قصص من التغريبة الفراتية/ رامي أبو الزين و فراس علاوي
«إنها تشبه خروج الروح من الجسد»، بهذه العبارة وصف الرجل الستينيّ الجالس قرب خيمة اللجوء خروجه من بيته على أطراف مدينة دير الزور. قالها بحسرة وهو يلف لفافة التبغ لتغيب ملامحه خلف دخانها، وأضاف بعد نوبة سعال خفيفة: «يا بني… قالها من سبقنا، من خرج من داره قل مقداره، وهذا ما حصل معنا».
لم يكن هذا الرجل مقصدنا، بل كنا قد ذهبنا إلى المخيم قاصدين شاباً وصلَ حديثاً من دير الزور إلى المخيم في تركيا، بعد مراحل من الخوف والتعب والإرهاق والجوع.
عثرنا عليه بعد سؤال عدة أشخاص، كان جالساً في خيمته تائه النظرات، لا تزال معالم الحيرة على وجهه، حيرةُ من يكاد لا يصدق أنه قد نجا.
لا حياة تسر الصديق، ولا ممات يغيظ العدا
يقول أبو عبد الله، وهو اسم مستعار اختاره الرجل لنفسه، إذ يبدو أن الخوف لا يزال يطارده إلى هنا:
«الخروج من الموت إلى الموت مروراً بحسابٍ عسيرٍ هو ما حدثَ معنا، فالحياة في دير الزور أصبحت جحيماً لا يطاق. ممارسات تنظيم داعش تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وفوقها قصفٌ مستمرٌ من طائرات لم نعد نعرف هويتها، ولا نعرف ما الذي تريده منا. وهكذا اتخذتُ القرار الصعب في النهاية، إن لم يكن الأصعب في حياتي.
أمام أبناء الدير المحاصرين ثلاثة طرق للخروج، ثلاثة احتمالات لا رابع لها، وجميعها تؤدي إلى المجهول. الطريق الأول طريق دمشق عبر البادية، وهذا الطريق مستحيلٌ بالنسبة لمن انخرطوا في الثورة وأصبحوا مطلوبين لدى النظام. وحتى بالنسبة لغير المحسوبين على الثورة، فإن لهذا الطريق محاذيره الأمنية، إذ قد لا يخلو الأمر من تقرير من هنا أو وشاية من هناك.
الطريق الثاني نحو مدينة الحسكة، وهو له ذات المحاذير بالنسبة لمن كان مطلوباً للنظام، وفوقها لا بد من المرور عبر طريق الشدادي/الحسكة الخاضع لسيطرة قوات الحماية الكردية، وهو ما يحمل مخاطر أمنية أيضاً».
تركيا، الملاذ الآمن
«لم يبقَ أمامي سوى طريق تركيا، وهو أيضاً محفوف بالمخاطر التي تبدأ منذ لحظة التفكير بالسفر. لكنني قبل أن أحسم قراري قصدتُ مدينة البوكمال في محاولة أخيرة للبحث عن ظروف أفضل، غير أن هذا لم ينجح.
الهجرة هي الملاذ الوحيد إذاً. عقدتُ العزم على الرحيل مع زوجتي وأطفالي، تواصلتُ مع أحد الأشخاص الذين لهم دراية بطريق العبور خارج أراضي الخلافة، وتم اللقاء والاتفاق بسرية كاملة خوفاً من أن يتسرب الخبر إلى عناصر داعش، حيث أن العقاب على هذه الجريمة قد يصل حدَّ الموت.
انطلقنا من دير الزور الساعة الخامسة فجراً بصحبة الدليل، الذي طلب مني مبلغ 100 ألف ليرة سورية لإيصالي إلى آخر نقطة في مناطق سيطرة تنظيم داعش.
في طريقنا اعترضتنا حواجزٌ لتنظيم داعش، وكانت إجابتنا المعدّة سلفاً على أسئلتهم أننا ذاهبون لشراء بضاعة من مدينة الباب بحلب. أجبرونا على الكذب، ربما الكذب من أجل النجاة أمرٌ مباح في قوانين الإنسانية التي لم تعد متواجدة في حياتنا.
تزامن سفرنا مع معارك منبج، وقد أجبرنا أحد الحواجز على المرور عبر طريقٍ قريبٍ حددوه هم لنا، وعند سلوكنا ذلك الطريق رأيتهم يدخلون السلاح مع السيارات المدنية إلى منبج.
بعد عصر ذلك اليوم الشاق، وفي الساعة الخامسة تقريباً، وصلنا مدينة الباب في ريف حلب، التي تعدُّ آخر معقلٍ كبيرٍ لقوات داعش هناك. كان بانتظارنا شخص يدعى أبو عبدو يتعامل مع دليلنا الذي رافقنا، وقال لنا إنه من المستحيل العبور بسبب استنفار عناصر التنظيم بعد فرار 30 منهم.
اصطحبنا أبو عبدو إلى غرفة تحوي 30 شخصاً لنرتاح من السفر، ومع غروب شمس اليوم التالي تم اصطحابنا مع عدة أشخاص على دراجات نارية إلى منطقة شبه مهجورة، رأينا فيها صواريخ غير منفجرة وقنابل عنقودية.
بعد مسير أكثر من نصف ساعة بالدراجات النارية، وفي منطقة تدعى بوز دبة، أوقفتنا دورية لداعش فوجئَ بها المهربون. اقتادنا عناصر الدورية إلى مقرٍ لهم في منطقة قريبة، يدعى «مقر أخترين».
مع دخولي للمقر تقدم نحوي رجل سمعت رفاقه يدعونه «أبو هاجر العراقي» وسألني: «لماذا تريد الذهاب إلى تركيا بلاد الكفر؟ لماذا لا تبقى في دابق أرض الملاحم؟».
أجبته أنني أخاف على أولادي من الطيران، وأنا نفسي أخاف من غارات الطيران، وأنني أريد النجاة من الموت. مع انتهائي من الإجابة انهالَ عليَّ بالكلام المهين تارةً، وبالوعظ والدعوة تارةً أخرى. نادى أحد العناصر وقال له: «اذهب وأرِه الموت». اقتادني إلى غرفة داخل البناء، أجلسني على كرسي وقام بإحضار صاروخ غير منفجر ووضعه تحت قدمي، ثم تناول قنبلة ووضعها في جعبتي، وبصوتٍ عالٍ صرخ في وجهي: «نحن نعيش مع الموت وأنتم تهربون! قسماً لأجلدك».
قلتُ له أن يجلدني وفي قرارة نفسي كنتُ أعتقدُ أنه قالها ليخيفني أكثر، لكنه أمسكني من يدي وأركعني على الأرض، ثم تناول أداة أشبه بكابل الكهرباء وبدأ بضربي. أكثرُ من 50 جلدة، نعم لقد جلدني، ثم أمسك بندقية ووضعَ رصاصةً في بيت النار، نزع عنها الأمان ووجهها نحو رأسي قائلاً: «في المرة القادمة إذا أمسكتُ بك سأسكنها في رأسك، عُد من حيث أتيت».
خرجتُ من المقر تُرافقني ملامح الذل والخوف، اصطحبتُ عائلتي واتجهتُ إلى مدينة الباب قاصداً أبو عبدو المهرب، واسترجعتُ منه مبلغ الـ 500 دولار الذي أخذه مني قبل محاولة التهريب.
استأجرتُ غرفةً في مدينة الباب تؤويني أنا وعائلتي، كان صاحبها يعرف مهرباً آخر. تواصلتُ معه، فتعهد أنه سيوصلني إلى غايتي مقابل 600 دولار، لكن الأمر سيتطلب السير على أقدامنا لعدة ساعات حتى العبور من منطقة سيطرة داعش.
مع غروب شمس اليوم التالي انطلقنا، كان الطريق مظلماً وموحشاً. وبعد مرور حوالي ساعتين من السير المتواصل، شقَّ صمتَ الطريق صوتُ انفجار قوي جداً، ومع زوال الغبار اكتشفنا أن كلباً قد داس على لغم أرضي، وأصيب شخصان ممن كانوا برفقتنا بجروح خفيفة نتيجة قربهم من الانفجار.
تابعنا المسير لأكثر من 25 كم، كنت أحمل ولدي الأصغر وبعض متاعنا، كدتُ أسقطُ من الإرهاق. صاح أحدهم: «لقد أصبحنا في أمان، علينا أن نمشي مسافة قصيرة لنصل لحواجز الجيش الحر». لم يمضِ على كلامه عشر دقائق حتى فوجئنا بالرصاص فوق رؤوسنا، فألقينا بأنفسنا على الأرض، قال الدليل: «لا تخافوا، إنه إنذار من الجيش الحر لتبقوا بمكانكم».
تقدمت أضواء سيارات باتجاهنا، كانت سيارات الجيش الحر، استقبلونا وسلاحهم موجه باتجاهنا، أخذونا إلى مقرهم الذي يبعد قرابة 3 كم. كان لنا حصة الأسد من التحقيق والتدقيق كوننا من دير الزور، فأبناؤها متهمون بانتمائهم لداعش حتى يثبت العكس. لم يخلُ التحقيق من التهكم والسخرية وتوجيه التهم، ومع حلول العاشرة صباحاً، وبعد انتهائهم من التحريات، أطلقوا سراحنا لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل رحلتنا.
في مدينة إعزاز، كنت ألاحظُ علامات عدم الرضى عن رؤيتنا على وجوه كثيرٍ ممن قابلتهم، والسبب أنني من دير الزور لأن التهمة الجاهزة كما أسلفت. كانت الأسعار مضاعفةً علينا، وتعرضنا للابتزاز في أكثر من مناسبة.
مافيات تهريب البشر منتشرة في إعزاز، وينبغي الحذر من الاحتيال. بعد السؤال والتدقيق توصلتُ للاتفاق مع مهرب جديد يصحبني إلى مدينة إدلب، ومن هناك لديه طرقات كثيرة إلى تركيا.
انطلقنا صباحا باتجاه إدلب، كان علينا أن نتجاوز حواجز الأكراد عبر عفرين، وكلفنا ذلك مبلغ مئتي دولار له. مع المساء وصلنا سرمدا في إدلب، قضينا الليل في غرفة لا تصلح للسكن، لكنها تفي بالغرض لمبيت ليلة واحدة على الأكثر، فهي بلا أبواب ونوافذ. المصيبة التي اكتشفناها لاحقاً أن هذه الغرفة ستكون مأوانا لطيلة 36 يوماً. كان طعامنا طيلة تلك المدة مقتصراً على الخبز، وبعض أنواع المعلبات التي تضاعف سعرها مرات ومرات، أما الاستحمام فهو أمرٌ لم يكن وارداً.
أربع محاولات للعبور، سرنا خلالها ساعاتٍ في جبال عالية وعرة ومنحدرات خطرة جداً في ليالٍ باردة. وصلنا القرى التركية عدة مرات، لكن حرس الحدود التركي كان يلقي القبض علينا ويعيدنا إلى الأراضي السورية.
وفقنا الله في المحاولة الخامسة، وبعد أن دفعتُ مبلغ 2000 دولار للمهرب ومشينا سبع ساعات، وصلنا إلى الخيمة التي تراني فيها».
قبور الموتى، خيام اللاجئين
طريقُ العبور الثاني من دير الزور كان باتجاه مدينة الحسكة، التي يسيطر عليها النظام إسمياً، لكنها تقع بشكل فعلي تحت سلطة وحدات حماية الشعب الكردية الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، التي تسيطر على كافة مرافق المدينة، وخاضت مع داعش معارك أدت إلى طرد الأخيرة من الشدادي، لتصبح تلك المنطقة هي الفاصل بين سيطرة القوتين.
أبو القاسم الذي عبرَ ذاك الطريق حدَّثنا عن رحلته:
«أنا أبٌ لستة أطفال، ومقيمٌ في دولة الكويت، جئت منذ فترة كي أقضي إجازتي مع عائلتي رغم معرفتي بالظروف التي تعيشها البلاد، لكن شوقي لأطفالي وأهلي وخوفي عليهم كان أكبر من تلك الظروف.
انقضت أيام الإجازة بسرعة، كان عليَّ الدخول إلى دولة الكويت خلال تسعة أيام. غادرتُ دير الزور في الساعة التاسعة صبيحة يوم الثلاثاء قاصداً إحدى القرى الواقعة على طريق دير الزور/الحسكة تدعى السجر، ومنها إلى منطقة تدعى أبو حامضة، وتبعدُ حوالي عشرين كيلومتراً عن أقرب نقطة للأكراد. في تلك المنطقة يتوفر أشخاص مختصون بطرق التهريب، اتفقتُ مع أحدهم أن أكون ضمن قافلته مقابل 75 ألف ليرة سورية، وأن أسير مسافة 15 كم فقط.
انطلقنا الساعة السابعة مساءً في طريق يخلو من كل شيء إلا من الظلام وبعض الحيوانات البرية، كان معي في المسير عائلات تضم أطفالاً وشيوخاً ونساءً ورجالاً. كان الحمار هو الواسطة التي كان يتوجب على من لديه أمتعة كثيرة، أو من كان مريضاً أو مسناً، أن يستأجرها. أجرة الحمار تتراوح بين 60 و70 ألف ليرة سورية. في الساعة الثالثة فجراً بدأت تتراءى لنا أضواء من بعيد، قال لنا المهرب إنها لحاجز الأكراد، وأنكم ستتتابعون طريقكم لوحدكم، ستمشون حوالي 10 كم أخرى لتصلوا إلى وجهتكم.
أخدنا قسطاً من الراحة لمدة ساعة ثم واصلنا المسير. حلَّ الصباح ولم تنتهي المسافة المنشودة، كانت المسافة الحقيقية أكثر من 15 كم.
في الثامنة والنصف صباحاً بدأت معالم الحاجز تبدو لنا واضحة، كان يتوجب على كل واحد منا أن يحمل قطعة من القماش الأبيض يلوح بها عندما يقترب من الحاجز حتى نسلَمَ من الرصاص. استقبلَنا عناصر الحاجز وهم يصوبون أسلحتهم نحونا، جمعونا في منطقة قرب الخندق الذي يسبق الحاجز، فتشونا بشكل دقيق، وحتى ألبستنا الداخلية فُتشَت. أمام الحاجز، مورسَ علينا إذلال لم أعشه خلال سنوات عمري التسعة والثلاثين.
بعد الانتهاء من التفتيش، أدخلونا إلى أرض قاحلة خلف الخندق إلى يسار الحاجز تحوي أناساً كانوا قد وصلوا قبلنا. كان العطش قد تمكّن منا، سألتُ عن أي سبيل للشرب فأشار بعض الجالسين إلى خزان مياه يبعد حوالي 50 م. عندما اقتربتُ منه لأشرب وجدتُه قد نال نصيبه من الرصاص، والمياهُ تتدفق من الثقوب. عندما حان دوري في الشرب وأخذتُ أول رشفة لم أستطع أن أكمل الشرب، فالمياه مرة المذاق وغير نظيفة. كان هذا مصدر الماء الوحيد، والناس مجبرة أن تشرب منه في ظل الحرارة الشديدة، كان الصيف لم ينقضِ بعد.
بعد حوالي ساعة بدأت التحقيقات مع الوافدين الجدد، كان لأهالي دير الزور النصيب الأكبر من الوقت أثناء التحقيق، فهم كلهم متهمون بـ«الدعشنة». حان دوري، لم تشفع لي الإقامة الكويتية التي أحملها فعليَّ أن أثبت عدم ارتباطي بداعش، وبدأت الأسئلة لأكثر من 30 دقيقة. لم يثبتوا عليَّ أي تهمة، كانت «التهمة» الموجهة لي في نهاية التحقيق أنني أعزب وقدمتُ بمفردي، ولهذا يتوجب عليَّ أن أعود من حيث أتيت. كان هناك حلٌّ واحدٌ لنيل «البراءة»، وهو أن أدفع مبلغ 300 دولار لأحد العناصر.
دفعتُ المبلغ المطلوب كي أضع قدماً بين الذين لهم نصيب بالبقاء في هذه البقعة القاحلة، كانت المنطقة هي رجم الصليبي. بعد الاطمئنان جلستُ على الأرض إلى جانب بعض الرجال الذين يبدو أن لهم مدة هنا، بدأتُ أسمع إلى أحاديثهم، كان هناك عوائل قد مضى على وجودها أكثر من عشرين يوماً تفترش التراب بلا مأوى ولا طعام ولا رعاية صحية.
المكان كان يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، محاطٌ بعناصر من الميليشيات الكردية تحمل السلاح، متأهبة لإطلاق النار نحو أي حركة مريبة.
في اليوم الثاني سمعتُ أشخاصاً يقولون إن سيارة المساعدات جاءت، تقدمتُ نحوها عليّ أحظى بشيء من الماء النظيف لأروي به عطشي، أو حتى القليل من الطعام لأُسكِتَ به معدتي الفارغة. عندما وصلتُ السيارة كان فيها مياه صحية وبعض الأغذية المعلبة، لكن كان يتوجب أن ندفع قبل أن نأخذ، ثمن طرد الماء 1500 ليرة، علبة الجبن 8 قطع ثمنها 500، وعلبة المرتديلا 500.
في اليوم الثالث بدأ عناصر الحاجز بتجميع قسمٍ من القادمين من دير الزور لينقلونا إلى مخيم الهول، استمر تجميع الناس حتى وقت الغروب طبعاً، وعن طريق الرشوة كان لي حظٌ بأن أكون أحد الذين سيُنقَلَون إلى مخيم الهول.
نقلونا إلى مخيم الهول بشاحنات كانت تستخدم لنقل المواشي، ولا تزال رائحة الأغنام تفوح منها. كنا حوالي 400 شخص أجلسونا في فسحة أمام بوابة المخيم، كانت مليئة بالأشواك الصحراوية والأوساخ الملقاة بين جنباتها. بدأوا بتسجيل أسمائنا بترتيبات لا تخلو من الإهانة والإذلال، أدخلونا إلى داخل المخيم بعد حوالي ساعتين لنقضي الليلة هناك نفترش أشواك أرض المخيم.
في الصباح بدأنا نتساءل عن مصيرنا نحن الوافدون الجدد، كيف نحصل على الطعام والماء؟ على الجانب الأيمن من المخيم كان يوجد ركنٌ للنازحين العراقيين من الموصل، تتوفر ضمنه بعض دكاكين البقالة، استطعتُ الهروب من الشبك الذي كان يحيط بنا والوصول إلى تلك الدكاكين وشراء ما تيسر من الطعام والماء.
أربعة أيام انقضت وأنا في هذا السجن، أعايش مأساتي وما أراه من معاناة العوائل السورية والديرية على وجه الخصوص، في اليوم الرابع من مكوثي في الهول، خرج علينا أحد مسؤولي المخيم وقال لنا: «سوف نقوم بنقلكم إلى مخيم مبروكة، فالمكان هنا عاجز عن استيعابكم، وليس بمقدوركم دخول الحسكة أو القامشلي».
كان للكلام وقع الصاعقة على الناس النائمة على الأشواك من أربعة أيام دون ماء ولا طعام، تكاتفنا وقمنا بالتظاهر بمكاننا رافضين الذهاب إلى مخيم المبروكة ومطالبين بتيسير أمورنا، فأنا ومعي مجموعة من الشبان نريد السفر إلى دمشق فقط، وليس لنا أي حاجة للمكوث. البعض كان لديهم أقارب في الحسكة يريدون الوصول إليهم، وهناك مرضى يقصدون الأطباء والمراكز الصحية للتداوي.
بعد أقل من نصف ساعة جاء الخبر من مسؤولي المخيم أنهم عدلوا عن رأيهم، وسوف ينظرون في الأمر.
الأيام تمرّ، لم يتبق لي في إقامتي الكويتية سوى يومين، وكان يتوجب عليَّ أن أجد طريقاً للفرار. بعد البحث واستخدام النقود استطعتُ الهروب مع مهربين عراقيين إلى مدينة الحسكة تاركاً هويتي الشخصية محتجزةً في مخيم الهول. لم أستطع الحصول على تذكرة طيران إلى دمشق، فسافرتُ إلى القامشلي، وهناك حصلت على ضبط شرطة يثبت ضياع هويتي، واستطعتُ حجزَ تذكرة طيران من القامشلي إلى دمشق عبر طيران الشحن الجوي «اليوشن» مقابل 30 ألف ليرة سورية عدا المبلغ الذي دفعتُه للشخص الذي وفر لي التذكرة، وكان جواز السفر كافياً للسماح لي من قبل سلطات المطار بالسفر عبر الطائرة.
كانت طائرة شحنٍ بدون مقاعد، وكنا في الطائرة حوالي 700 شخص وقوفاً، عند الإقلاع والهبوط كنا نسبح فوق بعضنا. بعد مرور ساعة و10 دقائق وصلنا دمشق، تنفستُ الصعداء، حجزتُ غرفة في أحد الفنادق لأريح جسدي الذي أنهك من سفر طويل، وفي اليوم التالي توجهتُ إلى دائرة الأحوال الشخصية لأستخرج بطاقة شخصية بدل التي لا تزال في حاجز الهول.
كان الأمر يسيراً عن طريق أحد السماسرة، وخلال ساعة واحدة كانت بطاقة الهوية الجديدة بحوزتي، والسمسار نفسه أمّن لي حجزاً في اليوم نفسه إلى دولة الكويت. دفعتُ مبلغ 850 ألف ليرة سورية ليتسنى لي أن أغادر الوطن، الوطن الذي لم يعد وطناً».
بهذه الكلمات ختم أبو القاسم واحدة من القصص الكثيرة على حواجز القوات الكردية، حيث يبيت الناس في حفر أشبه بالقبور في صحراء قاحلة، ما تسبب بموت ثلاثة أشخاص مصابين بالربو، ومريض بالقلب، وفق تقارير نشرتها عدة جهات.
الطريق إلى دمشق
طريق أبناء الفرات الثالث يذهب إلى دمشق مباشرةً، الرحلة التي كانت تستغرق 5 ساعات أصبحت مفتوحة الزمن، وقد لا يصل قاصدها، وإن وصل قد لا يعود.
أم بلال الثلاثينية، والقادمة إلى تركيا حديثاً بعد أن عاشت تجارب السفر القاسية من الدير إلى دمشق وبالعكس، ومن ثم إلى تركيا، تروي بعضاً من قصتها:
«كانت رحلتي إلى دمشق إجبارية بسبب مرض ابني، رغم خوفي من أجهزة الأمن كون زوجي مطلوباً لهم بسبب نشاطه الثوري. نصحني الأطباء بالخروج به الى دمشق، إذ لا يوجد في المنطقة طبيبٌ يحمل الاختصاص الذي يستطيع معالجة ابني الذي يعاني مشكلة دماغية.
المعاناة التي مررت بها للحصول على موافقة ديوان الحسبة في الميادين لا يمكن وصفها، من الحاجة لوجود مُحرَم إلى ضرورة الحصول على موافقة ديوان الصحة في ولاية الخير، وهي معاناة يمر بها كل من أراد السفر خارج حدود الولاية.
تم حلُّ مشكلة المُحرَم بفتوى من أمير الحسبة، بشرط أن ترافقني امرأة يتجاوز عمرها 50 عاماً، كون ابني قد اقترب من العاشرة من عمره. قمنا بغية ذلك بالتنسيق مع امرأة خمسينية مسافرة إلى دمشق، واتفقنا معها أن تقوم بإبراز هوية المرأة التي حصلنا على الموافقة باسمها بوصفها مرافِقةً لنا، وبذلك تكون قد سهّلت علينا السفر، وساعدناها نحن بدورنا على السفر دون أن تضطر هي للحصول على موافقة خاصة بها.
اتفقنا مع صاحب أحد الفانات مقابل 25 ألف ليرة للشخص الواحد، وكانت الرحلة عبر حواجز تنظيم الدولة داعش سهلة نوعاً ما كوننا نحمل موافقة سفر، لكنت المعاناة بدأت عند الحاجز الأول للنظام، ويقعُ قرب مدينة تدمر التي كانت قد خرجت للتو من خضم المعركة، وآثار الرصاص لا تزال مرسومة على جدرنها والجثث لا تزال على الأرض، وبقايا سيارات متفحمة تثير الرعب في القلوب.
كان الرعب بادياً على وجه عناصر الحاجز وهم يسألون عن أخبار عناصر التنظيم، وفي الوقت نفسه كانت معاملتهم جلفة مع الركاب، ولا تخلوا من الكلام البذيء. كان سائق الحافلة مطمئناً لما يجري كونه يعرف طريقة التعامل معهم، إذ سرعان ما أخرج بعض علب السجائر «كروزات الدخان» التي لم نعرف من أين حصل عليها بعد أن غادرنا مناطق سيطرة تنظيم الدولة، وأعطاها للمسؤول عن الحاجز الذي ابتسم ابتسامة صفراء فاسحاً المجال لنا.
بعد مغادرتنا الحاجز بمسافة قصيرة، وعلى يمين الطرق، كانت توجد آثار تجمعٍ بشريٍ وبقايا أطعمة. أخبرنا سائق السيارة أنها لأناس تم احتجازهم لفترة تزيد عن الشهر في هذا المكان بدون أي خدمات، لكن أحد الذين كانوا معنا بالسيارة تحدث عن ذلك الأمر بتفصيلٍ أكبر:
أنا مريض سرطان وأذهب بشكل شبه دوري إلى دمشق من أجل جرعات العلاج الكيماوي، وفي كل سفرة لنا قصة. في المرة الأولى تم تجميعنا في كراجات السويداء ومن ثم إدخالنا بعد معاناة كبيرة، وفي المرة الثانية تم تجميعنا لأكثر من شهر في المنطقة التي شاهدتموها قبل قليل، وتسمى مثلث المطعني على بعد 50 كم من الضمير.
كنا حوالي 60 عائلة معظمنا من دير الزور، وغالبيتنا من المرضى والنساء والأطفال، لم يسمح لنا النظام بالدخول إلى دمشق بحجة قدومنا من مناطق تسيطر عليها داعش.
كنا نفترش الأرض ونلتحف السماء، لم يقدم لنا النظام أي مساعدة سواء كانت إنسانية أو علاجية، وكنا نخضع لاستغلال تجار الأزمات الذين يتاجرون بكل شيء، ابتداء من علبة المياه وانتهاء بتهريب البشر. وانضمت لنا عائلات تاهت في بادية تدمر عند محاولتها العبور خارج سيطرة حواجز النظام.
الطفل سليمان خالد سليمان مصطفى، وهو من أبناء بلدة البوعمر، فارق الحياة دهساً تحت عجلات أحد سيارات النظام. كان ذاهباً إلى العاصمة مع والدته لكي تتلقى العلاج هناك، وتم دفنه في منطقة أبو الشامات.
في طريقنا نحو دمشق وقفنا على كثيرٍ من الحواجز، لكل حاجز قصة ولكل حاجز ثمن وطريقة تعامل، وتطول مدة السفر وتقصر حسب معاملة تلك الحواجز، وحسب مزاجية الموجودين عليها من عناصر وضباط.
تم توقيفنا على حاجز حرستا في مدخل دمشق ما يقارب الساعتين للتأكد من هوية أحد المسافرين، وذلك رغم سماعنا لأصوات الاشتباكات وإمكانية تعرضنا لرصاص القناصة من كلا الطرفين.
عند وصولنا إلى موقف السيارات القادمة من دير الزور تحت جسر الرئيس، بدأت رحلة جديدة من المفاوضات مع أصحاب تكاسي الأجرة الذين يطلبون أسعاراً خيالية لإيصال الركاب إلى المناطق التي يريدونها، وتزداد تلك الأسعار كلما كان المكان قريباً من مناطق الاشتباكات. وكان سائق سيارتنا قد أخبرنا أن أغلب أصحاب تلك التكاسي هم من عناصر الأمن، وهم إما يعملون لكسب عيشهم أو في مهمات لمعرفة القادمين وهويتهم.
الطريق من دير الزور الى دمشق الذي كان يستغرق عادة 5 ساعات، استغرقَ معنا أكثر من 14 ساعة، واحتاج سائق التكسي ساعتين بعدها للوصول إلى المكان المقصود. أذهلني عدد الحواجز التي قسمت دمشق، والتي إذا أردتَ تسيير أموركَ دون تعقيدات عليها فيجب أن تدفع ما فيه النصيب.
كان المبلغ الذي اتفقتُ عليه مع سائق التاكسي 2000 ليرة سورية، رغم أن المنزل الذي أقصده لا يبعد أكثر من 6 كم من مكان الانطلاق، لكنني اضطررتُ إلى دفعِ مبالغ أخرى للحواجز حتى لا يتم تأخيري، خاصةً أنني كنت خائفة ومتوترة وليس معي سوى ابني البالغ من العمر 10 سنوات.
كانت رحلة العودة إلى دير الزور أسهل نسبياً، رغم التدقيق على حواجز تنظيم الدولة التي تعمل على تفتيش الرجال والنساء ومصادرة كثيرٍ مما يحملونه معهم من دمشق، خاصة الوثائق الرسمية مثل جوازات السفر وغيرها بحجة أنها من إصدار النظام النصيري كما يقولون».
أم بلال التي التقيناها في تركيا كانت قد توجهت بعد عودتها إلى الدير بفترة قصيرة نحو تركيا، وقطعت في سبيل ذلك الدروب المؤلمة والخطيرة التي قطعها سوريون كثيرون غيرها عبر مناطق سيطرة القوى المختلفة، لكن معاناة أبناء الفرات تبقى مضاعفةً على أي دروبٍ يسلكونها، فهم أثناء مرورهم في مناطق سيطرة التنظيم متهمون بمحاولة الهروب إلى بلاد «الكفر»، وأثناء مرورهم في غيرها متهمون بالولاء للتنظيم الذي يحكم بلادهم بالحديد والنار.
موقع الجمهورية