“كسب”.. أيام الجحيم/ هيفاء بيطار
“كسب”، جنّة الله على الأرض. يُجمع على ذلك الوصف كل مَن زارها وسحرته طبيعتها وطيبة سكانها، ومعظمهم من الأرمن. أذكر لما سافرت إلى أميركا للمشاركة في مؤتمر أدبي، كيف كان الأميركيون، وخاصة ذوي الأصول العربية، يسألونني عن “كسب”، إذ لم يُفارقهم سحرها رغم مرور سنوات طويلة على زيارتهم لها، وبعضهم يذكر المطاعم وسط الطبيعة الخلابة، والمنتجات المميّزة التي يصنعها الأرمن ويبيعونها. هل توقّع أرمن “كسب” والنازحون إليها ـ خاصة من حلب ـ أن تتحوّل حياتهم إلى كابوس بين ليلة وضحاها؟
صرتُ أفهم عبارة: “ولا في الأفلام”، كعبارة تُعبّر عن الاستحالة والغرابة معاً، لكن ما يحصل في سوريا هو أكثر من الاستحالة والغرابة، إنه بلا مُبالغة تجليات الجحيم، كما لو أن الجحيم يُمكنه أن يُبدع أيضاً وأن يبتكر أشكالاً وتنويعاتٍ للشر المُطلق، للشر بأفحش وأحقر تجلياته.
في اليوم الذي “هَجّ” فيه أرمن “كسب” ومَن معهم من نازحين إلى اللاذقية، كان مشهداً مُروّعاً. شهدتُ، في حارتي التي تسمى “شارع الأمريكان”، مشهداً حُفرَ في ذاكرتي كوشم، شاحنةٌ ضخمة توقّفت وبدأ فيضٌ لا نهاية له من أطفال ونساء ينزلون منها، ثم بدأ البعض من الشبان بإنزال صررٍ رمادية اللون بطول إنسان، أسطوانية الشكل، اعتقدتُ للوهلة الأولى أنها جثامين، فسوريا بلد الجثامين وبلد المواكب من الشهداء، ولأن منظر الشاحنات المُحمّلة بأطنان من الشهداء محفور في ذاكرتي وذاكرة كل سوري، فقد عذرتُ نفسي، إذ تخيّلت للوهلة الأولى أن هذه الصرر الرمادية ليست سوى جثامين لسوريين! بل إن معظم السوريين صاروا يستعملون عبارة: محظوظٌ مَن يُدفن، محظوظٌ مَن يجد أهله جثته أو نِتفاً منها ليدفنوها.
كان صوت بكاء الأطفال يُجمِّد الدماء في العروق، بكاءٌ من نوع خاص، بكاءُ طفلٍ مذعور حتى حافة الجنون، بكاء طفلٍ سُحقت طفولته بوحشية، منظر الأطفال المذعورين وعويلهم جعل كل مَن يقف في الشارع يبكي وهو يرى إخوته من “كسب” كيف تدفّقوا إلى اللاذقية كما لو أن مدفعاً قذفهم من بيوتهم إلى المجهول.
بعض هؤلاء النازحين كانوا قد نزحوا مُسبقاً من حلب وريفها، وحاولوا بناء حياة أو ما يُشبه الحياة في “كسب”، ثم وجدوا أنفسهم مضطرين للنزوح ثانية، كما لو أن قَدَرهم أن يذرعوا الآفاق سدى، نزوحٌ تلو نزوح أو نازح ويُعيد. استوقفتني طفلة أرمنية اسمها “هاسميك”، عمرها عشر سنوات رفضت أن تدخل المنزل الذي قدَّمه أحد المُحسنين لعدة عائلات أرمنية نزحت من “كسب” بعدما انفتح باب جهنم عليها. هاسميك انزرعت في الشارع وثبّتت قدميها وصرخت: “سأعود الآن، الآن إلى كسب”، وفشلت محاولات أهلها وأصدقائها في المأساة في إقناعها بوجوب الدخول إلى البيت، لكن ابنة السنوات العشر انهارت ولم يستطع عقلها استيعاب كل هذا الإجرام والقسوة، ولم تفهم لماذا “هجّوا” من “كسب” بثيابهم، وبعضهم لم يتّسع له الوقت ليلبس حذاءه أو ليأخذ الحد الأدنى من لوازمه. انهارت هاسميك في الشارع ولم تدخل البيت الغريب إلا بعدما أعطاها الطبيب إبرة مهدئة جعلتها تدخل في رحمة الغيبوبة، الرحمة الوحيدة في سوريا.
غصّت اللاذقية بالنازحين من “كسب”، وخاصة ما يسمى “كيدون الأرمن”، وهو تجمّع للأرمن في اللاذقية يضم بيوتاً ومدرسة ودكاكين. فاحت رائحة الحزن في اللاذقية، لكن الأفظع أن رائحة الكارثة غطّت عليها حين بدأت الصواريخ تنهال على اللاذقية والقرى القريبة منها، وأدى سقوط عدة صواريخ في شارعين رئيسيين في قلب المدينة إلى إحداث حالةٍ من ذهول الذعر لدى الجميع، سكان اللاذقية والنازحين إليها والذين يفوق عددهم المليون ونصف المليون. وبدأ سؤال يتفجّر من النظرات والشفاه المُلصقة بصمغ الخوف: إلى أين سنهجّ إذا انفجرت اللاذقية؟ لم يبقَ مكان في سوريا إلا تحوّل إلى جحيم، إلا أمطرته الصواريخ والبراميل المتفجرة.
قالت لي إحدى صديقاتي في حمص: “حين تقفين في أول حمص، ترين آخر نقطه فيها، لأنها مدمّرة تماماً. لا شيء يعيق نظرك عن رؤية نهايتها”. هذه حال درعا وريف حلب ودير الزور وإدلب، لم يبق من وهم أمان سوى الساحل السوري، فإلى أين سينزح سكانه إذا انفجر وتحوّل كغيره إلى جحيم؟ لا مكان آخر، لا يابسة آمنة، على الجميع أن يتعلّم السباحة ليرموا أنفسهم في البحر، وعلى الجميع أن يقتنوا دواليب شاحنات تماماً كتلك التي تستعمل في الحواجز، لكن ليستعملوها كطوق نجاة إذا اضطرّوا لرمي أنفسهم في البحر. لا أبالغ ولا أسخر، لكن المستحيل هو الذي يحصل في سوريا.
العديد من العائلات نزحت من ريف حلب وإدلب إلى “كسب”، وما كادوا يلتقطون أنفاسهم ويرممون خراب نفوسهم ويلملمون ما تبقى من أمل باستقرار وعيش تحت سقف، حتى وجدوا أنفسهم كالعصافير المذعورة مضطرة للهجرة ثانية إلى منطقة لا أحد يعلم إن كانت آمنة، ومتى سيقرّر المتحكّمون بمصير السوريين أن يفجروها. اللاذقية والساحل السوري على فوهة بركان.
كم طفلٍ سوريٍّ انهارت أحلامه وسُرقت طفولته وشوّهه الذعر مثل هاسميك، الطفلة الأرمنية التي أصيبت بانهيار عصبي من دون أن يبالي بها أحد من صنّاع القرار وأصحاب المؤتمرات التي تدعي الاهتمام بإنقاذ سوريا؟ مَن يبالي بأطفال سوريا؟ مَن يبالي بالنازحين من “الدرجة الأولى”، أي الذين نزحوا مرة واحدة، ومن “الدرجة الثانية”، أي الذين نزحوا مرتين، وربما سيكون هناك نازحون من “الدرجة الثالثة”، وسيتحوّل سكان سوريا إلى دوامة من النزوح، كما لو أنهم فرقة غجرية تتنقل من مكان إلى مكان، تذرع الآفاق سدى. هل يستطيع عقلٌ بشريّ تخيّل معاناه نازح، أو نازف؟، والفرق حرف واحد، كما لو أن النزيف مرافق للنزوح.
أحد أصدقائي، من أرمن “كسب”، عرض لي فيلماً على “يوتيوب” لمنزله وهو يحترق. بكى وهو يقول لي: “ليتني استطعتُ أن أحضر معي إلى اللاذقية ألبوم الصور فقط، لأنني أريد أن أحتفظ بصور أطفالي في بيتهم، بصور أعياد ميلادهم وصور أثاث منزلهم الذي تحوّل إلى حطام. على الأقل سيتذكرون طفولتهم وصباهم في بيتهم في كسب”. ثم صمت واجماً ومذعوراً وقال كمَن يُحدّث نفسه: “هذا إنْ بقوا على قيد الحياة”.
ملحمة الألم السوري تبدو عبثية ولا نهاية لها. أصبح كل سوري، مهما كانت طائفته أو انتماؤه، سواءً أكان موالياً أم معارضاً، أو لا هذا ولا ذاك، واثقاً من أنه كبش فداء شياطين العالم، وأنه أعزل ووحيد في مواجهة قدرٍ وحشيِّ القسوة. وأصبحت مظاهر الاكتئاب واليأس فاضحة ولا يُمكن المكابرة وتزويرها على الوجوه. ولأنّ لكلّ مرحلةٍ من المأساة السورية عنواناً، فعنوان هذه المرحلة: نازح ويُعيد. فعلى النازح أن يتحضّر دوماً لنزوح جديد حتى يوم القيامة.
أنحني لكِ حبيبة قلبي، هاسميك، التي أرى فيك كل أطفال سوريا، والتي لا يزال صوت صراخك وبكائك يحفر أثلاماً من الألم في روحي. وقدماك الصغيرتان راسختان كجذور نبتةٍ تعشق الأرض على رصيف الحياة. صوتك الذي صفع صوت الرصاص والصواريخ وأنتِ تصرخين بملء حنجرتك: “أريد أن أعود إلى كسب”. “كسب” جنّةُ الله على الأرض. الجنّة التي قدّروا لها أن تصير جحيماً.
* كاتبة من اللاذقية
العربي الجديد