صفحات الرأي

مآلات الإسلام السياسي في الراهن العربي/ كمال عبد اللطيف

 

 

1 – لا نتجه في هذه المقالة للتفكير في مآلات الإسلام السياسي بإطلاق، ذلك أن مستقبل تجارب الإسلام السياسي، تصنعه في مختلف تجلياته المرتبطة بأنظمتنا السياسية، معارك أكبر وأشمل من كل هذا الذي يقع اليوم أمامنا، ونعاين جوانب من أبعاده في حاضرنا. وسينصب اهتمامنا أساساً، نحو جوانب من التحولات التي عرفتها تيارات الإسلام السياسي، في كل من تونس والمغرب بعد انفجارات 2011، وما ترتَّب عنها من مشاركتهم في تدبير السياسات العامة لهذه المجتمعات. وإذا كان من المؤكد، أن زمن هذه الفترة ما زال في كثير من أوجهه متواصلاً، حيث يصعب إصدار الأحكام عن المآلات والنهايات أو الصعود والاستمرار، إلا أن فحص بعض نتائجِ ما جرى ويجري اليوم في البلدان المذكورة، يضعنا أمام بعض المعطيات التي تهيئ لتصوُّرات مُمْكِنَة عن المآلات المرتقبة، ليس لحركة الإسلام السياسي وتياراته، بل لمختلف دوائر الصراع السياسي وآفاقه في الراهن العربي.

لم يكن وصول الإسلاميين إلى بعض دواليب الأجهزة التنفيذية في كل من المغرب وتونس مفاجئاً، وقد ساهم في حصوله توافقات وتواطؤات ساهمت فيها ألوان الطيف السياسي في البلدين، كما ساهم النظام السياسي القائم في كل من تونس والمغرب، في ترتيب جوانب منها بحسابات دقيقة، ودون نسيان أدوار الوضع الإقليمي والدولي في توجيه وتأطير كثير من عناصر التوافق والتنافر الحاصلة، وخاصة في موضوع الدور المنتظر لما سمي بالإسلام السياسي المعتدل، في تجاوز منظور الإسلام الجهادي المتطرف والقائم على رؤية تعادي العالم، كما تعادي الديمقراطية وكل ما له صلة بثقافة الأزمنة الحديثة ومآثرها.

ساهمت العوامل المواكبة لأفعال التحول التي عرفتها بعض بلدان المغرب الكبير، والمتمثِّلة في روح الاحتجاج الميداني في الإطاحة برأس النظام التونسي. كما ساهمت مظاهرات 20 فبراير 2011 الحاصلة في كثير من المدن المغربية، في إقرار إصلاح سياسي ودستوري، وفي الحالتين معاً، وجد الإسلاميون أنفسهم على رأس مجتمعات تعلن ضرورة تجاوز صوَّر الفساد المستشرية في مجتمعاتها، وهي مجتمعات تُصَنَّفُ عادة باعتبارها من بين المجتمعات العربية الأكثر انفتاحاً على قيم الحرية والتعدد. وبحكم انعدام خبرة تيارات الإسلام السياسي في تدبير السياسات العامة، ونظراً لأنها تقف اليوم على رأس مجتمعات ترفع شعار إسقاط جيوب الفساد والاستبداد في مجتمعاتها، فإن مهامها لم تكن سهلة، رغم أن التحوُّلات العاصفة التي عرفتها تونس، وبنود الدساتير الجديدة التي أقرها كل من المجتمع المغربي والتونسي، والتي نفترض أنها هيأت للبلدين معاً الإطار القانوني المساعِد في عمليات تخليص العمل السياسي في بلدانها من قيود عديدة، مقارنةً مع ما كان سائداً فيها قبل الإصلاحات الدستورية.

لم تتردد تيارات الإسلام السياسي في كل من المغرب وتونس عن إعلان انخراطها في العمل السياسي، وقد عملت على تكثيف جهودها التنظيمية والتواصلية مع توجه يروم إبراز انفتاحها على بعض مقتضيات التحديث ومفرداته، وهو انفتاح لم يتردد في الآن نفسه، من الحرص على توثيق عُرَى العلاقة مع الأجنحة الدَّعَوِيَّة لهذه الأخويات. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق، المآزق التي كانت تعرفها التيارات السياسية الأخرى اليسارية والليبرالية داخل المشهد الحزبي في البلدين، أدركنا كيف ساهمت مختلف هذه العوامل في الفرز الذي أوصل الإسلاميين إلى أجهزة الحكم ودواليبه.

لا ينبغي أن نغفل الإشارة أيضاً، إلى أن مرحلة ما بعد انفجارات 2011 اتسمت أيضاً بكثير من الغموض، حيث تَمَّ تداوُل خطابات ترى أن تجريب مسار الإسلام السياسي “المعتدل” في الحكم، قد يساهم في تقليص شعارات التطرُّف والجهاد.. وإذا كنا نعتبر أن ما حصل في كل من تونس والمغرب يعد مُحَصِّلة لجملة من العوامل التاريخية المركَّبة، حيث لا ينبغي تعقُّله بالبحث المبسَّط عن سَبَبِيَّة مباشرة تَفُكُّ مَغَالِقَه، بل إن الأمر يتطلَّب في تصوُّرنا توسيع نمط الفهم والتحليل، من أجل فهم أكثر تاريخية لمختلف أبعاده.

2 – واكب تَصَاعُد مَدّ الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة، جملة من العوامل التي تلاحقت مُحدِثَة الطفرة التي حصلت في المشهد السياسي العربي. نحن نشير هنا، إلى الضربات القوية التي تلقتها التيارات السياسية القومية من الداخل والخارج، سواء من نمط الوعي الذي كانت تُبَشِّرُ به، وهي تتصدر أنظمة العراق وسورية، أو من أشكال تفاعلها مع القوى الإقليمية والدولية، في عالم لم تعد توجهه لغة الحرب الباردة، بل أصبح محكوماً بمنطق المصالح ونزوعات الهيمنة والتعولُم، وما يرتبط بذلك من آليات وقواعد. كما واكب تزايد عنف بعض التيارات السياسية، التي توظف لافتة الإسلام لإصابة أهداف محدَّدة، وهي تيارات تخاصم العالم بمنطق يُشَخِّص الخلاص من مختلف الشرور السائدة بنشر ألوية الإسلام وقيمه. وقد تزامن كل ما ذكرنا، مع التراجع الذي حصل في قلب أحزاب اليسار العربي، حيث أصبحت أغلب هذه الأحزاب لا تملك الحدود الدنيا المطلوبة في العمل السياسي، نقصد بذلك وضوح الهدف والمرجعية، وآليات التنظيم التي يتطلبها العمل السياسي داخل المجتمع.

انتظمت العوامل المشار إليها باختزال، في سياق تاريخي انتعشت فيه تيارات سياسية شعبوية، مع توجهات تتوخى تعزيز جيوب الثقافة التقليدية، ويدعمها إعلام يستخدم مختلف الوسائط الاجتماعية، لتعميم ثقافة مُحَافِظة ومَسنودة بسجلٍّ من قيم الانغلاق والقَطْعِ مع مكاسب وفضائل عصرنا. الأمر الذي مَكَّنَ ثقافة النُّزوع الإسلاموي المحافِظ والمتحجِّر والمَرِن، في جميع أوْجُهِه من الحضور والانتشار. وقد حصل هذا، ضمن مناخ سياسي دولي غير متوازِن، الأمر الذي تَرَتَّب عنه توافقات دولية غير مُعْلَنة، تروم إيجاد مَخْرَج للمآزق التي حصلت نتيجة لمختلف صوَّر التحوُّل الجارية في المشرق العربي.

ارتبط وصول الإسلاميين إلى السلطة بالترويج لمشروع دَمْج الحركات الإسلامية في حركية دمقرطة المجتمعات العربية، كما ارتبط بمحاولات الفصل بينها وبين الأنوية والأخويات السلفية والجهادية، إلا أن حسابات الذين رَتَّبوا هذه الخطوة أغفلت عمق الروابط الجامعة بين التيارات المذكورة، كما أغفلت السياقات العامة لأوضاع المجتمع والثقافة في عالمنا، وحاجة مجتمعاتنا لأفق في التنوير والتقدُّم، يَقْطَعُ مع منطق في الفكر ورؤية للتاريخ لم تعد مناسبة لزماننا، ولروح التطلُّعات الإصلاحية التي نروم إنجازها في مجتمعاتنا. كما أغفلوا حاجتنا الماسة أيضاً، إلى التصالُح مع العالم والانخراط في التعلُّم من قِيمه ومكاسبه في المعرفة والحياة..

استند الذين خططوا لهذا الموقف، إلى آليات في النظر منحت الاعتبار الأول للمقاربة السياسية مع نوع من التبخيس لآليات المقاربة الفكرية والتاريخية، الأمر الذي أنتج شعارات وخطابات تُغْفِل جذور القضايا المطروحة في المشهد السياسي والاجتماعي في بلداننا، فترتَّب عن ذلك حساب المحاصصات السياسية، التي أصبحت عنواناً لأحوال مجتمعات تراوح الخطى مكانها.

نفكر في مستقبل تيارات الإسلام السياسي في ضوء مسألتين اثنتين، تتعلق الأولى منهما بتحديات الراهن، حيث تَبَيَّن عجز هذه التيارات عن بناء سياسات عمومية قادرة على تخطي الآثار والنتائج، التي أفرزتها مرحلة ما بعد انفجارات 2011. ويشهد واقع الحال في البلدين معاً، عدم قدرة هذه التنظيمات على إنتاج خطاب سياسي إصلاحي، لمواجهة التحديات المطروحة داخل مجتمعاتها. أما المسألة الثانية، فترتبط بطبيعة تركيب هذه التيارات، وتَبرز بوضوح في ثلاث قضايا مفصلية في فكر وتنظيم الإسلام السياسي.

تتمثَّل القضية الأولى في الفقر الكبير في الثقافة التاريخية، التي تُعَدُّ بمثابة الحامل المركزي للرؤية العقلانية والمشروع السياسي الديمقراطي. وإذا كان هذا الفقر يرتبط عموماً بمختلف مظاهر وتجليات الفكر العربي، وينعكس على مختلف تياراته السياسية، فإن ملامحه تبرز بصورة واضحة في خطابات الإسلاميين، وتبرز القضية الثانية بجلاء في عدم قدرة التنظيمين معاً على التخلص من الرقابة الأخلاقية والدينية لأجنحتهما الدعوية، وهي رقابة تتسم بطابع لاتاريخي، حيث تتجه خطاباتهم ومواقفهم لإعلان أنهم أصحاب رسالة الإنقاذ المنتظرة. أما القضية الثالثة، فتتعلق بعدم قدرة هذه التنظيمات التي تعلن أنها تخلَّت عن الطابع الإخواني وتحولت إلى مؤسسات سياسية مدنية بمرجعية لاهوتية، نقول عدم قدرتها على فتح المجال لكل ما هو تاريخي ومدني، لبناء ما يساهم في تطوير الإطار الإجرائي في الفهم والعمل، الأمر الذي يُقَلِّص من حضور الجانب العقائدي ويُعْلِي من لغة التاريخ والمستقبل، وفي انتظار تخلص هذه التيارات مما ذكرنا، يظل سؤال التفكير في مصير الإسلام السياسي قائماً.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى