كريستيان دولاكومبان: الفلسفة مُعتقلة في أوشفيتس/ عمّار أحمد الشقيري
يَعتبر كريستيان دولاكومبان (1949 – 2007)، أن تاريخ الفلسفة ليس شيئاً آخر إلّا تاريخاً سياسيّاً منسوجاً من الصراعات والمعاناة الإنسانية. وانطلاقاً من هذا الاختزال، اعتبر، في كتابه “تاريخ الفلسفة في القرن العشرين”، ما جرى لليهود في معتقل أوشفيتس، “رمزاً أبدياً” للمعاناة الإنسانية.
تبعاً لذلك، حملَ “الآراء الفلسفية المسبقة” التي عنده، كما يعترف في المقدّمة، ليختار “أهم الفلاسفة” وتياراتهم، ويضعها – بما بدا أنّه تاريخ – في عمله الصادرة ترجمته حديثاً عن دار “جداول”، ومؤسّسة “مؤمنون بلا حدود”، بتوقيع حسن احجيج.
يستحضر دولاكومبان مقاطع طويلة من سيَر بعض الفلاسفة، بحجّة أنه من “الصعب قراءة بعض المفكّرين قراءةً سليمةً، من دون معرفة خلفيتهم”، وما يتكشّف أثناء القراءة هو أن هدف الاستحضار يأتي لقياسِ مدى اقتراب الفلاسفة والتيارات الفلسفية أو ابتعادها من “أوشفيتس”، ومن بعده “إسرائيل”.
يرى دولاكومبان أن القلق في العالم الفلسفي، مع الحرب العالمية الأولى، تسبّب في سقوط أبرز الفلاسفة في إغواء الوطنية، أمثال هرمان كوهن وماكس شيلر وهنري برغسون. ولأن الفلسفة لم تحدس الكارثة أو تتنبأ بها، ثم عجزت عن استخلاص الدروس منها بعد انتهائها، فإن القلق بدا واضحاً في أهم المؤلّفات، وهنا يضع إلى جوار كتاب “الوجود والزمان” لهايدغر، كتاب “نجمة الافتداء” لليهودي فرانس روزينتسفايغ، الذي يعكس الانشغالات الروحية للجماعة اليهودية.
يحصر دولاكومبان، هدف الفلسفة، في هذه المرحلة، بأربعة تياراتٍ سعت كهدف أولوي إلى تجاوز الميتافيزيقا، رموزها: روزنتسفايغ وهايدغر ولينين وكارناب، حيث نادى الأخير بمعية مجموعة من العلماء بضرورة أن تحلّ العلوم الموجودة محل الميتافيزيقا. ليجتهد، بعد ذلك، في تجميع أكبر قدر ممكن من الفلاسفة والمفكّرين اليهود للبرهنة على أنهم أساس التطوّر الفلسفي في ألمانيا، والتعريف بهم لن يكون على أساس إسهاماتهم، بقدر ديانتهم.
في فصل بعنوان “التفكير في أوشفيتس”، يمعن دولاكومبان في مديح الفلاسفة الألمان اليهود خلال الثلث الأول من القرن العشرين، ويضع غيرهوم شوليم الذي أمضى حياته في تحليل القبلانية اليهودية، وتأسيس الأكاديميات الإسرائيلية، ومن بينها “الجامعة العبرية”، بعد إيمانه بالصهيونية كرمز لبناء “الصرح الأخلاقي” للأمّة الجديدة، أي “إسرائيل”، إلى جوار الفيلسوف اليهودي بوبير، وأبعد من ذلك، يرجع “مدرسة فرانكفورت” لجهود الفيلسوف الألماني اليهودي ماركس هوركهايمر.
يستبدل دولاكومبان المسألة اليهودية، بالحرب الباردة كوعاء يضع فيه المشتغلين بالفلسفة للتقييم. ومن هذه الزاوية، يأخذ مشوار كارل بوبر في نقد الماركسية، إلى جوار ريمون آرون حتى انهيار جدار برلين، الوقت قائلاً بأن بوبر “أخطأ عدوّه خمسين عاماً”.
في الفصل الأخير من العمل، “مساءلة حول العقل”، يدفع دولاكومبان بفكرة توقّف أوروبا عن الإيمان بمستقبلها في الخمسينيات، وانتشار التشاؤم، والسعي بمهمّة فهم العالم بدلاً من تغييره.
بالتوازي ظهرت حركتان؛ البنيوية التي انشغلت في تحليل العمليات الرمزية بواسطة “البنيات”، بينما تلخّصت مهمّة الثانية بالعثور على المعنى المفقود في الثقافة الحديثة بواسطة التأويل، بقيادة هانز جورج غادامير، لينتهي بعرض منجزات غاستون باشلار وألكسندر كواري وجاك لاكان.
أخيراً، استبعد دولاكومبان – وهو الذي شغل منصب مدير “المركز الثقافي الفرنسي” في تل أبيب – كل فلسفة ناطقة بالإسبانية، تحت حجّة أن الفرانكوية عزَلتها، بالإضافة إلى استبعاده الفلاسفة الأميركيين اللاتينيين ونتاجات أفريقيا وآسيا، في نهجٍ أقرب ما يكون باعتقال تاريخ الفلسفة في القرن العشرين داخل “أوشفيتس”.
العربي الجديد