“لنغنّ من أجل سوريا”
زينب ترحيني
في مقهى “ة” مربوطة في الحمراء، تتواجد بطاقات حفل موسيقي. أحمد قعبور، أمل كعوش، زيد حمدان، فرقة “صوت وصورة”، أشرف الشولي وعفاف حذيفة… جميعهم سيلتقون يوم الجمعة في قاعة “أسمبلي هول” في “الجامعة الأميركية” في بيروت، ليغنّوا من أجل سوريا. ثمن البطاقة الذي يتراوح بين خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية (كحدّ أدنى) أو عشرين ألف (للطلاب)، سيذهب لدعم العائلات السورية النازحة إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان.
بدأ العمل على الفكرة منذ ستة أشهر. لم تكتمل التفاصيل حتى فترة قريبة. هنا كانت الانطلاقة الجدية والواضحة المعالم. ما رآه الشباب على الأرض وفي زوايا المخيمات كشف لهم واقعاً مخيفاً بمأساويّته. لذا كان لا بدّ من تحرّك سريع. مجموعة “معاً”، “حركة الشباب الفلسطيني”، “النادي الثقافي الفلسطيني في الجامعة الأميركية” و”مركز العمل المدني والخدمات الاجتماعية” في الجامعة، استنفروا جهودهم سعياً لإنجاز خطوة إيجابية في حياة هؤلاء النازحين. لا جهة سياسية داعمة. لا خلفيّات أو مواقف سياسية يقف خلفها الشباب. في المخيمات الفلسطينية نازحون ينتمون لكلّ الجهات، والفقر والحاجة لم توفّر أحداً منهم.
إذاً المطلوب تغيير بسيط لما يجري على الأرض. الهاربون من القتل والقصف بأشكاله مجتمعةً، ارتطموا في لبنان بحياة تخلو ممّا هو بمثابة الحدّ الأدنى لحياة أي بشريّ.
عند سؤال عمر غنّوم، ناشط في مجموعة “معاً”، عن مشاكل اللاجئين في المخيمات، يحاول جاهداً ضبطها في نقاط ثمانية فقط. تنزلق أفكاره بسهولة موحيةً بمتابعة دقيقة للواقع. يركّز الشباب عملهم في مخيم برج البراجنة. في هذه النقطة تحديداً، الحاجة كبيرة للتواجد والمتابعة. بينما خضوع باقي المخيمات على الأراضي اللبنانية لاعتبارات كثيرة يجعلها أكثر بُعداً عن نشاط هؤلاء الشباب.
يحكي عمر عن ارتفاع أسعار الإيجارات. الحدّ الأدنى للإيجار في مخيم البرج هو 300 دولار. وعلى هذا الأساس تعدّى معدّل الأشخاص في الغرفة الواحدة التسعة. لا خدمات طبية نهائياً، ولا فرص عمل. وما تحصل عليه العائلات من مساعدات هي مؤن علب الفول والرز والسكّر، لا أكثر.
أعداد العائلات النازحة إلى مخيم برج البراجنة تعدّت الألف ومئة عائلة منذ بداية الأزمة السورية. في الشهور الأربعة الأخيرة، تكثّف نزوح العائلات الفلسطينية، بعد ما تعرّضت له مخيماتهم في سوريا من اعتداءات وقصف.
تبرعات الحفل
لم يكن سهلاً اكتمال عقد الفنانين المشاركين في الحفل. كثيرٌ من الوعود سمعها الشباب، لكنها وصلت أخيراً إلى تراجعات بالجملة. أخيراً اكتملت اللائحة. لا مقابل مادي سيتقاضاه الفنانون. كلّ ما سيخرج به الحفل سيذهب كاملاً إلى المخيم. يطمح الشباب إلى بناء مركز يحتضن الطاقات الموجودة بين هذه العائلات. تشير لمى شوفاني الناشطة في حركة الشباب الفلسطيني، إلى التعويل الكبير على مردود هذا النشاط. تقول أنها تنام وتغفو، منذ أشهر، وهي تحلم بنجاح الحفل والتمكّن من تقديم شيء ما إلى اللاجئين.
علاقة سريعة تمكّن الشباب من نسجها مع العائلات. غياب أسبوع عن المخيم كان كفيلاً بسؤال الأهالي عنهم. تشرح لمى عن الحياة في مخيم برج البراجنة. تستعين بيديها لوصف المجاري والمياه المتدفقة في الطرقات. يساعدها الناشط في مجموعة “معاً” كريم الزين في توصيف شكل الغرف. يحكي كريم، الأميركي الأصل، بانكليزية ممزوجة بعربية خفيفة، عن الغرف الضيقة وعن تكدّس الأطفال في البيوت من دون مدارس تأويهم. يضحك عند سؤاله عن أبرز احتياجات النازحين من سوريا. يردّد ثلاث مرات “كلّ شيء”. أحدهم طلب من كريم “شطرنج”. أحد الأطفال تمنّى لو يحصل على “بلاي ستايشن”. لا يستغرب كريم هذه النوعيّة من الطلبات في ظلّ انعدام فرص العمل أو الدراسة لأيّ منهم.
يتطلّب هذا النوع من العمل تفرّغاً ووقتاً. معظم الشباب المتطوعون هم طلاّب أو شباب دخلوا سوق العمل حديثاً. لكن حماستهم الكاملة ورغبتهم بانجاز أمر ما على هذا الصعيد، تجعلهم أكثر عطاءً. ما واجههم من مشاكل هو ضيق الوقت. بحثوا عن كل دقيقة في سبيل الإسراع في المشروع. بدايةً لم يجدوا مكاناً مناسباً، وهذه كانت واحدة من مشكلهم. اليوم كلّ شيء بات جاهزاً، ما ينقص هو فقط بيع البطاقات.
مستقلّون… مستقلّون
لا صبغة سياسيّة تلوح في أفق المشروع. صورة الملصق التي يلوّن فيها الطفل أصابعه بألوان العلم السوري الحالي، لا علم “الثورة”، كانت صدفة. أكثر من لقطة لينتهي الأمر باختيار هذه الصورة دون غيرها. لم يطلبوا شيئاً من أي جهة. الاعتماد فقط على العلاقات الشخصيّة، فهم لا يريدون خوض غمار مصادر التمويل المجهولة.
وصلت بعض التبرعات إلى الشباب لكنها ما زالت قليلة، وكذلك بيع البطاقات. تشدّد لمى على الرغبة بحركة أكثف. قاعة الجامعة الأميركية تتّسع لـ700 شخص. تأمل لو تمتلئ بالحضور. هنا يتدخّل كريم، مشيراً إلى إحضارهم حوالي مئة طفل من المخيمات لحضور الحفل. هؤلاء يحتاجون إلى بعض الفرح، وليس فقط إلى متطلبات الحياة من مأكل ومشرب.
ما ستخلص إليه التبرعات، سيتجسّد في مركز للنشاطات في مخيم برج البراجنة. تمكّن الشباب من الحصول على مبنى لاستهلاكه بطبقاته كافةً. سيضمّ المركز صفوفاً ومراكز تدريب وأجهزة كمبيوتر. هو مساحة مفتوحة، يأمل منها أن تسمح بالتفاعل مع هؤلاء الناس. هكذا سيكون لديهم ملجأ، يأوون إليه لتطوير أنفسهم. تُصرّ لمى أن نجاحهم سيعكس مدى جديّتهم في العمل على الأرض، كما سيغيّر علاقاتهم بهذه العائلات، جاعلاً إيّاها أكثر رسوخاً.
كريم يذهب بعيداً بأفكاره. يشرح عن مشروعهم الموجّه إلى كلّ باحث عن الحرية. “هذا الحفل من أجل الحرية في مجتمعاتنا”. أمّا المركز فيراه باباً سيسهّل على الفلسطينيين عودتهم إلى بلدهم الأساس فلسطين. عبر المركز سيعودون وهم على معرفة كاملة بقدراتهم. وهكذا سيفتتحون مشاريعهم ويجدون المساحات الخاصّة بهم.
يوم الجمعة. أطفال كثيرون ينتظرون التفاتة بسيطة. لا بأس بقليل من الغناء وكثير من الفائدة على عائلات تعيش ظروفاً مأساوية. “ة” مربوطة ببطاقاتها ما زالت تنتظر مزيداً من المتحمّسين.
السفير