ماذا تقرأ “داعش”؟/ منال لطفي
“مَن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”، يقول عبد الله الحمصي، أحد المقاتلين في سوريا، والذي بدأ القتال مع الجيش السوري الحر العام 2012 وانتهى بالانضمام إلى “الدولة الاسلامية” العام 2014. لم يكن الحمصي ساعياً إلى دولة إسلامية، لكنه كان ضد النظام السوري. واليوم مع اختفاء البدائل الأخرى، يدعم وبحماس إعلان الخلافة الاسلامية على الأراضي التي “كتبها الله للمجاهدين في أرض الإسلام”، أي العراق وسوريا.
يوضح الحمصي أن إعلان الخلافة “مشيئة الله.. فلقد استوفيت شروط الشرعية، المجاهدون تمكنوا من أراض، وسلّم لهم السكان، وبات من واجب المجاهدين الولاية الدينية والسياسية. ومن واجب المسلمين تأييد الخلافة وبيعة الإمام، فهو صمام أمان لأراضي المسلمين، فما أخذ باسم الخلافة الإسلامية، لا تستطيع أي قوة استعادته باسم فصيل أو تنظيم أو تيار أو دولة”. وطبعاً، “داهش” قبل إعلان الخلافة، ليست “داعش” بعد اعلان الخلافة، وشعار أنصارها “الخلافة باقية وتتمدد” يعكس ثقة وشعوراً بالمنعة والقوة جعل المتحدث باسمها، أبو محمد العدناني، يغمز من قناة تنظيم “القاعدة” لأنه مجرد “تنظيم” وسط تنظيمات أخرى، فيما داعش “دولة خلافة”. ولا يشعر مقاتلو “داعش” وأنصارهم والمتعاطفون معهم بأنهم يعيشون لحظة عابرة ستمر، لأن “الأمة الاسلامية” البالغ عددها نحو 1,6 مليار نسمة كانت في انتظار لحظة إعلان الخلافة من الفيلبين حتى نيجيريا، بحسب ما يرون. ولا عجب اذن أن يكون أحد أنجح شعارات “داعش” في “فايسبوك” و”تويتر”، إلى جانب “الخلافة باقية وتتمدد”، “حملة المليار مسلم” التي دشنت في يونيو/حزيران الماضي لمد الجسور بين دولة الخلافة ورعاياها في مختلف أنحاء العالم والتي لاقت اقبالاً كبيراً، خصوصاً في أوروبا وآسيا.
“داعش” تنظيم ديناميكي متحرك، متنوع الجنسيات والأعراق واللغات، وهو يستفيد من هذا التنوع والتعدد، لكنه في الوقت نفسه يضبطه عقائدياً عبر مجموعة من الأدبيات التي تؤسس للتحولات الجارية على الأرض عقائدياً وسياسياً أيضاً. بعض هذه الأدبيات يعالج فكرة الإمامة والخلافة وعلاقتها بالتمكين والشوكة، وبعضها الآخر يعالج فكرة التوقيت والإجماع والحضور العيني للمسلمين خلال البيعة، وبعضها يناقش فشل تجارب الإسلام السياسي على مدار العقود السبعة الماضية، وتحلل الدولة المركزية العربية، والفرص المتاحة أمام الإسلاميين لتوجيه ضربة قاضية نهائية لنموذج الدولة العربية القُطرية. والأدبيات الداعشية تتنوع بين كتب قديمة كتب بعضها قبل ألف عام تقريباً، وكتب معاصرة كتبت خلال السنوات القليلة الماضية. لكن ما يجمع بينها هو ربط الاسلام كدين ودولة، بالخلافة كتنظيم سياسي- ديني. وتتحمس هذه الأدبيات لمبدأ الخلافة والإمامة حتى تجد نفسها تقف موقفاً مخالفاً لابن تيمية – الأب الأول للحركات الجهادية المعاصرة. فأبن تيمية (1328-1263) في رأي مقاتلي “داعش”، وضع شروطاً شبه تعجيزية لإعلان الخلافة في زمننا المعاصر.
ويوضح عبد الله الحمصي: “إشتراط شيخ الاسلام التمكين والشوكة للإمامة، وركناً للبيعة، تباحثنا فيه كثيراً. فالإنتظار، حتى يتحقق لنا أو لغيرنا من المجاهدين كامل التمكين على الأرض قبل إحياء الخلافة، ضرره أكثر من نفعه. وهناك أحكام كثيرة، نتفق نحن معها، ترى أن نصب الإمام وإعلان الخلافة واجب شرعي فوري لا يحتمل التأجيل. وبالبيعة والأنصار تستقر الخلافة وتتوطد وتنتشر شوكتها على الأرض. إشتراط التمكين على كل الأرض والعباد لإعلان الخلافة والإمامة يدخل في باب التخاذل لدينا”. وضمن الأدبيات الداعشية المتداولة على نطاق واسع بين مقاتلي وأنصار “الدولة الإسلامية”، كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم” لأبي المعالي الجويني (1085-1028) الذي يتحدث عن شروط ومعنى الإمامة والخلافة. ويقول الجويني في كتابه: “الإمامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مضمنها إقامة الدعوة بالحجة والسيف، فنصب الإمام عند الإمكان واجب”. ويرى أنه لا يشترط لصحة الإمامة والبيعة الإجماع أو الحضور العيني، “فأبوبكر الصديق صحت له البيعة، فقضى وحكم، وأبرم وأمضى، وجهز الجيوش، وعقد الألوية، وجر العساكر إلى مانعي الزكاة، وجبى الأموال، وفرق منها، ولم ينتظر في تنفيذ الأمور انتشار الأخبار في أقطار الإسلام، وتقرير البيعة مِن الذين لم يكونوا في بلدة الهجرة. وكذلك جرى الأمر في إمامة الخلفاء الأربعة”. وبحسب الجويني، فإن الغلبة والقوة ليست أيضاً شرطاً لصحة المبايعة: “الوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة… فإذا تأكدت البيعة، وتوطدت بالشوكة والعدد، واعتضدت، وتأيدت بالمنة، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة، وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر”.
أما كتاب “فصول في الإمامة و البيعة” لأبي المنذر الشنقيطي، فهو أيضاً من الأدبيات المفضلة لدى “داعش”. والشنقيطي الذي لا ينتمى إلى “داعش” تنظيميا لكنه قريب منها ايديولوجياً، دافع عن التنظيم مؤخرا بعد إعلان الخلافة في بيان بعنوان “رفع الملام عن مجاهدي دولة الإسلام في العراق والشام”. ويقول الشنقيطي في كتابه “فصول في الإمامة” إن “تنصيب الإمام واجب شرعي على المسلمين في كل مكان ولا يختص به زمان عن زمان. ومن زعم أن نصب الإمام غير واجب في هذه الأيام فقد افترى على الله لأنه عارض الائتلاف وزعم أن الشرع أقر الناس على التفرق والاختلاف”. ويرى إنه إذ “لم يتيسر نصب الإمام إلا لطائفة من المسلمين تعين الأمر عليها وتحتم على سائر المسلمين متابعتها والدخول في بيعتها”. وإنه إذا تقرر وجوب نصب الإمام “فاعلم أنه واجب على الفور لا على التراخي، لأن ما يتعلق به من مهمة وأحكام لا يحتمل التأخير”. ومثل الجويني، يرى الشنقيطي أيضا أن التمكين والشوكة ليس شرطاً لصحة البيعة “إذا بايع المسلمون إماماً لهم وهم في حالة ضعف وعدم تمكين، فلا يقدح ذلك في أمير المؤمنين، ولا يوهن عقد بيعة المبايعين… وإن اشتراط القوة والشوكة يفضي إلى مفسدة كبرى وهي مشروعية نقض البيعة بعد إبرامها كلما عدمت الشوكة… وإذا كانت الإمامة لا تثبت أركانها ولا يستقر حالها إلا بعد حصول الشوكة، فلك أن تتخيل أن الزمن الفاصل بين عقد البيعة وحصول الشوكة قد يتسع فيه المجال ويقتتل الرجال لأن البيعة لم تتأكد في الحال. وهذا مخالف للحكمة من وجوب نصب الإمام على الفور والاستعجال”. كما يرى أنه لا تتعين مشورة من غاب عن مجلس العقد ويكفي في انعقاد البيعة ولزومها مشورة من حضر من أهل الحل والعقد لمجلسها.
وإذا كانت هذه الأدبيات تعالج خصوصاً الجوانب الفقهية المتعلقة بالخلافة والإمامة، فإن أدبيات أخرى تعالج أزمة الدولة العربية الحديثة وكيف أن إقامتها على “النموذج الغربي المشوه الكافر”، عطل نمو المجتمعات الإسلامية وسبب وضعاً غير محتمل من الفقر والذل والتبعية للخارج، وإن هذا النموذج يترنح ويتحلل والدول الكبرى التي تدعمه تضعف وسيطرتها تهتز، وتلك لحظة تاريخية لإحياء الخلافة وملء الفوضى الناتجة عن تحلل الدولة العربية المركزية والقوى الكبرى الداعمة لها. ومن هذه الأدبيات كتاب “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة” لأبي بكر ناجي. ولا أحد يعلم متى نشر الكتاب على وجه الدقة، لكن يُعتقد على نطاق واسع أنه نشر قبل نحو عقد من الزمان. ويرى ناجي أن التيارات الإسلامية إجمالاً ارتكبت خطأ تاريخياً منذ إلغاء الخلافة العثمانية العام 1924 بعدم اللجوء للقوة والتمدد والتدافع لبناء خلافة إسلامية، وترك الأمر للتيارات القومية والبعثية التي لم تكن مطلع القرن العشرين أقوى من التيارات الإسلامية بأي حال، ومع ذلك وصلت هذه التيارات إلى السلطة وأسست أنظمة ما زالت موجودة حتى اليوم وإن كانت هشة وتحتضر من حيث الشرعية والشعبية. ويتساءل في كتابه :”لماذا حتى الآن لم يسأل المشايخ أنفسهم: لماذا وصل الكافر إلى هدفه وجنى المسلم ضد مراده؟ لماذا بنى البعثيون دولتين وشيوخ الإسلام لم يجدوا مأوى لهم؟ مع أنّ كل أدوات المعركة كانت بين أيدي المسلمين ومشايخهم وكان القليل منها بيد أعدائهم. أليس هذا السؤال يوجب على كل عاقل أن يعتقد أنّ ما قاله المشايخ عن الطريقة النبوبية في إقامة الدولة الإسلامية هو خطأ على الطريقة النبوية… إنَّ الطريقة النبوية هي عينها الطريقة الكونية في إقامة الدول”. ويشدد ناجي على أن الدول تقام بالقوة والعتاد والتجهيز، ودولة الرسول قامت بالمنطق نفسه، ولا خصوصية للدولة الإسلامية في عهد الرسول وخلفائه، إلا في قيمها الروحية وعقيدتها الإسلامية، أما الدولة نفسها كتنظيم وجهاز وكيان فلا تقام إلا بالقوة والعتاد، وهذه ظاهرة عالمية.
بالطبع، ليست هذه كل الأدبيات أو الكتب التي يقرأها مقاتلو “داعش” وأنصارها. فهناك العشرات من الأدبيات المحلية جاءوا بها من بلدانهم. فالشيشاني مثلاً لديه أدبيات وتجارب مختلفة عن أدبيات وتجارب القادمين من مصر أو الأردن أو غزة أو تونس أو الفيلبين أو ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا. ومع ذلك فإن ما يجمعهم هو بحث فردي وجماعي عن “فردوس مفقود” في صورة خلافة اسلامية لا يأتيها الباطل من بين يديها، تظلل على المسلمين في كل بقاع الأرض وتحوّلهم قوة عظمى، وتزيل عنهم غبار قرون من التهميش والشعور بالانكسار. إنها حبل النجاة الأخير من دول وشروط حياة فروا منها ولا يريدون العودة إليها.
المدن