كيت ميتشل: ضلع ثالث في رواية التاريخ/ عمّار أحمد الشقيري
حدّق النقد طويلاً في التاريخ والرواية التاريخية والعلاقة بينهما. وكانت الذاكرة تحوم حولهما من دون أن تأخذ مكانةً محورية، إلا أن جهوداً نقدية حاولت نصب علاقة ثلاثية يكون الضلع الثالث فيه للذاكرة، بل ومنحها دوراً محورياً في هذا المثلّث، بعدما كان يُنظر إليها بشيء من الازدراء، كونها “لا تنتج عن موضوعيةٍ”، أو بوصفها خاضعة للتأريخ.
من بين هذه المحاولات كتاب “التاريخ والذاكرة الثقافية في الرواية الفيكتورية الجديدة” (نينوى) لأستاذة الأدب الإنجليزي في “الجامعة الوطنية الأسترالية”، كيت ميتشل. الكتاب الذي صدر بترجمة أماني أبو رحمة، سعت فيه الكاتبة إلى رفع الذاكرة في هذه العلاقة إلى فاعل على نحو تأسيسي.
لا يقتصر جهد المترجمة على النقل من لغة إلى أخرى. تناولت أبو رحمة، وهي مختصّة في النقد ودراسات ما بعد الحداثة، في المقدّمة طريقة ميتشل بعين الناقد، ووضعت الدراسة أمام سؤال مفصلي يتعلّق بحضور الماضي في الحاضر.
بعيداً عمّا حمله العهد الفيكتوري (1837 – 1901) من صفات، تربط ميتشل هذا العهد بـ”ما بعد الحداثة”، بوصفه شكلاً حديث التكوّن من أشكال ما بعد الحداثة الاجتماعية والثقافية. تعتمد على رأي كريستين كروجر التي تذهب إلى أن مصطلح ما بعد الحداثة استُخدم كمرادف للعهد الفيكتوري، حيث جرى الخروج فيه عن سلطة التاريخ التقليدية في وجوب توخّي الدقّة والأصالة، ليفتح تبعاً لذلك آفاقاً جديدة لدور الخيال في التذكّر التاريخي، لكن بعيداً عن الإخلاص التاريخي من جهة، ومشكلة التمثيل من جهة أخرى.
ورغم صرخات الازدراء لهذا العهد التي أطلقها أمثال إزرا باوند في مصطلح “فيكتوريانا” المتهكّم، تضاعف ومن منتصف القرن العشرين إلى نهاياته، الاهتمام بهذا الماضي في كثير من مناحي الحياة الثقافية داخل بريطانيا، خاصة في الأدب، والذي تطلق عليه ميتشل “التودّد للأدب والثقافة في العهد الفيكتوري”، لدرجة دفعت عدداً من الروائيين إلى استعادة ذلك العهد وتوظيفه في رواياتهم بعدّة أساليب سردية؛ من بينها: إعادة تركيب ذاك العهد كاقتباس لمحات تاريخية منه، أو إعادة كتابة الرواية الفيكتورية، أو محاكاة أحداثها، أو جعل أحداث أو فترات هامشية أرضاً لأعمالهم. وامتدّ هذا “التودّد” إلى قارّات أخرى خارج بريطانيا؛ حيث حثّت الرواية الفيكتورية الجديدة الكتّاب والقرّاء والنقّاد على مواجهة مشكلة الذاكرة والتاريخ.
تحفل الأعمال التي اختارت ميتشل دراستها بقضايا من قبيل كيفية تقديم الماضي الفيكتوري للقرّاء، وكيف يمكن جعل العودة إلى الوراء ممكنة، وما الذي يمكن تضمينه في العودة لذلك العهد، والأهم ما الذي يعنيه أسلبةُ الماضي لإعادة استهلاكه في الحاضر.
تتبّع دراسة ميتشل هذه، كما تقول، الطرائق التي ابتكرتها الرواية المعاصرة في العودة إلى الحقبة الفيكتورية أسلوبياً أو موضوعياً. وتطرح أسئلة عن موقف الذاكرة التاريخية في تلك الروايات، وتتناول جوانب الفيكتورية الجديدة التي أسهمت في تعزيز وانتشار هذا الجنس الأدبي الفرعي وتحويله إلى جزء من الرواية التاريخية، حيث عمل هذا النوع من الإسهام الفيكتوري الجديد على تقديم مساهمة يتم تذكّر الماضي من خلالها بوسائل بعيدة عن الخطاب التاريخي غير التخيّلي.
تناقش ميتشل الأشكال الملتوية من التاريخ والرواية التاريخية بوصفها أدوات للمعرفة التاريخية، مستكشفةً، كيف بُنيت العلاقة مع التاريخ وكيف أثّر ذلك على المقاربات النقدية للرواية التاريخية، ثم التحوّل بعد ذلك إلى الاهتمام النقدي الحالي “بالتخييل التاريخي” الذي يُحاول تناول كثرة الطرق التي نفكّر بها في التاريخ اليوم،
مقترحًة أن “مقاربة الروايات الفيكتورية الجديدة بوصفها نصوص ذاكرة، تمكنّنا من التناول النقدي لكثير من الصيغ التاريخية التي تمثّلها”.
تقول ميتشل عن سبب اختيارها الروايات مجال الدرس في كتابها بأنها “تفاوتت في نظرتها للماضي، ولأنها كانت الأولى في رصد التحوّل إلى مفهوم جديد للتاريخ والرواية التاريخية، حيث تظهر فيها الذاكرة بوصفها عنصراً فاعلًا، وذا صلة مهمّة”. وتركّز على تلقّي هذا الجنس الأدبي وإداركه، لا تتبّعه من حيث قدرته على إنتاج المعنى التاريخي.
العربي الجديد