ما القاسم المشترك بين دارفور وسورية؟
حسن منيمنة
منذ الانفصال في تموز (يوليو) العام الماضي، والذي حقق للسودان الجنوبي الاستقلال، تبدلت طبيعة المـتابعـة للشـؤون السودانية في عواصم القرار الدولية لتركـز على العلاقات بين الخرطوم وجوبا. وفي حين أن المـعضلات الداخلية التي تواجه السودان متعددة، فإن النظام الحاكم في الخرطوم تمكن، إلى حد ما، من إدارة الأزمات بما يمنع تفاقمها إلى حد الانفجار الذي يعيدها إلى الصدارة، سواء في الإعلام العالمي أو في الاهتـمام الـسياسـي الدولـي. والـواقع أن التطورات في المنطقة العربية ساهمت من وجهين في توطيد هذا «الاستقرار» في معالجة الخرطوم للأوضاع السودانية الداخلية. فهي استهلكت الانتباه الدولي، ومن جهة أخرى قدمت دعماً ضمنياً لمقولة السعي إلى تفتيت المنطقة، ابتداء بالعراق، ثم السودان، وصولاً إلى الثورات، والتي يعتمدها النظام في الخرطوم لتبديد المطالب المحلية وتبرير إسقاطها. وهذا بدوره يعفي الوعي العالمي والثقافة العربية خصوصاً من مسؤولية تحمل تبعات المأساة التي شهدها إقليم دارفور، ولا يزال. وفيما يتجاوز السقطة المعنوية البالغة، فإن ما يحدث اليوم في سورية يوجب إعادة اعتبار لما جرى في دارفور.
يشير ناشطون دارفوريون إلى أوجه شبه بارزة بين ما عاشه إقليم دارفور في مطلع أزمته في طورها الاستفحالي، وبين تطورات الأحداث في سورية. فهنا، كما هنالك، كانت البداية بمطالب جريئة لعدد قليل من الناشطين، تصدت لها السلطات بقسوة فائقة، ما تسبب في سلسلة من الأفعال والردود التي أدت إلى انحدار الأزمة إلى حد الكارثة.
وفي حين أن رسم الحدود الذي شهدته القارة الأفريقية في العهد الاستعماري جعل دارفور الهامش الغربي للسودان، فإن لهذا الإقليم تاريخاً عريقاً كسلطنة مفصلية بين الساحل والصحراء الكبرى ووادي النيل، وصولاً إلى الجزيرة العربية. لذلك، فإن إقليم دارفور اتسم بالتعددية عرقياً وقبائلياً وفي أنماط المعيشة تحت مظلة دينية وثقافية إسلامية جامعة. وإذا كان هذا المزيج يؤسس حكماً لصراعات محلية، فإن الآليات المحلية لفض النزاعات، لا سيما مؤتمرات الصلح القبلية، حافظت على اللُحمة الاجتماعية في الإقليم. أما تدهوره نحو الكارثة، فيعيده الناشطون الدارفوريون إلى «التشوهات» الطارئة، فمنها ما هو موضوعي، مثل استفحال الأزمة البيئية وانعكاسها على التنافس على الموارد بين القبائل، ومنها دخول الأسلحة الحديثة الذي فاقم أعداد ضحايا الصراعات التقليدية، ومنها تسليح الحكومة المركزية في الخرطوم لبعض القبائل الموالية لها، وتهميشها للزعامات التقليدية. تجلى تأثير هذه العوامل في المجزرة التي شهدها الإقليم عام 1978 في الضعين، ثم في الحرب بين الفور والعرب في التسعينات، وما صاحبها من تشكل أحزمة عرقية في الإقليم، وبروز النزعة العنصرية في تعامل الخرطوم مع الإقليم وتدخلها فيه.
وعلى هذه الخلفية جاء التمرد المحدود إزاء السلطة المركزية عام 2003 وجاءت مـعالجة السـلطة للتـمرد عبر تفـعيل التناقضات التي كانت عملت لتغديتها، ومن خلال تعـبئة واسعة لقبائل عربية من خارج الإقليم وداخـله (مع ملاحظة أن مـشاركة المجـموعات العربـية المحـلية لـم تـكن شاملة) وصولاً إلى الـهجمة الكـبرى التي أودت بـحيـاة 300 ألف من سكان الإقليم وتهجير أكثر من مـليونـين، بالإضافة إلى إحراق القرى وتـهديم الـرموز الديـنية والثـقافية، بـما يساهم في توطيد اقتناع الناشطين الدارفوريين اليوم بأن الهدف من هذا العقاب الجماعي والاعتداء الترهيبي كان القضاء على الذاتية الدارفورية، بعدما حاول بعضهم مطلع الأزمة عبثاً تقويم الأوضاع عبر الاسترحام لدى حكومة الخرطوم.
ومن جـملة الانتهاكات الخطيرة للحقوق والتي أقدمت عليها المجموعات المعتدية جرائم الاغتصاب الواسعة التي شكلـت فـعل تـحـطـيم للمـجتمع الدارفوري المحـافـظ. وسـواء كان الدافع إلى هـذا الاغتصاب أمراً بالفعل الممنهج صادراً عن القيادة بهدف القهر والإذلال، أو إتاحة من الـقيادة للـمعـتدين لأغراض التعبئة، أو حـتى الإباحة من باب اللامبالاة، فإن المتـحقِّق هـو أن السلـطات الحـكومية لم تـعـمد إلى مـعاقـبة أي من الـجناة. ويتعـزز الاقـتناع لدى الدارفـورييـن بـأن هـذه الجـرائم كانـت ممنهـجة عـمداً من خـلال اسـتمرار الاعتداء على النساء إلى اليوم من قبل المجموعات المدعومة حكومياً.
وفيما كانت هذه الجرائم تُرتكب، اعتمد النظام سلسلة متتالية من التوصيفات التي استقرت في الكثير من الإعلام العربي على رغم تناقضها ومخالفتها لأية قراءة للواقع، وتمكن من تنفيس الاهتمام الدولي بالموضوع من خلال قبوله باتفاقين متتاليين، الأول في أبوجا والثاني في الدوحة، لا سيما أن قـطـر تعهدت التعويـض والمساهمة الرئيسـية في إعـمـار دارفـور. وفي حـين تـشـكك المعطيات في صـدق نـوايا الخرطوم في تنـفـيـذ اتفاق الدوحـة، فإن دارفور شهــدت منذ الهجمة الكبرى فـي العامين 2003 و2004 تطورات تشكل معوقات إضافية لعودة الأمن، منها التـقاتل بـين المـجـموعـات العربية التي سلحتها واسـتقدمتها الدولة للهجمة، وقد وصل هذا التقاتل إلى أوجـه عام 2009، ومنها كذلك المسـعى البارز حالياً في محاولة الدولة اسـتقطاب مجموعات غير عربية في مواجهة المعارضين، ما ينذر بالمزيد من الرغبة القمعية، بالإضافة إلى التوقيف والتعذيب المتواصلين للناشطين. وشــكوى الـدارفورييـن الأولـى هـي من انفلات الأمن والذي يأتي ليتراكم فوق نزاع المجموعات المـسـلحة والـحراك المعادي للدولة، في حين ترسّخ الأمر بالنسبة إلى النازحين واللاجـئين إلى دول الجوار، إلى حال إغاثة مستديمة، وفي حين ينقضي الزمن، ومعه إمكانية جمع التفاصيل، لتوثيق المجازر التي ارتكبتها جماعات النظام في هجمتها الكبرى. المشهد هو إذاً مشهد تأصيل وتطبيع لوضع الأزمة في دارفور، تتراجع معه القضية إلى الخلفية، لعل وعسى تصير منسية.
والنظام في دمشق غالباً ما يشير إلى حوادث واكو والشــيشان وتـيانانمـين في الولايات المتحدة وروسيا والصين على الـتوالي كـسـوابق لـقدرتـه على البـقاء، وتجاوز جرائمه، لكن النموذج الأقرب إلى م`سعاه هو دارفور وما اجترحه نظام الخرطوم. والـراجـح ألا يـتحقق لنظام دمشق مبتغاه، فيما المأمول ولو بعد طول أمد، أن يحاسب نظام الخرطوم على جرائمه في دارفور، وأن تحاسب الثقافة العربية نفسها لتقصيرها في شأن دارفور.
الحياة