لماذا لا ينجح «الإخوان» في طمأنة الآخرين؟!
عمر قدور
مع إصدارها لـ «عهد وميثاق» تحاول جماعة الإخوان المسلمين في سورية التقدم بخطوة جديدة تجاه طمأنة «الأقليات» أولاً، والنساء ثانياً، في شأن رؤية التنظيم لقضيتي التعددية والمرأة في سورية ما بعد النظام الحالي. وتأتي هذه الخطوة، كما يشير النص نفسه، استكمالاً لخطوات أخرى سابقة حاول من خلالها النأي عن الصورة النمطية المتطرفة التي تكرست عنهم خاصة في عقد الثمانينات، حيث غيّبت تلك الصورة ما ينسبه الإخوان لأنفسهم في عهود سابقة عن قبولهم باللعبة الديموقراطية، وانفتاحهم إن على الأطياف السياسية الأخرى أو على الأفكار والأيديولوجيات السائدة في ذلك الزمن.
إذاً ينطلق الإخوان على نحو مضمر من موقع المتَهم، أي من موقع الضعيف وإن شابت نبرتهم قوة مُدّعاة تقوم أساساً على أحقيتهم، غير المختبَرة فعلاً، بتمثيل الطيف الإسلامي السوري، وحتى بتمثيل الإسلام الشعبي الذي قد لا يتخذ بالضرورة منحى سياسياً؛ يُضاف إلى ذلك نبرة التظلم التي لا تغيب عن أدبيات الإخوان عموماً جراء القمع الذي لاقوه من النظام. هذا التقلقل بين الضعف والتظلم وادّعاء القوة غالباً ما أفقد الخطاب الإخواني توازنه المنشود فطغى التلويح بالقوة الشعبية، القائمة أساساً على الأكثرية العددية للسنة، على الفقرات التي تعلن القبول بتعددية المجتمع السوري، أو تذهب إلى حد التغني الإنشائي بها.
يصر الإخوان في كل مرة على وصف خطواتهم المستجدة بأنها نابعة من استمرارية النهج الأول لهم، وبالتالي يحاولون استثمار أية خطوة متقدمة بأثر رجعي، وعلى ذلك ينفي الإخوان عن أنفسهم التقدم المرغوب حقاً، أو المرونة التي هي طابع السياسة، لمصلحة الأصول التي يُعاد تأويلها فحسب. على ذلك لا تبدو القطيعة مع الماضي واردة أبداً، وتبقى الصلابة الأيديولوجية متراساً يحول بينهم وبين التقارب الجاد مع الآخر المختلف، ويحول بينهم وبين الانخراط التام في المفاهيم السياسية المعاصرة، اللهم باستثناء البراغماتية التي تبتغي النفع المباشر.
المسألة كما نقرؤها لا تتعلق بنبل أو عدم نبل المقاصد، بل بقدر ما يخدم الخطابُ المقاصدَ المعلَنة، ومحكّ ذلك هو التساؤل عما يُبقي الإخوان في خانة المتهم؟ ولماذا لم ينجحوا في إقناع الشريحة التي يودون إقناعها حتى الآن؟
ثمة رغبة لدى الكثيرين في سورية في أن يتغير الإخوان، لأن التغير المنشود يطوي صفحة مؤلمة من الاحتراب الداخلي الطائفي الذي تشارك فيه الإخوان والنظام، ومع الأخذ في الاعتبار تلك المبررات التي يسوقها الإخوان عن مواجهة الثمانينات فمن المؤكد أنهم ساعدوا النظام على تنفيذ مآربه، فانزلقوا إلى خطاب طائفي فجّ، وإلى القتل على الهوية كما فعلت الطليعة المقاتلة لهم حين استهدفت ثمانين من طلاب الضباط العلويين فيما عُرف بمجزرة مدرسة المدفعية في حلب. هنا لا ينفع الإخوان تنصلُهم من أفعال الطليعة المقاتلة، أو تسترهم خلف وحشية النظام التي وصلت مداها في مجزرتي سجن تدمر وحماة؛ إذ لا يجوز أن تُقابل طائفية النظام بالمثل، ولا أن تستمد مجزرة مدرسة المدفعية شرعيةً من مجازر النظام اللاحقة. لقد دفعت أدبيات سابقة للإخوان بأن طائفية خطابهم آنذاك كانت ردة فعل موقتة على أفعال النظام، وبما أن الأخير لم يتغير فهذا يستدعي اعترافاً صريحاً بخطئهم وتخليهم التام عن خطاب تلك المرحلة، واعتذاراً لا لبس فيه لأسر الضحايا، مع شفافية كاملة دون انتظار للمثل من نظام لا ينتظر منه السوريون أية بادرة إيجابية.
في الإشارة إلى «ميثاق الشرف الوطني» و«المشروع السياسي»، اللذين صدرا عن الجماعة على التوالي عامي 2001 و2004، يقع «العهد والميثاق» الجديد أسير تصورات الجماعة عن الحكم، فالمشروع السياسي لعام 2004 يتبنى بلا لبس إسلامية الدولة انطلاقاً نحو الوحدة العربية، ومن ثم نحو وحدة الأمة الإسلامية. أما في قضية المرأة فيتبنى المشروع نظرة إسلامية «منفتحة» تُعلي من شأنها، من دون منحها الحقوق الموازية للحفاوة اللفظية، وفي «العهد» الحالي نقرأ في الفقرة الثالثة (يحق لأي مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجال والنساء، في الكرامة الإنسانية، والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة). وكما نرى فإن الحق في الوصول إلى أعلى المناصب يقتصر على «المواطن» الذي لا يمكن تأويله على الجنسين بما أن العبارة اللاحقة تحدد نقاط المساواة بين الرجل والمرأة بالكرامة الإنسانية والأهلية، وقد سبق لأدبيات الجماعة أن استخدمت مفهومي الكرامة والأهلية في إطار شرعي، لا في إطار الحقوق السياسية العامة. وحتى الإشارة إلى حق أي مواطن في الوصول إلى أعلى المناصب تبقى قاصرة عن «الحساسية» السورية ونقاشاتها التي تنصب أساساً على وجود أو عدم وجود بند يحدد ديانة الرئيس، ولو شاء «العهد» استدراك ذلك لنصّ على «أعلى المناصب بما فيها الرئاسة».
ربما تكون الإشارات المختلفة أو المتناقضة في أدبيات الإخوان حصيلة توافقات داخلية ضمن الجماعة نفسها، فليس سراً وجود تيار معتدل وآخر متطرف، لكن هذا التوازن يبقى هشاً لجهة عدم الانتصار النهائي لأنصار الاعتدال، ومن جهة ثانية لا يستطيع الإخوان مفارقة أصولهم بوجود إسلاميين أكثر تطرفاً قد ينهشون في جمهورهم المفترض. هذه العوامل لا تساعد بالتأكيد على إحداث قطيعة كبيرة مع الأصول الفكرية، ولا تساعد أيضاً على بناء الثقة مع أطياف أخرى من السوريين. على السطح هناك ترحيب متواصل من بعض العلمانيين بالخطوات المتقدمة للإخوان، إلا أن هذا الترحيب لا يعكس واقع الريبة العميقة التي تواجههم في الأوساط الشعبية للطوائف الأخرى؛ ريبةٌ قد لا تكون مبررة دائماً، لكنها قائمة ولم ينفع في تبديدها حتى الآن الإعلان المتكرر عن النوايا المستقبلية الحسنة، فالمستقبل يبدأ أحياناً من الماضي، وهذا ما ينبغي على الإخوان التفكير فيه من أجل طمأنة الآخرين حقاً.