لا ملامح للغريب/ حسام موصللي
تدرك جيداً رغبتك الشديدة في ذرف الدموع، لكنك تفضّل أن تمارس فعلاً كهذا في عيادة دافئة مستلقياً على كنبة من الجلد البنّي المحروق، كتلك التي اعتاد آل باتشينو أن يصدر أوامره من عليها، وكل ذلك أمام عيني اختصاصي نفسي فقط. لا لأنك من تبشرّ بالرجعية وتؤمن بأن الرجل لا يبكي إلا سراً في حالات الضرورة القصوى، بل لأن أحداً لن يتيح لك مجالاً لتبكي أمامه من دون مقابل، والطبيب النفسي في هذه الحال يكون الأكثر تصالحاً وصراحة معك، فهو على الأقل يطالبك بالأجرة علناً وعاجلاً.
* * *
سيكون من الطبيعي جداً أن ترى الناس يسيرون رأساً على عقب، بل ربما عليك أن تستغرب إذا ما رأيت قدم أحدهم على الأرض، على عكس البقية الذين جعلوها مشرعة في الهواء وفقاً لمتطلبات المرحلة الحرجة غالبا! كيف لا، وأنت في بلد تُطرَد فيه من الجامعة، وتُسجَن في أقبية الأمن والمخابرات لمجرد أنكَ عندما سمعتَ عن أعراض الديكتاتورية في محاضرة علم الاجتماع، رفعتَ يدك ودفعتكَ العزة بالنفس لتسأل الدكتور المدجج بالشهادات الروسية الصنع: “هل من الممكن أن تذكر لنا مثالاً محلياً على ذلك؟”.
* * *
نحن الآن في زمن أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى منظمة تعنى بحماية الأوراق والمطالبة بكسر الأقلام التي تنال منها يومياً. فعندما ترى أحد الكتّاب المشاهير افتراضياً، والمعروفين بالأفلاطونية جهراً وبالانحلال التسعيني التقليدي ضمناً، وهو يطرح على إحدى الفتيات، بعد خمس دقائق من التعارف، عرضاً بأن تعمل كمذيعة تلفزيونية لمجرد أنها فاتنة ولأنها أرسلت له بعدما وافق على صداقتها على الـ”فايسبوك”: “شكراً على الإضافة تقبرني”، فإن من ممارسة العدل وإعادة الطبيعة إلى توازنها سيكون أن يلقي القبض على ذلك الكاتب رجل أعور وأعرج، يمتلك ورشة نخاسة صباحاً، ويدير ليلاً شبكة من قطّاع الطرق والنشّالين في احد الأحياء التي تقع سُلطة الطاعون في إسبانيا العصور الوسطى.
* * *
لم يعد الأمر ليقتصر على تجسيد التقاطٍ بصري ببضع كلمات منمّقة، أو حتى أن تخطّ سطراً من الهراء من باب تزييت الأصابع. لم يعد السؤال متى أو كيف أو لماذا، بل السؤال الآن مَن. مَن أنتظِر؟ مَن القادم؟ مَن صاحبُ الظلِّ الذي يتراقص خلف كتل رَملٍ تضاجع عاصفةً بعنف؟
لا مكان لمعادلات المنطق في جواب مَن، ربّما لأن الشمس لم تعد تكفي لتكشف معالم وجهٍ يلوح في البعيد، أو لأن القادم كيانٌ بماهيّة لم تسجّلها الذاكرة يوماً، كإله يرتدي التوكسيدو، أو كأنثى كاملة.
لا تُتعِب نفسكَ في اقتفاء أثر الغريب، ولا تفكر في حساب المسافات أن تضرب السرعة بالزمن، فالغريبُ لا قرآن له. قد يكون مستلقياً في إحدى ساحات روما، أو قتيلاً أرداه أبناء الدنيا ثم رموه على شاطئ أمهم، أحياناً تراه في باريس، يتحدّى تمثال المفكِّر أيهما أكثر صبراً على الانتظار، في كلّ مرة يفوز فيها الغريب، تقترب سرعتكَ من الصفر أكثر.
خمّن إذا ما أردت، ليس الغريب الله، فاللهُ انعكاسٌ محمرٌّ لوجهكَ في بقايا المرآة المكسورة، عندما قررتَ ذات يوم أن تغادر الألم والأوكسيجين فأجدتَ بعثرةَ الزجاج، وأبدعتَ في نحت الجرح، لكنك لم تكن كافياً ليستمرّ النزف! ولو كان الغريب مفتوناً بحناجر المتضرّعين، لما وجدتَ وقتاً لتُتقن التوازن على حبّات الرمل.
* * *
باعث خيميائي وبعثي كيميائي
تُعتبر “الخيميائي”، التي صدرَت في 1988، الرواية الأشهر على الإطلاق للبرزايلي باولو كويلو، يحكي فيها قصّة راعٍ إسباني يراوده الحلم نفسه مراتٍ عدة عن كنزٍ دفين بالقرب من أهرامات مصر، فيقرر أن يجسّد حلمه ويحوّله إلى حقيقة. يمضي سانتياغو برحلة مثيرة ملؤها المغامرات، ويستسقي خلالها الكثير من العبر والمواعظ في مختلف جوانب الحياة. خلال رحلته هذه يلتقي بإنكليزي يبحث عن حلمه أيضاً. كان الإنكليزي خيميائياً، والخيمياء هي عملية تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة كالذهب والفضّة. يسير الاثنان في دربهما الطويل معاً، ويتشاركان بضع مغامرات ليصلا في النهاية إلى دير قبطي تنتهي عنده رحلة الخيميائي الذي وجد أسطورته الشخصية بعدما استطاع أن يحوّل كميّة من الرّصاص إلى ذهبٍ خالص. هنا، يعود سنتياغو وحيداً ليتابع البحث عن كنزه.
خارج طيّات الكتب وما يلتهمها من غبار، ظهرت قصّةٌ أخرى، “الكيميائي”، قصّة واقعية حدثت في 21 آب من العام 2013، الشخصيّة الرئيسية فيها سفّاحٌ يدعى بشار الأسد، لا يزال إلى الآن على قيد الحياة، بل لا يزال أيضاً يعتلي كرسيَّ الرئاسة ضارباً بعرض الحائط كلّ المفاهيم الأخلاقية والإنسانية ورغبةَ شعبٍ كامل بالخلاص من ساديَّته وجنونه. يبدو أن هذه الشخصية الرئيسية في هذه “الكيميائي”، كما هي حال سانتياغو، قد ذهب بعيداً لتحقيق حلمه الذي يرى فيه نفسه كسرى جديداً، يحكم بيد من حديد، ويذبح من يريد، ويأسر من يريد متى شاءت رغبته اللامحدودة بإراقة الدماء، أو رفع أحدهم رأسه في وجهه وصرخ لا أو كفى. أثناء رحلته تلك، أقدم على ارتكاب مجزرة راح ضحيّتها قرابةَ ثلاثة آلاف أغلبهم من الأطفال والنساء، لينضمّوا إلى ما يزيد على المئة ألف من الأرواح التي حصدها السفّاح قبلهم في رحلته بحثاً عن أسطورته الشخصية!
في رواية “الخيميائي” يمكنك أن تقرأ جرعات طافحة من الأمل، وحبّ الحياة، والسعي نحو حلم مشرق بالرغم من كل الظروف السيئة التي كانت أحياناً أقرب إلى الموت من الحياة، أما في “الكيميائي”، فالرصاص لم يتحوّل إلى ذهب، بل صار موتاً يتربّص بالجميع في كل ساعة ووقت، وصورة القادم الأسود هي الأكثر سيطرة على الرغم من كل محاولات تلوينها. فحيث تدور أحداث الكيميائي لم يسلم أحد من الأذى، لا بشر، ولا حجر، ولا حتى الهواء الذي بات مشبعاً بالدم والخوف وأنّات الأمهات والآثار الكربونية لغاز السارين. بل حتى أن قطيع الذئاب الذي يرعاه بشار الأسد لم يكن بمنأى عن أذاه أيضاً!
يقول ملكيصادق، وهو الملك الذي فسّر لسانتياغو حلمه، “يجب أن تقرأ الإشارات التي تساعدك على معرفة طريقك”، وهذا ما جعل بطل الرواية يتوحّد مع الكون شيئاً فشيئاً، إلى أن أجاد قراءة النجوم، واقتناص لحظات الهدوء في أعتى المواقف وأشدها إرباكاً. بالمقاربة مع الكيميائي، نرى قيصر روسيا قد فعل الأمر ذاته مع مسخ قصّتنا، وذلك عندما فتح له عينيه على الخطوط الحمراء لأوباما، فأدرك أنها خضراء في الحقيقة، وأن في إمكانه أن يفعل ما يشاء في سبيل تحقيق حلمه بالبقاء وحشاً مسعوراً يسدّ كلّ منفذٍ للشمس والحرية ليحول دون وصولها إلى وطن يخبو نجمه منذ مدّة شارفت أن تصبح ثلاث سنوات أرضيّة.
لطالما كانت هذه الأرض منبعاً للحياة والأمل، ومحطّاً لم تغفله أكثر مخطوطات السحر ومغامرات الرؤى إثارة التي خاضتها البشر والآلهة في الأساطير قبل التأريخ وبعده. ربما لتوافر شروط الضوء، ولأنّه لا بدّ أن يحتجب أحياناً ليذكّر الجميع بأنه أصل الحكاية، شاءت الأقدار أن يكون “الكيميائيُ” فصلاً جديداً من فصول الرواية الكبرى، لكنّه لن يتجاوز صفحة أو صفحتين من الذاكرة التي تختزنها روح المكان، تلك الروح التي سترسل إليك إشاراتها حتماً، كما في تلك اللحظة الفريدة عندما تلمح طفلاً ينام بهدوء على ما تبقّى من ركام منزله المهدّم، ثم يبتسم فجأة ودونما سَبب، سوى أن الضوء قد زاره في الحلم ليشير إليكَ أن تابع البحث عن أسطورتكَ الشخصيّة؛ أن تعيش بحريّة.
كاتب سوري
النهار