القدرة على لعب كرة السلة. مع هذا، تحتاج الى ممارسة وتعطي المرء احساساً بقضاء الوقت، رمي ورقة اثر ورقة في السلة، بينما يطنطن المعلم عن شعر وليام تنيسون.

توم والين (1948)

[ لماذا أكره قصيدة النثر

دخل رجل غاضب المطبخ حيث زوجته كانت منهمكة في إعداد العشاء، وانفجر. كانت أمي تروي لي، كل يوم من حياتها، هذه القصة، حتى اليوم الذي انفجرت فيه. لكنها كانت دائماً تنتبه الى أن هذه ليست قصة. إنها قصيدة نثر.

رأيت ذات يوم رجلاً يُطعم كلباً سندويتشه مقانق. بدت السندويتشه وكأنها إصبع ديناميت. كثيراً ما يجعلني مرأى قصيدة نثر أتقيأ. لست متزوجاً وأعيش في بيت صغير. في وقت الفراغ أحرث حديثة ليلية.

اليكسي ريميزوف (1877 1957)

[صورتي

في حديقة، قرص معدني فوق شجرة، حُفرت فيها صورة: وحش ما قبل الطوفان له قرون عديدة، وعيون ليست في مكانها الصحيح، أما بالنسبة الى التوقيع: اسمي الأول واسم عائلة الرسام.

قلت في نفسي، «كيف زوّقني». «أراد أن يجعلني حقيقياً».

ثم، جاء الرسام، عرفته بواسطة صورته: تتدلى كثمرات من أمامه، ومن خلفه، ومن جيوبه. اختبأتُ خلف الصورة، مختلساً النظر: أسيتعرّف على عمله أم سيمر به مرّ الكرام؟

لكنه، أخذ كمثرة وسدّدها بشكل صائب في منتصف عيني. «جعلني بالتأكيد حقيقياً».

[ مظلة

اخترقتني شرارة بيضاء ضاربة الى الزرقة. ثم، رأيتها: متشحة بالسواد، في يدها مظلة حريرية سوداء، ذات مقبض طويلة ورفيع. وخزت قدمي بالمظلة. فتسمرت في الأرض. سألت: «ما معنى شفاه حمر؟».

باول تسيلان (1920 1970)

[ كنصير المطلقية الإيروسية…

كنصير المطلقية الإيروسية، ومتعاظم متحفظ بين الغواصين، وفي آنٍ رسول هالة باول تسلان، لا أستحضر السحنات المصخرة لغريق جوي إلا بعد كل عشر سنوات (أو أكثر)، ولا أتزحلق إلا في ساعة متأخرة، على بحيرة تحوطها غابة شاسعة، غابة أعضاء المؤامرة الشعرية الكونية البلا رؤوس. من السهل أن نتفهم بأن هنا لا يمكنك النفاذ بسهوم النار المرئية. ففي طارف العالم، ستار ضخم من الجمز يخفي وجود ذاك الانبات البشري الشكل الذي، أنا، الحالم، أخطط، وراءه، رقصة أن تدهشني. لم أنجح حتى الآن، والعيون متنقلة الى أصداغي، أنظر نفسي جانبياً، بانتظار الربيع.

زبيغنيف هربرت (1924 1998)

[ الكمان

الكمان عار له كتفان نحيفان، بدون براعة يريد أن يستر الكتفين. يبكي من البرد والخجل. هذا هو السبب. وليس كما يظن نقاد الموسيقى، لكي يكون أجمل. هذا غير صحيح.

[ المكعب الخشبي

لا يمكن وصف المكعب الخشبي إلا من الخارج. لهذا فنحن محكومون بالجهل الأبدي حول جوهره.

حتى لو شطرناها بسرعة فإن داخله سيصبح فوراً جداراً يتبعه تحول برقيّ للسرّ الى جلد.

لهذا، يستحيل وضع سايكولوجية لكرة حجرية، لقضيب حديدي، أو مكعب خشبي.

جان دوبان (1927 2012)

[ ممنوعٌ عليَّ أن أقف لأرى

ممنوع عليّ أن أقف لأرى. كما لو حكم عليّ بأن أرى وأنا أمشي. وأنا أتكلم. رؤية ما أتكلّم، والتكلم بالضبط لأني لا أرى. إذن البعث على رؤية ما لا أرى، ما هو ممنوع عليّ أن أرى. وأنّ اللغة، بانتشارها، تصدم وتكتشف. العمى يعني الالتزام بقلب الشروط، ووضع المشي، الكلام، قبل النظر. المشي في الليل، التكلم خلال الضجيج، لكي يذوب شعاع النهار البازغ، ويتجاوب وخطوتي، يحدد الغصن، ويقتطع الثمرة.

[ بين الأحجار المنفلقة

أيها الثعبان، يا صديق الجوع، أقيس بترداد لسانك سريان الجذام. فمن دونك، يا قوّاس الترنيمة القابلة الكمال، لبقيت الثمرة غيمة، ويأسنا هوى عقيماً. إنك الردّ الوحيد على قشعريرة التربة حين يحفر جذر الشمس طريقه في الصخرة. النجم الأخير القلب بين أوراق الشجر، يراك تتألم. أردت أن أستودعك ملكي الأكثر سراً، الأكثر ابتذالاً، وما كان سوى سنونو طائراً على ارتفاع منخفض، حتى تكون الأراضي المحروثة أكثر عمقاً.

[ قصيدة النثر كحيوان جميل

كان يكتب قصيدة نثر، وقد نجح في تزويج زرافة مع فيل. جاء العلماء من كل أنحاء الأرض لرؤية المنتوج. الجسد كان يشبه جسد الفيل لكن له عنق زرافة ورأس فيل صغيراً وخرطوماً صغيراً يتلوّى مثل مغفل مبلل.

أنت اخترعت حيواناً جديداً وجميلاً، قال أحد العلماء.

أتحبه حقاً؟

أحبّه؟ صرخ العالم، إني أعبده، وأود أن أضاجعه لعلي ابتدع حيواناً جميلاً آخر….

[ دمى السادة البعيدين

يحلم عازف بيانو أن شركة تحطيم استأجرته لإتلاف آلة بيانو بأصابعه…

وفي يوم حفل إتلاف البيانو، وبينما هو يرتدي ملابسه، لاحظ فراشة تضايق زهرة في آنية الزرع خارج نافذته. تساءل ما إذا كان عليه استدعاء البوليس. لكنه في النهاية فكّر بأن الفراشة مجرد دمية يحركها سيدها من النافذة الأعلى.

فجأة كل شيء جميل. فيأخذ بالبكاء.

هوانغ يونغيو (1924)

[ سرعة

شكل المادة المتحركة. للمثال، شخص سيئ يصبح فجأة شخصاً جيداً، وبسرعة بحيث حتى البرق يشعر بالخجل والدهشة.

[ حمار

الجميل فيه هو أنه لم يكتشف أولاً من قبل الرسام هوانغ. ففي وقت سابق، انتبه نابليون، حين نقل جيشه من مصر الى سوريا، وعلى نحو جيد، بضرورة وضع أجمل حيوانين في موقع أمين وسط الجنود العاديين. الأول كان علّامة، والثاني كان حماراً. الأول لأنه يعرف قيمة المصنوعات الثقافية، والثاني ليحملها الى فرنسا.

[ جهل

مما لا شك فيه هو أنّ التاريخ استخلص منذ زمان طويل بأن الجهل فضيلة، لأنه يدل ضمناً على الرضا والقدرة على التمتع في النفس. إن ما جلبنا الى هذا الموضوع هو الجهل عينه.

دافيد إغناتو (1914 1997)

[ منزلي

وأنا أنظر الى ورقة النبات، ليس موضوعي ظلال المعنى التي يحملها العقل، وانما رغبتي في ان اجعله تتكلم وتخبرني، كلوروفيل، كلوروفيل، بسرعة تقطع النفس. سأنعم بها، وبالمقابل سأجيب، دم، والورقة ستومئ برأسها. وبعد ان يتكلم واحدنا مع الآخر، سنجد مواضيعنا لا تنضب، واتصور، حين أشيخ والورقة تذوي وتغدو سمراء، أن فكرة الدفن في التراب ستصبح جد مألوفة بالنسبة إلي، ومن المعلوم سيكون، من خلال الحديث مع الورقة، ان المشي بين الاشجار بعد اكمال هذه القصيدة، هو اشبه بدخولي منزلي.

[ فخور بنفسي

بالنسبة إلى العشب ليس بذات اهمية ان يذبل، فهو مطمئن في هويته. سأنقل هذه الفكرة الى عالم المصاعد صائحاً بهم «ان صعدتم او هبطتم، فانكم دائماً أنتم نفسكم»، والى المسلح: «انك لا تضيف اي شيء الى نفسك بإطلاق النار». المصعد سيصدأ في مكانه، قلقاً، والمسلح سيجيب: «بهذا العيار الناري، سأضيف نفسي اليك. يطلق. تسقط الضحية. انها انا، مع رسالة جاءت من الغابة. الرسالة هي انا، انظروا اني اموت، فخوراً بنفسي».

اليش ديبلجاك ( 1961ـ )

[ من «لحظات عصيبة»

في هذه اللحظة، في عتمة غرفة باردة، يقترب الرعد من بعيد، عبر النوافذ العاصفة والألواح المغبرة، الماء في الوعاء لا يغلي، حيث تلهث السمكة تحت الجليد، حين ترتجف نصف نائم، كما لو من دون أمل، حين قطيع سرب ايائل ترك السبخات الجافة عميقاً في الغابات ويجيء الى الحدائق في المدينة، هذه اللحظة العابرة، حين يشرح البرد خلال عمودك الفقري، حين يتصدع العسل المتجسئ في الجرار، حين فكرة يد امرأة موضوعة على صدغ الميت تقترب اكثر فأكثر، حين تبدأ بالنهوض من اعماق الذاكرة، قرى مدمرة كنت تود ان تنساها، حين يحرق الاحساس بالذنب والحقيقة معدتك، حين تندفع الديوك البرية الخائفة، من النسيج المعلق على الحائط، حين يترك الحراس مواقعهم يصفر واحدهم للآخر، ثاقبين الهواء، حين تكسر حجارة حادة دماغك، اعلي ان اذكرك بأن جسدك المجروح لن يكون متخلفاً عن ظل تلقيه جنبة منعزلة، على الأرض المهتزة، شرق عدن؟

زجيسواف وونتشكوفسكي (1926 2014)

[ دمية من ميلو

حينما كنت خياطاً كنت أزعل من دميتي دائماً. كانت يداها حمراوين، مشعرتين تعوزهما الرشاقة،

لم تكن تشبه فينوس ميلو. وأسوأ ما يكون كانت قياسات فساتينها الحريرية. حينئذ صرخت بها غاضباً: سأقطع تينك اليدين اللعينتين! ذات يوم لاحظت ان دميتي بلا يدين. كانت تضحك بافتخار.

[ العنكبوت

جلسنا على ضفة أرض مبحرة بتجاه محيطات ساكنة. سقط مطر مبيض، والاشجار جرت انهاراً بعيدة. انت قرأت سفر العادات، وأنا عقدت شعرك بعرعر الفرجة الغابية. توقف نبض الشمس السرمدي. المواشي الذهبية التي رعت بأعشاب الأمل ابتعدت حتى مرتفع الشهوة وما كان سوى راع يعيف خلل الغصون الصنوبرية صلاة النشوة. أردت ان اسميك قطاً ناعماً، وسرنا زهرتين باتجاه الأكمة الساخنة. عندها، رأيت كيف يداك الجميلتان قد سحقتا العنكبوت بخفة الحرير.

المستقبل

أنطولوجيا الجنابي/ عباس بيضون

شاعر ومحارب ثقافي وشارح للسريالية ومترجم لكن، عبد القادر الجنابي أيضاً وبالنسبة نفسها مناضل من أجل الشعر ولنسمه مناضلاً من أجل قصيدة النثر، وها هو يتوج أعماله بـ «ديوان إلى الأبد قصيدة النثر أنطولوجيا عالمية». إذا علمنا أن الأنطولوجيا تضم 420 قصيدة لـ 117 شاعراً، وإذا علمنا أن عبد القادر ترجمها بمعاونة ورشة من 11 شخصاً شاركوا في الترجمة من الألمانية والبولندية والروسية والفنلندية والعبرية، بالإضافة إلى المشاركة في الترجمة الفرنسية والإنكليزية اللتين تعهدهما الجنابي نفسه، إذا علمنا ذلك تبين لنا أي أثر هو «ديوان إلى الأبد».

تبدأ الأنطولوجيا بنظرية قصيدة النثر. يمكننا أن نضيف مبحث الجنابي إلى مباحث قليلة بل نادرة في الموضوع في النقد العربي، ونظرية قصيدة النثر تميز بين الشعر الحر المشطّر الذي يتداخل فيه البياض، وقصيدة الكتلة ذات الشكل المتكامل المحصور بخطوط صارمة وبنسيج محكم، إنها عمل مغلق على ذاته، إنها «نثر يشب من أعماقه شعر خال من كل ما يجعل الشعر الموزون شعراً».

وقصيدة النثر، تعتمد عناصر سردية لكن غرضها ليس الحكاية وليست مزجاً بين عنصري الشعر والنثر، بل هي النثر المستمد شاعريته من توتر وكثافة تراكيبه»، وقصيدة النثر القصيرة المكثفة الخالية من الاستفرادات والتطويل والقص المفصل تفاجئ بنهايتها التي هي «قفلة مجانية» وقصيدة النثر بكاملها «سرد متحرك» وهي «نص كتابي ولو على الورقة» وليست عملاً شفوياً والنص نفسه مجاني، وإذا كان سهل المدخل فإن على الشاعر أن يعرف «كيف يخرج» هذه جملة من قواعد تشتمل على قصيدة النثر بشتى أنواعها التي تتبع مدارس الأدب من رمزية وتكعيبية وسيريالية، إننا أمام نظام في ما يبدو أقرب إلى المتاهة وقواعد لما يبدو «نصاً شاذاً» و «هادماً للأجناس» وعلينا أن نعترف بأن هذا يفاجئنا في الشعر العربي، فقصيدة النبي عندنا تمتنع على التشطير الذي بحسب الجنابي يضويها في الشعر الحر. وقصيدة النثر عندنا لا تنفصل عن شاعرها بالضرورة فأكثرها كان غنائياً مفرطاً، وجانب منها كان تراثياً في لغته وقاموسياً، هذا ما جعل قصيدة النثر في جزء منها في موازاة قصيدة الوزن وفي محاكاتها. المهم أن هذه القصيدة هي حقل ابتكار وهي تتطور وتتعدد على أيدي من يسميهم الجنابي «الحديثين» وتلتحق هكذا أكثر بنموذجها الأصلي، بيد أن أنطولوجيا الجنابي قد تكون مناسبة للنظر في قصيدة النثر العربية وتحاربها.

قصيدة النثر العربية في جزء منها ليست قصيدة نثر بمعنى أنها لا تختبر طاقات النثر وإمكاناته الشعرية بل يبدو أنها أقرب للشعر لا بتشطيرها فحسب، ولكن بلغتها التي تستمد أحياناً من ترجيع لما يبدو إيقاعاً أولياً أو واحداً للغة، هذا الإيقاع الواحد ذو طبيعة وزنية فهو ليس سوى الإيقاع نفسه بصرف النظار عما يبنيه وعما يتوالد منه. إننا أمام إيقاع مجرد، أي أوزان مجردة، هكذا نعثر على نصوص مفتوحة هي عملية طحن للغة وتنغيم لها بدون أن يكون تحت ذلك بنية فعلية.

أنطولوجيا الجنابي 117 شاعراً نعرف منهم آحاداً أو عشرات بالأكثر، ومن لغات قليلة، أنطولوجيا الجنابي تعرفنا بعشرات الشعراء الذين نجهل وجودهم أو نعرفهم بالاسم فحسب، شعراء من كوبا ونيكاراغوا والنمسا وروسيا وألمانيا واليابان وتشيلي وبلجيكا والولايات المتحدة والمكسيك والأرجنتين والسويد ورومانيا والصين وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وفنلندا. شعراء لا تضيف معرفتهم إلى ثقافتنا فحسب بل تغني شاعريتنا، فنحن على سبيل المثال نتعلم من القصائد الألمانية التي نجهل معظم شعرائها. ونحن بالدرجة نفسها نتعلم من القصائد البولندية ونحن نتعلم من شاعر كرسل ايدسن من الولايات المتحدة لم يكن لنا به علم، ونحن نتعلم من الشعراء اليونانيين الذين لم نكن نعرفهم من قبل ولا بد أن قصيدة النثر هكذا تاريخ ومسار وبنية وتراث، يلتزم الجنابي في اختياراته بانضباط تام بالقواعد التي أقرها لقصيدة النثر ويفاجئنا بأن نكون لنموذج هذه الخصوبة وذلك الحضور. مع عبد القادر ندخل إلى ملكوت قصيدة النثر وإلى مدينتها وليس علينا إلا أن نجوبها وننتقل فيها. إنه بالتأكيد شعر عجائبي وسياحة باذخة، ربما لهذا نستقبل «ديوان إلى الأبد» في محل لائق من مكتبتنا وفي محل مرجعي في مكتبة قصيدة النثر، بل نزعم أننا مع هذا الكتاب نبدأ في التفكير بمكتبة عربية لقصيدة النثر.

غير أن «ديوان إلى الأبد» لا يخلو من طرف أيضاً، فنحن نعلم لأول مرة أن الروائي الروسي إيفان تورغينيف شاعر وأن بين شعراء النثر كافكا واوسكار وايلد وبييرلويس وجروترودشتاين وفاسيلي كاندنسكي وألكسندر سوليجنتسين وايتالو كالفينو ممن نعرفهم روائيين أو رسامين.

أمام «ديوان إلى الأبد» نجد أنفسنا أمام كتاب حقيقي، فأعمال 117 شاعراً لا تبدو مبعثرة أو مشتتة، ان بينها تماساً فعلياً وقدراً من التواصل ليس النموذج فقط قاعدته بل اللغة أيضاً، فنحن نستطيع خلال الترجمة أن نعثر على لغة، يمكننا والحال هذه أن نحظى من هذا الكتاب بمتعة طويلة ومتصلة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى