لو عاد المرء إلى بداية الخطاب الإسرائيلي الإعلامي حيال الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، لتبين له مدى التهافت فيه: “أحداث شغب سكانية ترتبط بمطالب معيشية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد” وأنها “لا تختلف عن تلك الاحتجاجات الشعبية التي قد تحدث في أي بلد آخر”. بيد أن هذا “التهافت” يكون هكذا، حال كان المرء عربيًا وقتها، أو حال كان يقرأ هذا الخطاب الإسرائيلي اليوم.
ثمة شيء تغيّر، وتلك “الرواية” الإسرائيلية لم تعد مقبولة ولا بأي شكل من الأشكال. وقبل الالتفات إلى المديح، لا بدّ من تذكّر أن “رواية” إسرائيلية جديدة تهيمن اليوم وبكفاءة.
وأصل الروايات تلك، في صلب عمل “اللوبي الصهيوني” المنتشر في كافة العواصم الكبرى الفاعلة والمؤثرة، كما هو معروف. بيد أن قياس تأثيره، والنظر في أساليبه، وسبر كنهه وتحديد أهدافه، لم يكن كثير الورود في المكتبة العربية، وكان غائبًا عن الاختصاص ببلد بعينه. من الصحيح ثمة مقالات ودراسات، لكنها متناثرة تميل إلى الأحكام العامة المبتسرة وتفتقر إلى التركيز. وشاءت المصادفة ربما أن يكون الكتاب الأوّل عربيًا الذي يسد ثغرة في هذا المجال متزامنًا مع الذكرى المائة لوعد بلفور.
كذا فبعد مائة عام تقريبًا من الوعد الذي دأبت أدبياتنا على وصفه بـ “المشؤوم”، صدر كتابٌ يبحث في تأثير اللوبي الصهيوني في بلد بلفور؛ بريطانيا العظمى.
الكتاب المعني، للدكتور نواف التميمي، وتحت عنوان : “اللوبي الصهيوني والرأي العام في بريطانيا، النفوذ والتأثير”، وقد نشرته الدار العربية للعلوم ناشرون/ مركز الجزيرة للدراسات.
الكتاب فريدٌ في بابه، وينطلق من “أرض عذراء” إن جاز التعبير، ذلك لأن المؤلف يشير في نهايته إلى ندرة المراجع باللغة الإنكليزية التي تناولت “موضوع اللوبي الصهيوني أو المجموعات المؤيدة لإسرائيل في بريطانيا”، ولعل هذا ما يبرّر سمتين واضحين للكتاب: أسلوب الكاتب الأدنى إلى أسلوب الصحافة الاستقصائية التي تعتمد التشويق والتحشيد، وطريقة تبويبه التي تعتمد التدرج من التعريف التاريخي ببعض المصطلحات، ومن ثم النظر في تاريخ اليهود وانتظامهم في جماعات وأطر محددة في بريطانيا، وسبر الدعاية الصهيونية، وصولًا إلى وضع مسرد بأهم منظمات اللوبي الصهيوني في بريطانيا (عددها 15 وتنضوي تحتها مئات أخر)، والمعيار المعتمد ها هنا أنها “داعمة لإسرائيل”. ومن ثم ينتقل الكاتب إلى تحديد أساسيات عمل اللوبي ويقدم أمثلة ملموسة عن تأثيراته المتنامية على ما يبدو في الحياة السياسية في بريطانيا، إذ يذكر مثلًا كيف أن “مجلس القيادة الصهيوني” (نشأ عام 2003)، تعاون عام 2009 مع واحدة من أكبر شركات المحاماة في لندن من أجل مواجهة صدور مذكرة توقيف بحق تسيبي ليفني لارتكابها جرائم حرب ضد الفلسطينيين خلال حرب غزة، وأن الجهود المنهجية المكثفة والنفوذ الكبير أدّت كلها في النهاية إلى تغيير القانون.
ركزت فصول الكتاب الخمسة الأولى على الدعاية الإسرائيلية وأساليب اللوبي الصهيوني في بريطانيا، في “إدارة السمعة” و”تحسين الصورة”، بالتزامن مع تضليل الرأي العام الغربي، والسيطرة على أهم المنابر الإعلامية البريطانية حيال كل ما يمت للفلسطينيين بصلة؛ فمقابل “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، ثمة الإرهاب والتخلف الفلسطينيين، وغياب الديمقراطية وتفشي الفساد وما إلى ذلك. وبدت الأمور أوضح في مسرد أهم تلك المنظمات، حيث إن اهدافها أو المفاهيم التي تقوم عليها، تُظهر “الجانب اللغوي” المستعمل في الإعلام الغربي والبريطاني خاصة، عند التطرق إلى إسرائيل أو فلسطين. ولا يبدو الأمر منبت الصلة عن عمل إحدى منظمات اللوبي، التي تتخذ من واشنطن والقدس مقرين رئيسين لها، إذ أصدرت المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل عام 2003 “مشروع إسرائيل”، ونشرت معجمًا لغويًا شاملًا، للمصطلحات والألفاظ الواجب استعمالها.
يورد التميمي بتتبعه لمسار الخطاب والدعاية الصهيونية، وأثرها في الإعلام والحياة السياسية البريطانية، ملاحظة دقيقة، إذ يرى فيها: “أنموذجًا فريدًا من حيث بنية الخطاب الدعائي الذي يتغير ويتطور تبعًا للمتغيرات”. وهذا صحيح، وتمكن العودة إلى مستهل المقال وإعادة قراءة تهافت الخطاب الإسرائيلي حيال الانتفاضة الأولى.
ويقدم ملاحظة أخرى، إذ يلاحظ ازدياد عدد المنظمات الدائرة في فلك دعم إسرائيل، على وقع الأحداث السياسية، وبشكل خاص الانتفاضة الأولى، والحرب على غزة عام 2008، التي كشفت مثلًا موقف “المؤرخ الجديد” بني موريس وقتها، والحرب عليها أيضًا عام 2014، والأهم أيضًا حركة المقاطعة الـ BDS، التي أدت عملًا هائلًا في إبراز الصورة الحقيقية لما يجري في فلسطين.
بيد أن تغيير المزاج العام البريطاني نتيجة لذلك، وميله إلى القبول بالرواية الفلسطينية أكثر من الإسرائيلية في الألفية الثالثة خصوصًا، لا يعني البتة انتصار “قوة الحق” على “حق القوة”. إذ لا أوهام تداني التميمي الذي يضع في نهاية كتابه “خلاصات وتوصيات” تتميز بإدراك السياق أو السياقات التي تحكم حياة الفلسطينيين السياسية، وقد باتت ضيقة كما لا يخفى. بيد أنه يفتح المجال عبر اقتراحات عملية تقوم على التحشيد الممنهج في وسائل الإعلام، وبناء العلاقات مع النخب الفاعلة، ودعم حركة المقاطعة.
ضفة ثالثة
