صفحات المستقبل

مطر الشام الذي يغسل التعب

 

ماهر منصور

حرارة البيت تقترب من الدرجة الأربعين، بينما تقول مذيعة الراديو في موجز سريع انها لا تتجاوز الـ33 درجة. أحدق بمؤشر المكيّف، فأجده يجاهد للوصول إلى نسيم بارد عذب. ابتسم له وهو يمضي بعكس التيار.

على الصفحة الرئيسية في “فايسبوك”، أقرأ خبراً عن المطر الذي يغسل شوارع دمشق الآن. أتأمل الصور المرفقة مع الخبر، أعيشها لوهلة، حتى أكاد أشم رائحة مطر دمشق، أسمع وقع سقوطه على الأرض، ويبللني حتى أحس بارتعاشات عذبة صافية، تصيب جسدي. أتأمل مجدداً مؤشر المكيف وهو يجاهد عبثاً لمنحي نسيماً بارداً، ابتسم له هذه المرة شفقة عليه، وهو يعجز عمّا فعله مطر دمشق في الصورة.

لا تغادر دمشق أبناءها أينما كانوا. تهبّ عليهم من صورة أو من حديث عابر أو من مجرد تشابه أسماء في أي بلد يكونون فيه، فتمكث في ملامحهم، كشامة على الخد، على نحو يصير الواحد منهم، دائماً عرضة للسؤال ذاته: “أنت من الشام شي..؟”.

بين اسمرار بشرتي الفلسطينية، وبياض أهل الشام في غالبهم، فارق كنت حتى وقت قريب أعتقد أنه يميزني عن أهل الشام. ورغم أن المدينة أم الجميع، إلا انها كانت تحفظ لكل منّا فيها ملامحه، لذلك بقيت باسمرار بشرتي، وخشونة شعري، فلسطينيا يقطن الشام، رغم ما خالط لهجتي من كلمات شامية.

بعيداً عنها كان الأمر يختلف، فعلى بعد آلاف الكيلومترات من دمشق، يسقط اسمرار البشرة وبياضها. تذوب لهجاتنا الخاصة، نحن من عشنا في دمشق، وسط اللهجة الشامية. نفتقد ملامحنا المميزة، لصالح ملمح واحد، يعبّر عن نفسه بوضوح دون مواربة، على نحو ما من أحد يسألنا إلا ويعرف الجواب: أنتم شوام.. شباب؟

في متجر ضخم لـ”باريس غاليري”، أخاطب البائعة الحسناء باللغة الانكليزية، فتفاجئني بلهجة جزائرية: كيف الشام..؟ ابتسم لها: وكيف عرفت أني من الشام؟! تجيب ضاحكة: “ميّتكم حلوة ونحنا برشة نحبها.. ونحفظ الشوام عن ظهر قلب، ومخارج حروفك الانكليزية.. شامية برشة”.

تخبرني الصبية الجزائرية كيف أحبت أمها الأتراك لأنهم يتكلمون بالشامي. وتراهن أنها ستحب جيرانها الانكليز اليوم، حين تخبرها أن الانكليز يتكلمون بالشامية أيضاً. تداهمني الفتاة بحماستها لدمشق، فلا أعرف بماذا أجيب. تسألني مجدداً: هل تتكلم الفرنسية أيضاً؟ هززت رأسي بلا. فتقول: خسارة كنت أود أن اسمع الفرنسيين يتكلمون بالشامي أيضاً!

“كيف الشام..؟”. سؤال لا فكاك منه، يواجهنا به أناس نعرفهم وآخرون لا نعرفهم. جميعهم يشغلهم نزف الموت المجاني هناك. جميعهم يقلقهم أن يأتي الدمار على خطوات وذكريات تركوها خلفهم في شوارع دمشق القديمة وبين حواريها.

كيف الشام..؟

الشام اليوم تحت المطر، كانت للجميع، لأهلها ولزوارها، وللمتخاصمين على حبها، حتى لأولئك المشتركين في دمارها.

كيف الشام..؟ تداهمني رائحة أرض الشام بعد المطر. تحملني فوق الحدود والمسافات، لأطل عليها من بعيد:

كيفك يا شام..؟ اليوم حلمت بقربك، لأغسل بمطرك عن جسدي خطايا العالم وآثامه. ليس سوى طهر مائك يزيل عن جسدي التعب الآن

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى