انفجار دمشق: رؤوس المشورة أم رؤوس القرار؟
نقولا ناصيف
ردّ الفعل الفوري لمقتل أربعة مسؤولين أمنيين سوريين كبار تصعيد المواجهة بين نظام الرئيس بشّار الأسد ومعارضيه المسلحين في دمشق وحلب. كلا الحادثين ذو دلالة وارتدادات، من دون أن يُعجّلا الخاتمة: ضرب قلب المؤسسة الأمنية المتماسكة، ودخول المكان الآمن في النظام.
لم يكن سهلاً على الرئيس السوري بشّار الأسد الخروج من وطأة الضربة القاسية التي تلقّاها نظامه الأمني بمقتل أربعة من رجالاته، في تفجير 18 تموز، في مكتب الأمن القومي، وخصوصاً أن التفسيرات التي أعطيت لمنفّذي الاغتيال الجماعي أنهم اقتربوا أكثر ممّا كان متوقعاً من إحدى الحلقات القريبة من الأسد. ولم تكن تلك، بالضرورة، الحلقة الأضيق والأقرب. ولا أوحى مقتل الضبّاط الكبار بنهاية وشيكة للنظام، ولرحيل الرئيس، بالقدر الذي انطوى عليه التفجير.
وباستثناء نائب وزير الدفاع العماد آصف شوكت، لم يكن المسؤولون الأمنيون الثلاثة الآخرون، العماد داوود راجحة والعماد حسن تركماني واللواء هشام بختيار، في الحلقة الأضيق على أهمية الأدوار الأمنية التي اضطلعوا بها. اثنان منهم شغلا موقعين غير لصيقين بصانعي القرار الأمني من حول الرئيس. الأول تركماني معاون نائب رئيس الجمهورية في منصب محدث منذ إبعاده عن منصبه كوزير للدفاع عام 2009. والثاني بختيار، على رأس مكتب الأمن القومي الأكثر ارتباطاً بحزب البعث منه بالجيش والاستخبارات، منذ غادر إدارة الاستخبارات العامة التي ترأسها بين عامي 2001 و2005، وانتقاله عامذاك إلى مواقع في الحزب الذي نعاه غداة مقتل رفاقه الثلاثة الآخرين.
لم يفق النظام من الصدمة إلا في الساعات التالية، عندما أعلن عن تعيين الأسد رئيس الأركان العماد فهد الفريج وزيراً للدفاع خلفاً لراجحة، ودخل في مواجهة عسكرية ضارية مع المعارضة المسلحة في بعض شوارع دمشق. تدخّلت الفرقة الرابعة بقيادة معاون قائدها العميد ماهر الأسد، شقيق الرئيس، لأول مرة منذ اندلاع الأحداث، وأعادت سيطرة النظام عليها ما خلا ثغراً صغيرة اكتشفت فيها مخازن أسلحة وذخيرة. تزامن ذلك مع تنسيق أمني مع العراق أفضى إلى إغلاق الجيش العراقي من جانبه الحدود مع سوريا بعد استيلاء المعارضة المسلحة على معابر بين البلدين، أضحت مكسباً رمزياً لا يساهم في ترجيح ميزان القوى العسكري الداخلي. على نحو مغاير لم يُلقِ الجيش السوري بثقله عند الحدود السورية ــ التركية المفتوحة بسبب دعم غير مشروط توفره أنقرة للجيش السوري الحرّ والإخوان المسلمين هناك.
كانت تسمية الفريج وزيراً للدفاع التعيين الوحيد لملء الشغور الذي خلا بمقتل المسؤولين الأمنيين الأربعة. لم يُعيّن خلف لتركماني في منصب غير قائم قانوناً رغم ترؤس الرجل «خلية إدارة الأزمة». ومع أنه في منصب مشابه للذي يشغله اللواء محمد ناصيف كمعاون لنائب رئيس الجمهورية، فإن للأخير مكانة استثنائية لدى الأسد تجعله أحد أقرب مستشاريه السياسيين والأمنيين، مستمدة من خبرة مخضرمة من مرحلة الرئيس حافظ الأسد.
لم يُعيّن أيضاً خلف لآصف شوكت رغم أن المنصب أحدث له، هو الآخر، عام 2011 بعد عودته من التقاعد قبل سنة، في آخر منصب أمني شغله هو نائب رئيس الأركان داوود راجحة حينذاك. بعد تعيين الأخير وزيراً للدفاع السنة الماضية، خلفاً للعماد علي حبيب، عُيّن شوكت نائباً للوزير بعدما كان قد أضحى في الأركان أقدم الضباط رتبة، بمن فيهم رئيس الأركان الجديد فهد الفريج.
مع ذلك، لشوكت أسباب مغايرة لرفاقه الذين قضوا معه، تجعله يتقدّمهم في المنزلة والتأثير داخل النظام الأمني: كصهر لرئيس الجمهورية، وأحد مقرّري السياسة الأمنية، وكصاحب شخصية تتسم بالمواجهة. لا يحجب ذلك ودّاً مفقوداً بينه وشقيق الرئيس ماهر، قبل أن تجمعهما في السنتين المنصرمتين مصيبة محاولة إسقاط النظام.
في المقابل طبعت علاقة شوكت بالرئيس علاقة ودّية قديمة مصدرها دور «ديو» مهم ونافذ لعبه الصهر مع اللواء بهجت سليمان في إعداد بشار الأسد للرئاسة، ووقوفهما إلى جانبه كأبرز قريبين منه في السنوات الأولى من وجوده على رأس السلطة، قبل أن يتقاعد سليمان ويذهب من ثمّ إلى سفارة بلاده في الأردن، وترؤس شوكت الاستخبارات العسكرية.
تجعل بضعة الأسباب هذه مقتل شوكت ذا فراغ في التركيبة الأمنية السورية في المرحلة المقبلة، يصعب إشغاله بعدما بدا أن دور الرجل كان أكبر من وظيفته.
والواضح أن مقتل المسؤولين الأربعة كان صيداً سياسياً ثميناً للمعارضة السورية، من غير أن يُصدّق أحد أنها ــ أو الجيش السوري الحرّ أو مجموعة التيّارات السلفية التي تسابقت إلى تبنّيه لاحقاً ــ وراء اغتيال جماعي معقّد التنفيذ، اختلط فيه الإعداد المتقن بالمصادفة، والنزاع الدولي على سوريا، وخصوصاً بين موسكو وواشنطن، بإنفاق أموال طائلة، لإنجاح ضربة عسكرية وأمنية موجعة للأسد، تُجرّده من معاونيه الأقربين، منفّذي قراراته، وتلقي الذعر في الجيش، وتنتهي بمكسب سياسي باهر.
بعدما أخفق الرهان على تفكيك الجيش السوري، وعلى انقلاب عسكري يطيح الرئيس، وعلى حملة عسكرية غربية عليه من الخارج، وعلى مقدرة المعارضة على إسقاطه عبر الشارع وبقواها المسلحة، بدا ما حدث تعويماً للمعارضة ومحاولة ردّ الاعتبار إليها تتجاوز خلافاتها الداخلية وتعثّر توحيد قواها وتعزيز الثقة بها. لكنه محاولة أيضاً لإرغام الجيش على التخلي عن الأسد.
تقاطع هذه المعطيات أبرَزَ ملاحظتين متصلتين بتفجير 18 تموز:
أولاهما، أن المبنى الذي استهدفه التفجير من الداخل، وهو مقرّ مكتب الأمن القومي الذي يرأسه بختيار، لم يكن باستمرار مقر اجتماعات «خلية إدارة الأزمة». التأمت هذه أيضاً في مقار أخرى. كان ينضم إلى الخلية أحياناً الأمين القطري المساعد لحزب البعث محمد سعيد بختيان. يومذاك لم يحضر الاجتماع.
ثانيتهما، انعقدت «خلية إدارة الأزمة» مراراً في مبنى وزارة الدفاع القريبة من مبنى أركان الجيش حيث مكتب شوكت. مرات أخرى التأمت في القصر الجمهوري عندما كان الرئيس يحضر اجتماعاتها. لكنها كانت تنعقد كذلك في مكتب خاص للرئيس السوري في منطقة المالكي، كان يتردّد عليه عندما يريد ترؤس اجتماعها أو تصريف بريد رئاسي، ويحضر إليه مدير مكتبه. شهد هذا المكتب اجتماعات أمنية خاصة.
لكنّ مطلعين عن كثب على النظام الأمني السوري يشيرون إلى الحلقة الضيقة الفعلية المحيطة بالرئيس، الراسم الحقيقي للسياسة الأمنية في الوقت الحاضر، والمعدّ للقرار العملاني والأمني. وهي تضم، إلى آصف شوكت الذي مثّل قاسماً مشتركاً بين حلقتين إحداهما تبدي المشورة والاقتراحات والآراء فُجّرت رؤوسها، والأخرى تتخذ القرار: مدير إدارة أمن الدولة اللواء علي المملوك، ورئيس المخابرات العسكرية اللواء عبد الفتاح قدسية، ومدير إدارة المخابرات الجوية اللواء جميل حسن، ورئيس شعبة الأمن السياسي اللواء محمد ديب زيتون، ومعاون قائد الفرقة الرابعة العميد ماهر الأسد، ورئيس قسم مكافحة الإرهاب العميد حافظ مخلوف.
في موازاة الحلقة الأمنية الأضيق إلى جانب الرئيس، الحلقة السياسية الأضيق التي تضم معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف، ووزير الخارجية وليد المعلم، ومستشارة الرئيس للشؤون السياسية والإعلامية الوزيرة بثينة شعبان، وتتولى الحوار مع معارضة الداخل.
الأخبار