ماذا في اليوم التالي على رئاسة الأسد الثالثة؟/ مطاع صفدي
مثلما لم يكن أحد متنبئاً بالحدث الثوري السوري في بدايته، كذلك لا يمكن لأحد أن يحدد نهاية له، حتى من يعتقد أنه موشك على الإمساك بالكثير من مقدراته السياسية أو الفعلية، فإنه في واقع الأمور لن يكون سوى واحد من عوامله، وإن كان هو من أبرز تلك العوامل، ولكنه مع ذلك سيظل محدود الفعالية. فالأسد لا يمر اليوم بأحلى مراحله كما يريد إعلامه أن يوحي. قد يكون فوزه بالرئاسة الثالثة مدعاةً لمشاعر الصلف الجديد، الذي يدأب على اصطناع مظاهره بكل وسائل الإبهار المسطح والأجوف من أبسط حقائق الظروف الرهيبة المحيطة به. فإن بضع جولات عسكرية هنا وهناك في جغرافية الصراع الكبير المنفتح على مختلف الاحتمالات التراجيدية لن تشكل النصر الحاسم بقدر ما تنسج نوعاً من فانتازيا الوهم بالنصر الذي لا يزال حلماً بعيد المنال.
المرحلة الراهنة للوضع السوري، وتشابكه مع التطورات الإقليمية المستجدة، ستكون هي الأصعب في مسيرة الوحشية المطلقة التي اعتمدها النظام كأسلوب أخير ووحيد لنضاله «القومي التقدمي؟ وقد أمسى السلام أو الحد الأدنى من الاستقرار غاية مستعصية. لم يعد في الساحات الصاخبة ملء المنطقة من يمكنه الإدعاء بامتلاك مفاتيح للمعضلات المتفجرة. فالكل عاجزون، ومعظمهم مهزومون، حتى أولئك الذين لم يدخلوا بعدُ بعضَ مصارع الدم من حولهم، فماذا سيفعل الأسد، أسير قصره، قلعته المعزولة في سفح قاسيون. هل هو يصدّق نفسه حقاً عندما يَعِد الجمهورَ السوري بمشاريع إعادة الإعمار. من بَرَع في تدمير المدن والحضارة لن يكون مؤهلاً إلا للمزيد من التسبب بالخراب والموت للبشر والحجر والشجر. أما الإعمار فهي المهمة الأنبل للمنتصرين الحقيقيين الذين لم نعرفهم بعد من أبطال الحرية والكرامة.
هل للأسد أن يتجاوز نظامه، أم أنه هو المترحل ومعه نظامه من ذلك الماضي المستمر البائس إلى الجمهورية الثالثة التي كادت أن تفقد جماهيرها في المعتقلات والمنافي والقبور، قبل أن تفتح لها عهداً جديداً؛ ما هو برنامج هذا العهد خارج المصطلحات المعتادة والمشتقة دائماً من ألفاظ التنمية والديمقراطية والعدالة. لكن البيان الرئاسي أقر سلفاً أن الحرب باقية اليوم وغداً. فالنظام يرشّح نفسه وشعبه لمقاتلة الإرهاب. وهذا يعني بكلمة أخرى أن سوريا لن تنعم حتى بهدنة ما؛ فإذا ما انسحبت الثورة عسكرياً من جهاتها الجغرافية فإن النظام مصر على التمسك بعدو جديد قديم. لن يكلف نفسه عناءَ إقناع الرأي العام السوري بأنه سيقاتل إرهابيين كانوا صنائعَ له، وأدوات، وحلفاء لجنوده في مقاتلة الثوار. فإذا كان للأسد أن يفخر بإنجاز ما في حربه ضد الثورة، فهي المنهجية الخبيثة في اختراع القرين المضاد للثورة، من حواشيها وهوامشها، في تحويلها عن هدف إسقاط النظام إلى مقاتلة هذا القرين، انتصارات «داعش» في الشمال الشرقي لسورية، لم تكن لتتحقق لولا حماية النظام لها بالتغطية الجوية لزحوفاتها المتوالية في المنطقة، وتمكين داعش من الاستيلاء الكامل تقريباً على حقول النفط، وبيعه لسماسرة دمشق.
ما ينتظر سوريا المعذبة من هذه الرئاسة الثالثة هي حقبة بائسة من اختلاط الأوراق، من تغيير أسماء وعناوين الفئات المختلفة المتوزعة سابقاً ما بين معسكريْ السلطة والثورة. لن تكون السياسة المدنية هي العائدة إلى المجتمع الممزق جسدياً وفكرياً. هذا المستقبل المشبوه لن يكون انبعاثاً لماضيها، بل لما هو أسوأ بكثير مما كان عاناه الشعب سابقاً ولاحقاً من مذهبية القمع المعمم، فليس في مقدور الأسد أن يأتي بمعجزة غير مؤمن هو أصلاً بضرورتها. لن يكون غيرَ ذاته مهما ادعى لشخصه نماذج قيادية أخرى.
إذا كان المجتمع قد تخلى إلى حين عن الطابع العسكري للثورة فهذا لا يعني أنه خرج من الصراع بنتائجه الكارثية وحدها. فالثورة هي حقيقة إنسانية قبل أن تكون حروباً دموية. وهذه الحقيقة لا بد أن تبتكر وسائلها العامة للتعبير عن ذاتها؛ حالة السلم الأهلي أو السياسي هي البيئة الأصلح تاريخياً لتنشئة الأخلاق الثورية، السابقة معيارياً على أية أفعال كلية سوف تحمل أسماء الأهداف التقدمية. لن يكون السلم ضاراً بالنشاط الثوري، بقدر ما هو كذلك بالنسبة لسلطات الاستبداد. السلم هو الكاشف العقلاني لآليات الاستبداد، والممزق البارع لأقنعتها. ولذا تخشاه هذه الأجهزة القامعة ربما أكثر من خشيتها إزاء الصراع الدموي المكشوف.
اليوم التالي على توقف الثورة لن يكون أقل غموضاً وصعوبة عن مثيله وسابقه ما بعد انطلاق الثورة، سوف يسيطر من جديد على علاقات السلطة بشعبها منطق الجلادين وانتقامهم من عبيدهم القدامى، هؤلاء الذين تجرؤوا فتمردوا على ظُلاّمهم، لكنهم اخفقوا. هل يمكن للجلادين أن يحرروا نفوسهم المريضة من عقد الانتقام. هل يمكن لخيبات الشعوب أن تدفن إرادة الحرية، أن تنتزع جذوة الأمل من النفوس المقهورة، أن تؤكد لضحاياها من جديد أن خسارة معركة أو أكثر لا تعني خسارة الحرب كلياً.
لا بأس إن سكتت أصوات المدافع حتى يمكن للناس أن يستمعوا إلى أصوات بعضهم. إنها حرية التعبير وحدها التي هي المكسب الباقي لثوار الأمس. ولن يكون النظام بمستطاعه القضاء عليها إلا إذا ما استعاد النظام شخصية «داعش» لذاته، وألبسها لرموزه الحاكمة؛ وفي هذه الحالة ستعود الثورة لانطلاقتها الأولى، لنقائها الأصلي، لتندفع بقواها التاريخية، بثروتها من عقيدة الحق والبراءة في وقت واحد.. لتستردَّ هذه اللحظةَ الفاصلة التي كان لانتفاضة الشبيبة في مطلعها أن تبلغ ذروتها، أن تحقق ضرورتها الذهبية بالثورة الشاملة المستدامة، قبل أن يسترقها لصوص المؤامرات. إنها المبشرة بـ»الثورة الثانية» الباعثة لأصالة الأولى المهدورة، المخطوفة ميليشياً، ثم طائفياً وظلامياً.
ما يحدث اليوم ليس إيذاناً بانطلاقة الجمهورية الثالثة رئاسياً، وإن كانت لها مظاهر الاحتفالات الفوقية المبهرجة، لكنها قد تؤذن بولادة الهدنة المطلوبة لاستعادة ظروف الثورة الشبابية الأولى، فتبرهن عن نقاء سريرتها الخلاقة التي استقطبت وجدان الغالبية العظمى من الجمهور السوري، والعربي المتعاطف معها منذ فجرها الوضاء. إنها حاجة الثورة إلى مصطلح الهدنة بين حربين كيما تستأنف ما سُرق منها، متطهرةً مما أساء لمعانيها، وكاد يشوه جوهرها، ويُرديها إلى مستوى عدوها، الذي لا يزال يحاول استلابها لمبادئها، بشتى أساليب الخداع والإغراء والتدليس.
لا مستقبل لرئاسة ثالثة قائمة ومستمرة على قاعدة حرمان سورية الدولة من جمهوريتها الحقيقية؛ ما ينتجه مركّب الاستبداد/الفساد لن يخالف صانعه، لن يسمح بصناعة المعاول التي ستهدمه على رؤوس أصحابه، هذه المعاول هي صناعة أخرى مضادة في كل شيء لصالح المركب الاستبدادي الفاسد.
إن إقبالة شعب سوريا على مرحلة للسلم الأهلي لا تعني أبداً إسباغ المشروعية على أعداء هذا السلم. بل هي المرحلة الواعدة بصعود العقل الجماعي إلى سُدّة دوره القيادي، المعروف في تصحيح موازين القوى العامة لكافة مكوناته البشرية والعقائدية. غير أن كل الرهان على صلاحة هذا التحول سيكون مشروطاً بقدرة هذا السلم الأهلي على تسليح مغامرته الجديدة بأفضل ما أنجزته مدنية الإنسان لأممها؟ وهي الحريات الواقعية، انطلاقاً أولاً من دفاع مجتمع السلم عن حرية التعبير.. هذه القوة، الحارسة المطلقة للأمن المجتمعي، بمواهب اللسان والقلم والمنبر في كل حضارة حية أو قابلة للدفاع عن حياتها، كلما تهددها الطغيان، وأوحشُه ذلك الصادر من أعماق أقبيته المظلمة..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي