حازم نهارمراجعات كتب

في تحليل البنية التسلطية للنظام/ حازم نهار

مع انطلاقة الربيع العربي، وضع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على عاتقه مهمة دراسة الثورات في المنطقة العربية، أسبابها وعواملها، دينامياتها، نسيجها الاجتماعي، مجرياتها، الأدوار الإقليمية والدولية المرافقة لها، المراحل الانتقالية التي تليها، ومآلاتها. وقد نشر المركز عدة كتب مهمة حول الثورة التونسية والمصرية واليمنية. أما الثورة السورية فقد حازت على النصيب الأكبر بحكم مدتها الطويلة وتعقد ظروفها وتطوراتها، وهنا أصدر المركز كتاب “العقد الأخير في تاريخ سورية: جدليّة الجمود والإصلاح” للدكتور جمال باروت، وهو من أهم الكتب التي تناولت تاريخ سورية السياسي والاقتصادي خلال العشرية الأخيرة، وكتاب “سورية: درب الآلام نحو الحرية” للدكتور عزمي بشارة، الذي تناول تاريخ الثورة وظروفها ومساراتها والعلاقات المحيطة بها خلال السنتين الأولى والثانية. وأصدر المركز حديثاً كتاباً آخر بعنوان “خلفيات الثورة” شارك فيه عدد كبير من الكتاب السوريين الذين تناولوا بشكل رئيس العوامل الدافعة باتجاه الثورة وأحوال النظام السوري السياسية والاقتصادية وعلاقاته الدولية، إلى جانب تشكيلات المعارضة السورية وخطابها السياسي ومعضلاتها. ويعكف المركز اليوم على العمل لإصدار كتاب جديد حول “المرحلة الانتقالية في سورية” بمساهمة مجموعة من الباحثين السوريين.

كتاب “خلفيات الثورة” من الكتب المهمة التي تخصصت في دراسة عوامل الثورة السورية وأسبابها، إلا أن الكتاب لم يقتصر على هذا الجانب، إذ تناول أيضاً مواضيع أخرى في غاية الأهمية. تحدث القسم الأول من الكتاب حول “أسئلة التنمية المأزومة والثورة”، وتناول القسم الثاني “أسئلة التسلطية والمعارضة والحراكات الثورية”، أما القسم الثالث فقد تخصص في “أسئلة الأبعاد الجيوسياسية لتحولات الثورة”. وقد شارك في هذا الكتاب أربعة عشر باحثاً سورياً.

لعل أهم المواضيع المتناولة في الكتاب جاءت في القسم الثاني الذي تحدث حول “أسئلة التسلطية والمعارضة والحراكات السياسية”، وفي الطليعة منها بحث الأستاذ جاد الكريم الجباعي الذي جاء تحت عنوان “البنية التسلطية للنظام السوري: النشأة والتطور والمآل”، وأعتقد أنه من أهم الأبحاث التي تناولت تشخيص بنية النظام السوري ومساراته وتحولاته.

يؤكد الجباعي على أن “الحرب الراهنة ليست سوى ذروة الحرب التي بدأت عام 1963، وشكلها الأخير، وحدودها القصوى”، وقد اعتمد الجباعي في بحثه مفهوم “البنية التسلطية” كمفهوم مركزي، انطلاقاً من مفهوم “الدولة التسلطية” الذي بلوره خلدون حسن النقيب، وقد حدّد فهمه لهذه البنية بدقة على أنها “تركيب معقد من خصائص الاستبداد التقليدي الذي خبرته سائر الأمم والشعوب، والخصائص العامة للتوليتارية الحديثة، مثل النازية والفاشية والستالينية، وما تبقى من خصائص الدولة الدستورية ومؤسساتها، وأيديولوجية إحيائية ذات أبعاد شعبوية وعنصرية في الوقت نفسه”.

ويرى الجباعي أن هذا المفهوم يختلف عن التوصيفات الشائعة للنظام السوري، مثل الدكتاتورية والاستبداد والحكم المطلق، إذ يختلف عنها أساساً – وفق خلدون حسن النقيب – بـ “الاحتكار الفعال للسلطة ومصادر القوة”، وهذا يتمظهر بالإصرار على اعتماد الحزب العقائدي الواحد بما ينطوي عليه من ميول شعبوية وعنصرية، والقدرة على اختراق المجتمع وتدمير الفئات الاجتماعية وتحويلها إلى جماهير، أي إلى سديم بشري مهلهل لا حول له ولا قوة. يضاف إلى ذلك القدرة على التحكم البيروقراطي بالمجتمع المدني وبالنظام الاقتصادي وعملية الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي والثقافي، فضلاً عن هدر إنسانية الأفراد، والاستهانة لا بحقوقهم المدنية والسياسية وحرياتهم الخاصة والعامة وكرامتهم الإنسانية فحسب، بل بحياتهم أيضاً.

انتقد الجباعي محقاً السطحية والتعسف في تحليل بنية النظام السوري، وهما اللتان تجليتا بوضوح في التوصيفات الأيديولوجية والأحادية الجانب، خاصة عندما يتم النظر لمرحلة ما بعد آذار 1963 من منظور الصراع الطبقي أو الصراع بين الريف والمدينة أو الصراع بين اليمين واليسار أو بين القوميين والقطريين، أو حتى التوصيفات المبنية على ردة الفعل تجاه الحدث القائم، كالنظر للصراع القائم بوصفه صراعاً طائفياً بين “الأكثرية” و”تحالف الأقليات”، إذ من العسير أن يؤدي أحد المداخل السابقة إلى “فهم سلطة مركبة ومتعددة الوجوه وفائقة القدرة”، فهذه السلطة ليست قادرة على التحكم في الموارد المادية والبشرية وتشكيل مؤسسات العقاب فحسب، بل على إدارة النظام الرمزي أيضاً كما تقول ليزا وادين في كتابها “السيطرة الغامضة”، وبمعنى آخر كما عبر الجباعي، نحن أمام سلطة قادرة على التحكم أيضاً بـ “نظام إنتاج المعاني والقيم وإنتاج (الحقيقة)” كسلاح للهيمنة.

يرى الجباعي، انطلاقاً من استكشاف الحوادث الراهنة في سورية، أن المؤسسة العسكرية-الأمنية، أو “مؤسسة الحرب والإرهاب”، على النحو الذي انتهجته في حربها السافرة على الشعب “هي النواة الصلبة للبنية التسلطية ومصدر مشروعيتها الفعلية، وأن وظيفتها الأساسية، إن لم نقل الوحيدة، هي حماية النظام، بما هو نظامها، و(الدولة) بما هي دولتها،  والاقتصاد بما هو (اقتصاد حرب)ها على المجتمع”. ويؤكد الجباعي، من خلال معرفة سجل تكاليف هذه المؤسسة، البشرية والمادية، المنظورة وغير المنظورة، وسجل حروبها الداخلية والخارجية، أنها “كانت وبالاً على المجتمع والدولة، على الاقتصاد والسياسة، وعلى الثقافة والأخلاق”. وفي هذا السياق يرى أن توصيفات السوريين المختلفة لبنية النظام، مثل “الدولة الأمنية” و”الاستبداد المحدث” و”الدولة السلطانية” و”نزع السياسة من المجتمع” و”عسكرة الحياة السياسية”.. ما هي إلا تعابير مخنوقة، إذ لم يكن بين السوريين من “يجرؤ على دراسة هذا السجل أو الإشارة إليه مجرد إشارة”. واستناداً إلى ذلك، يرى الجباعي أننا “إزاء سلطة لا تصنع الأفراد فحسب، مثل السلطة البطركية التقليدية، بل تصنع المجتمع وتحوِّله إلى معسكر، هو بالأحرى معسكر اعتقال أو (سجن كبير)، كل فرد فيه (مدان وتحت الطلب). السجن أو المعتَقَل والمدرسة (والمعهد والجامعة) والمصنع رموز تلخِّص أو تُكثِّف الخصائص التوتاليتارية، النازية أو الستالينية، في البنية التسلطية السورية”.

يكاد الجباعي لا يترك حيزاً أو تجلياً أو ركناً في الدولة والمجتمع إلا ويبحث فيه عن تجليات “البنية التسلطية” خلال الفترة الزمنية الممتدة من آذار 1963 حتى اليوم. فهو يدرس الانتقال من المرحلة الشعبوية الممتدة بين عامي 1963 و1970 إلى البنية التسلطية التي بدأت بالتشكل تدريجياً بدءاً من عام 1970، وتناول خلال الدراسة بشكل تفصيلي عمليات تنسيق بنية المؤسسة العسكرية الأمنية من خلال عدد من الآليات، كتسريح الضباط وصف الضباط والجنود غير المرغوب فيهم، والترفيع الاستثنائي للبعض، وإنشاء وحدات خاصة لحماية السلطة (وحدة المغاوير، سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، قوات الحرس الجمهوري)، وبناء “الجيش العقائدي”، وتوسيع جهاز الاستخبارات ووظائفه. وانتقل بعد ذلك إلى دراسة بناء الحزب “العقائدي” و”الثوري” من موقع السلطة الذي كان أداة فعالة ما بين 1970-1985 للسيطرة على الميول والاتجاهات الفردية وطمسها بما حوّله إلى مصنع لإنتاج “الكائنات التوتاليتارية”.

ويدرس الجباعي آليات تشكل البنية الريفية والأقلوية لحزب البعث والجيش، وأثر ذلك ومساهمته في تكوين البنية التسلطية، وهنا يؤكد، استناداً لمنيف الرزاز، أن “إعادة تنظيم الحزب وما رافقها من ملابسات وخلافات وتصفيات كانت عملية بناء حزب جديد (قائم بذاته) حول نواة عسكرية، صاحبة القول الأخير في كل ما يتعلق بسياسة ما ظل يسمى (حزب البعث العربي الاشتراكي) الذي سيتبع جناحه المدني جناحه العسكري، وتتوزع ولاءات أعضائه وكوادره بين مراكز القوى، ريثما تتحقق الغلبة للأقوى، وتخترقه الأجهزة الأمنية، كما اخترقت المجتمع والمنظمات الشعبية”. لكن الأهم من ذلك كله ما حدث بين عامي 1970-2000، فلم يكن هناك خلال هذه الفترة أي شكل من أشكال توزيع السلطة أو تقسيمها أو اقتسامها، ومن هنا يصف الجباعي صيرورة تطور النظام بأنها “صيرورة توحيد السلطة ومصادر القوة، ثم احتكارها، وانقسامها واقتسامها بعد وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد”. وبهذا يرى الجباعي أن دورة حياة النظام قد اكتملت: “من التشظي، أو الانقسام والاقتسام، إلى الوحدة، ثم إلى التشظي والاقتسام من جديد”. ووفقاً لذلك، فإن “ما يجري في سورية اليوم لا يعدو كونه شكلاً من أشكال تشظي مصادر القوة وتشظي السلطة وانكشاف جذرها الأصلي بوصفها علاقات قوة عارية، فضلاً عن تزعزع منظومة الولاء، إن لم نقل انهيارها. وهذا التزعزع نتيجة انقسام السلطة واقتسامها وتشظي مصادرها”.

ما كان لبناء البنية التسلطية أن يكتمل – كما يقول الجباعي- “من دون تنسيق بنى المجتمع، وهنا قام النظام بتجريد المجتمع من عناصر القوة، وتعطيل آليات الدفاع الذاتي التي يتوافر عليها عادة أي مجتمع، ونشر السلطة أفقياً وعمودياً، بحيث تغطي الجسم الاجتماعي كله وتخترقه، لا بصفتها سلطة القانون، بل بصفتها سلطة الاستخبارات”. وبالطبع ما كان ذلك ممكناً من دون الاستيلاء على منظمات المجتمع المدني وإلحاقها بالسلطة كاتحاد العمال واتحاد الفلاحين واتحاد الكتاب العرب والاتحاد الوطني لطلبة سورية والنقابات المهنية، وكذلك تأسيس منظمات جديدة كمنظمة طلائع البعث من أجل “تربية الأطفال تربية قومية اشتراكية تستمد مضامينها الفكرية والعقائدية من فكر حزب البعث”. وفي هذا السياق يأتي أيضاً السيطرة على المجال السياسي برمته من خلال تأسيس “الجبهة الوطنية التقدمية” أو كما يسميها الجباعي “مقبرة الأحزاب”، ومنع أي قوى معارضة من التشكل أو العمل.

يتحدث الجباعي بعد ذلك عن “إعلام الدولة التسلطية” الذي حدَّد وظيفته بالدعاية المكثفة لمزاعم الحزب وعظمة القائد، فهذا الإعلام يجعل من (القائد) “مثلاً أعلى ميتافيزيقياً، أفعاله فوق أفعال البشر، وأقواله تتنزل على القلوب حكمةً عُلوية. في كل تفصيل صغير من تفاصيل حياته حكمة وعبرة، منذ أن كان طفلاً وتلميذاً وطالباً ومناضلاً… هو الأول في كل شيء والقادر على كل شيء”. وهذا الإعلام لا يكون مفيداً وناجعاً “إلا باقترانه بالأيديولوجية من جهة، والإرهاب من جهة ثانية”. وهذا الأخير هو الوظيفة الأساسية للإعلام، كما يرى الجباعي، أي إظهار فداحة الثمن الذي على أي معارض للنظام أن يدفعه في كل مناسبة.

ويختتم الجباعي بحثه الثمين بالحديث عن تقلص قاعدة النظام الاجتماعية بعد عام 2000، عندما اقتصرت على شبكة المصالح المتقاطعة والمتوازية التي برع في إدارتها وتوسيعها، ويرى أن تغوّل هذه الشبكة وانتشارها في الاقتصاد السوري، وفق ما سمي (اقتصاد السوق الاجتماعي) الذي لا يمت بأي صلة لليبرالية “كان الصيغة الاقتصادية أو الشكل الاقتصادي لتغوّل الجيش والاستخبارات والشبيحة وولوغها في دماء السوريين والعمران السوري”. ولذلك، فإن الثورة السورية قد “كشفت هشاشة الدولة لا قوتها، وأنها دولة مافيات لا دولة مؤسسات”، الأمر الذي وضع مستقبل سورية وشعبها على المحك.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى