صفحات سوريةعمر قدور

سوريا قيد التفكير


عمر قدور

تتزاحم السيناريواات المتوقعة للمرحلة الانتقالية وما بعدها في سوريا، معلنة قرب سقوط النظام وفي الوقت ذاته اشتداد التنافس على حصاد الثورة السورية؛ ذلك لا يعني بالضرورة نجاح السيناريوات المتداولة، بخاصة ما يتعلق منها بأشخاص يتم تداول أسمائهم كمرشحين لقيادة المرحلة الانتقالية، لكنه يدشن مرحلة جديدة يدخل فيها الحراك الثوري بوابة السياسة، أو بوابة العبور الفعلي إلى الدولة. بالطبع، لن يكون ذلك متوقفاً على قوى الثورة وحدها، فثمة مؤثرات وقوى دولية ستؤخذ مصالحها بالحسبان، ومن المرجح ألا تستطيع قوة ما الانفراد بتحقيق كل ما ترغب فيه. هي لحظة التسويات وقد اقتربت إذاً، وبلا شك لن تكون مشابهة للحظة الثورة؛ لن تحمل تلك الشحنة الانفعالية العالية، ولا تلك الأحلام الباهرة، ولا ذاك الزهد الذي قد يبلغ حد الموت. هذا لا يعني الإقلاع عن الأحلام، وإنما ربما بات محتماً الاستعاضة عنها بطموحات محسوبة.

في الواقع إنه الاستحقاق الذي لا بد منه؛ أن يبدأ السوريون التفكير بمستقبلهم وببلادهم، وهو أيضاً لحظة الوصل مع مستهل الثورة من حيث إنها بدأت بالسؤال الكبير عن معنى الوجود ومعنى الوطن. خلال ما يقرب من سنة ونصف دُفع السوريون إلى الانشغال عن أسئلة الثورة الأولى، وتغيّرت الأولويات أحياناً تحت ضغط القمع والتنكيل الشديدين، أحياناً كان استمرار الثورة وعدم انكسارها هدفاً بحد ذاته، كان عدم التراجع يُعدّ انتصاراً في حرب استنزاف مريرة قلّ أن يمر بها شعب. إن الأعداد المرعبة من الضحايا والمعتقلين والمشردين كانت أكثر من كافية للقول إن أي بديل هو أرحم كثيراً من النظام الحالي، مع ذلك عاند السوريون هذه العتبة المتدنية من اليأس، وتحلوا بإصرار مدهش على مبادئ الثورة؛ إصرار لم يخلُ من المكابرة أو الرومانسية بوصفهما واجبين أخلاقيين أيضاً!

طوال حكم البعث ظلت سوريا ممنوعة على السوريين، لم يعرفوا من صورة الوطن سوى ما تقرره الطغمة الحاكمة، ومن نافل القول أنها صورة منفّرة، لم تكن بالأحرى صورة لوطن بل لمزرعة قروسطية يتحكم بها الطغيان. هكذا أتت الثورة خروجاً من المزرعة إلى الوطن، هكذا قرر الشعب أنه لن يقبل بالبقاء أجيراً أو عبداً، قرر أنه شعب ويمتلك الإرادة الكافية لاسترداد سوريا. منذ تلك اللحظة سيبدو وقع كلمة “الشعب” غريباً بعض الشيء، إذ مرت عقود طويلة على آخر زمن اختبرها فيه السوريون، وهي بلا شك كلمة غريبة على مسمع الآخرين، فالعالم بدوره نسي وجود شعب سوري، واضطر لمدة طويلة إلى التعامل مع سوريا بوصفها نظاماً وحسب، لذا تأخر في استيعاب التغيير الحاصل، واحتاج أشهراً طويلة ليتعرف على المجهول الصاعد بقوة وليتعايش مع واقع وجوده، بل تبين أن الكثيرين في العالم يفضّلون نظاماً عدواً مكشوفاً على مغامرة استكشاف بلد جديد.

لن تحقق الثورة أهدافها بمجرد سقوط النظام، فهذا الهدف الذي صار يوحد غالبية السوريين سينفتح منذ الآن على تبايناتهم واختلافاتهم، وإذا كان من طبيعة الثورة أن توحد على مطالب أساسية كبرى فإن السياسة تفتح على اجتهادات وقراءات شتى لما كان يُعدّ بديهياً حتى. لذا قد يُفاجأ السوريون بأن القمع الوحشي للنظام كان أحد الأسباب المهمة لالتقائهم، وأنهم بزوال الكارثة الحالية التي تجمعهم سيفقدون واحداً من أقوى أسباب لحمتهم، وعندما سيزول وهم التماثل تكون الثورة قد حققت أول أهدافها. إن الانقسام الراهن، الحاد والمؤلم، حول الثورة قد يكون الأبسط من نوعه إذ أنه يعتمد معياراً أخلاقياً واضحاً، أما الانقسامات والصراعات القادمة فمن طبيعتها أن تكون مركبة، وأن لا يكون فيها للاعتبارات الأخلاقية دور حاسم، وليس مستبعداً أن تطال ما يُعد من المحرمات الوطنية.

في حالتنا، ليست الثورة السورية مدخلاً للسياسة المغيَّبة حسب، بل هي مدخل للوطن المغيّب أيضاً. ولعل أهم إساءات البعث أنه جعل سوريا بحكم الوطن الطارئ والعابر، فنظام البعث لم يعترف جدياً بوجود البلد الذي يحكمه، وحتى عهد قريب كانت أيديولوجيته تصر على رؤيته بوصفه “قطراً” مذموماً بانتظار الوطن المنشود. هكذا صار يتعين على السوريين البدء من الاعتراف بسوريا كوطن نهائي لهم، وأن يعيدوا التفكر في أمر يُفترض أن جيل الاستقلال الأول قد أنجزه؛ إن إرادة العيش المشترك ستُمتحن لا بسبب الشرخ الحالي بين الموالاة والثورة وإنما بسبب تغييب الإرادة بالمطلق خلال نصف قرن، هذا من ضمن ما يعنيه وصف الثورة بأنها ثورة استقلال ثانٍ.

لم تعمل القومية الفاشية للبعث سوى على إعاقة سوريا، وعلى ذلك ليس بوسع الأجيال الحالية التعاطي معها على أنها معطى ناجز، ولن يكون بوسعها كما فعل النظام أن تتغنى بالشعارات الجامعة التي تضمر فرقة وتنابذاً، وبالتأكيد ليس بوسعها الاعتماد على وطنية مبتذلة اصطنعها النظام فقط في أوقات أزماته، وكانت مكرسة فقط للعداء للآخرين. لقد تجلت سياسة النظام بأبشع صورها مع بدء الثورة، إذ أمعن في تخريب الحد الأدنى مما تبقى من الفضاء الوطني، والذي لم يكن له يوماً يد في وجوده، هذه لا تعدو كونها تتمة للسياسة المنهجية التي اعتمدت القضاء على المواطن أولاً، ورهن مصير الوطن بالطاغية أخيراً.

إن حجم الاستحقاقات التي تواجهها الثورة يؤسس للقول بأن سوريا برمتها ستكون قيد التفكير، فما خربه النظام هو أكبر وأعمق مما كان يُظن إلى وقت قريب، لذا لن تكون المهمة سهلة أو قصيرة، وقد لا تكون موضع توافق دائم. لقد دمّر النظام، ولا يزال، كافة البنى التحتية بما فيها أسس الالتقاء الوطني، ولعل الثورة كانت الفرصة الأولى لتعارف بين السوريين أنفسهم. لكنه من جهة أخرى تعارف محكوم بالحماسة والعواطف من جهة، ومن جهة أخرى هو تعارف مجتزأ وناقص بحدود ما تسمح به الظروف الحالية. هو إلى حد كبير تعارف بدلالة النظام، وسيبدأ التعارف الحقيقي بعد سقوط الأخير، وقد لا يكون بمنجى عن المفاجآت غير السارة للأطراف المنخرطة فيه.

ليس تشاؤماً بالتأكيد أن نشير إلى المهمات العسيرة التي تنتظر الثورة، أو إلى عوامل الاختلاف المتوقعة لاحقاً بين الثوار، ففي الواقع أتت الثورة نقيضاً لكل ما سبقها من وقائع وأفكار، ولأنها لم تكن مسبوقة فهذا يقتضي التأسيس لبدايات جديدة مختلفة قد تجد مقاومة حتى من بعض أنصارها الحاليين. ليس معيباً الاعتراف بأن إسقاط الطغمة الحاكمة يحظى بشعبية أكبر من هدف إسقاط النظام ككل، صحيح أن هذا يضيق من مساحة الالتقاء بين الثائرين لكنه المدخل الضروري لتبدأ المسيرة الشاقة نحو الهدف الأعمق، والكثير من السوريين يدرك أن نهاية الطغمة الحاكمة لن تكون النهاية الوردية للثورة، وحسبها أن تكون نهاية لإراقة الدماء وبداية لصراع سلمي فيما بينهم.

إذاً، وفي وقت قد لا يتأخر، سيحتفل السوريون بسقوط حقبة ذاقوا فيها الويلات، وسيكون احتفالاً عارماً يستحقونه عن جدارة وعن فيض من دمائهم. بعدها قد ينتابهم الحنين إلى تلك اللحظة الفريدة، ذلك بعد أن تفرقهم السياسة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى