لبنان وسوريا.. الدائرة المغلقة للعلاقات الأهلية
احمد جابر
من يهتم لأمر العلاقات اللبنانية السورية؟ السؤال اتهامي، والجواب عليه بالنفي، اتهامي هو الآخر. مضمون الاهتمام، الذي يطرح السؤال حوله، هو تعثر قيام علاقة صحيحة ووطيدة بين بلدين تجمعهما روابط وعناصر، فيها من الطبيعية والاختيار الشيء الكثير، لكنهما يقيمان على افتراق عضال، منذ أن باتت السياسة الرابط الوحيد، ومنذ أن اختزلت السياسة، فتحولت إلى معنى الإلحاق، وممارساته، من الجانب السوري، وإلى صدى المعنى، الذي لم يتجاوز الاستجابة والالتحاق، من الجانب اللبناني.
رست المعادلة المومى إليها على ظاهرة تطلب هيمنة، من «الشقيقة الكبرى»، عندما كان استكمال الإمساك بالوضع اللبناني متعذراً، لأسباب شتى، وعلى واقع هيمنة ثقيلة، عندما توفرت الشروط الداخلية والخارجية لذلك. فلسفة الهيمنة، واللعب خارج حدود الداخل السوري، تحتل مكاناً بارزاً في منظومة صناعة السياسات العامة لسوريا، وإذا كانت هذه الأخيرة ليست الوحيدة في هذا المجال، وتشاركت وأنظمة عربية أخرى هذه التوجهات، فإنها كانت اللاعب الأبرز في مضمار نقل الداخل إلى الخارج. العوامل المساعدة كثيرة، لكن طليعتها تختزلها المكانة الجغرافية للوطن السوري، وتاريخ الصراع القديم في المشرق، وتطورات الصراع الحديث مع إسرائيل، والإيديولوجيا القومية، التي استفادت من حقبة «الانقلابات الثورية»، فأسست شرعيات بديلة، عاشت على بعض التقديمات الملموسة، لدى انطلاقتها، ثم اعتاشت من ذكرى الصراع و«الإصلاحات الشعبية» طيلة الحقبات اللاحقة. أمّن النجاح في الخارج جزءاً من الاستمرارية «للنظام»، وعوّض عن إخفاقاته في الداخل، وغطى الحضور الطاغي خلف الحدود على تنحية وتأجيل كل ما يدور داخل الحدود، وضمن تشكيلاتها الاجتماعية. ضمن هذا السياق، عادلت الهيمنة الاستمرار في الوجود، وترددت مقولة الإمساك بالأوراق، كتعبير عن قوة النظام وسطوة حضوره، وربط القيمون على السياسات، بين مدى التأثير في الخارج، وتعاظم مردود المصالح، وجنى الفوائد على الممسكين بدفة سفينة هذه السياسات.
وقع لبنان وما زال أسير هذه النظرة، التي برغم كل التطورات التي تشهدها سوريا، ما زالت تتصرف حياله بصفته ملعباً خلفياً لقراراتها، وميداناً إضافياً لمناوراتها. كخلاصة: تتمخض العلاقة المشتركة، من الجانب السوري، عن مفهوم «الساحة»، وهذا لا ينطوي على معطيات صحيحة، تؤسس لشراكة متطورة مفتوحة الآفاق، بل إن فهماً كهذا للعلاقة، يشدّ الخناق على محاولة التأسيس لمسار آخر، يحمل بذور الانفتاح و«الإيجابية المستدامة».
يشارك اللبنانيون نظراءهم السوريين عدم الاهتمام بالعلاقة المشتركة بينهما، ويشاطرونهم الإساءة إليها. المعطى الذي يقود السياسة اللبنانية، في مضمار العلاقات، تكويني، أو بنيوي حسب المتداول، أي أنه يشكل علة أصلية من علل إنشاء الكيان اللبناني. على هذا الأساس لم يشهد «التبادل السياسي» اللبناني السوري استقراراً، إلا لفترات وجيزة، بل لعل الأصح القول، إن المشهد المشترك أقام على كمون في معضلاته، التي تحينت الفرصة المناسبة لمعاودة الظهور، بوتائر توتير متفاوتة. لعب الالتحاق اللبناني الطائفي، وغير الطائفي، دوراً مفصلياً في هذا المجال، واتخذ لنفسه مسميات شتى، كان من بينها: التحالف الوطني التقدمي، ومناهضة الإمبريالية وقوى الاستعمار، والصمود والتصدي وتحرير فلسطين، وحماية الوجود المسيحي أو الوطني… وما إلى ذلك من شعاريات، كانت تبرر الالتحاق بربطه بقضايا كبرى، ما فوق وطنية، وأحياناً ما فوق قومية! والحال، أن الطوائف الصغرى لا يمكن أن تتطلع إلى القضايا الكبرى، فترتبط بها ارتباطاً استقلالياً، لأن جلّ ما تسعى إليه سياسات الطوائف، لا يتعدى الفوز بالحصة الأهم، من «الجبنة الداخلية»، التي تركها الآخرون في تصرف اللاعبين المحليين. الخلاصة من أمر «اللااهتمام» بالعلاقة، التي يتكرر القول إنها أخوية، أن مصلحة مشتركة نمت وتطورت بين طرفي المعادلة المختلة، في صالح الخارج السوري «الشقيق»، تقوم على تغليف ثنائية «الهيمنة ـ الاستتباع» بإيديولوجيا لا تستر سماكتها مثالب القول، ولا تحجب أخطاء وخطيئات الممارسة.
ديمومة الثنائية، اللاطبيعية، ما زالت مستمرة بقوة نظامين «غير طبيعيين» في كل من سوريا ولبنان. في البلد الأول، تتجلى اللاطبيعية في غياب المنطق العادي عن استمرار العمل بإيديولوجيا ماضوية، ولو تزينت بماضيها القومي، وبالتالي الخروج، على التشكيلة السياسية التي تقود هذه الماضوية الإيديولوجية، وفي البلد الثاني، تظهر اللاطبيعية، في استمرار نظام تهاوت كل أسسه المستقبلية، لكنه ما زال مستمراً بقوة «الأسطورة» الطائفية، وبالقدرة على تجديد خرافاتها، وبالاستعداد لإنزال الخرافة في كل كتاب سياسي خارجي، يرضى بتدريسها، أي بتوظيفها في بنائه السياسي ـ الإيديولوجي، في نهاية المطاف.
اليوم، وهنا بيت القصيد، يؤكد اللبنانيون والسوريون على أسس علاقتهم المستحيلة. من جهة، يصر النظام السوري على أننا شعب واحد في بلدين، لذلك، يحمل نذر حربه الأهلية، وتطوراتها ونتائجها إلى لبنان، ومن جهة أخرى، يتبارى اللبنانيون في الاستعداد للانخراط في هذه الحرب، ومن الضفتين المختلفتين، حيث يحاول طرف تحويل الساحة اللبنانية إلى خط إمداد خلفي لدعم النظام في سوريا، ويحاول طرف آخر جعل الجغرافيا اللبنانية، قاعدة إرتكاز بعيدة، لإسناد قوى إسقاطه.
من جديد، لا يحتمل لبنان كل هذه المغامرة ولا يقوى على كلفة كل هذا التلاعب، في الداخل، وعلى طرفي الحدود.
السفير