ما زال الحارس أميركياً.. ولو غاب/ يحيى العريضي
باستثناء أحداث الطبيعة، ما من فعل أساسي وذي شأن يتم في عالمنا، إلا ويكون للولايات المتحدة الأميركية يدٌ فيه، ترتيباً، تأثيراً، توجيهاً أو جني ثمار.
خلال السبع سنوات من الكارثة السورية، كان الغياب الأميركي أشد وقعاً من الحضور. في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما والسنة الأولى من ولاية الرئيس دونالد ترامب، كان السوريون، وكل منخرط في الشأن السوري، بانتظار تبلور السياسة الأميركية تجاه القضية السورية، رفع السوريون توقعاتهم على إيقاع خط أوباما الأحمر؛ وتصوروا أنه سيضع حداً لمأساتهم، وإذ بذلك الخط يتحول مقدمة مأساة أكبر، تمهد إلى فتح عداد الفيتو الروسي، وتفلّت نظام الأسد من أي عقاب دولي. عاد أمل كسر استعصاء القضية بانتظار ولاية أوبامية جديدة. تأتي الولاية وتتفاقم المأساة، عندما تحدد إدارة أوباما لنفسها ثلاثة توجهات بخصوص سورية، تمثلت في النأي بالنفس عن القضية الأساس، وفي محاربة “داعش”، ووضع الملف في عهدة الروس.
شكلت أميركا تحالفاً لمحاربة “داعش” في العراق. ومضى أكثر من عام، قبل أن تبدأ إدارة أوباما تضيف سورية ميدانا لمحاربة “داعش”. وكان الاستبشار كبيراً عندما بدأ أوباما يقول: “محاربة داعش في العراق وسورية”، لكنه كان يرفق ذلك بالنأي بالنفس عن القضية السورية الأساسية، وهنا أتى تعهيد تلك القضية للروس. وكم كان ذلك مواتياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المثقل بأعباء القرم وأوكرانيا والضغط الاقتصادي؛ فاعتبر أن وضع اليد على سورية سيحولها ورقةً يساوم عليها ملفاته التالية. واستلزم ذلك تدخلاً عسكرياً روسياً، جعل بوتين
الحاكم بأمره في سورية؛ ولكن فقط في سورية “التابعة نظرياً للأسد وإيران”، أما في الثلث الشمالي الشرقي من سورية حيث الوجود الداعشي الأكبر، والذي قال بوتين إنه يحاربه، فتبيَن أن 3% فقط من أهداف طائراته كان لداعش (قصة استلام تدمر وتسليمها معروفة).
يسارع بوتين إلى إعلان “نصره” من حميميم وبحضور الأسد، ويدعو إلى مؤتمر حوار ومصالحة للسوريين، بعد أن فشل في تحويل “أستانة” محطةً سياسية، ليتبيّن أن من عهد له بالملف السوري كان قد بلفه. فبعد أن ذكّره بأن النظام الذي يحميه لا يزال يستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا بد أن يعاقبه على ذلك بقصف مصدر الكيميائي في مطار الشعيرات، وبعد أن ورّطه في استخدام “الفيتو” مرات في مجلس الأمن، تأتي التصريحات الأميركية بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه المسألة السورية قد تبلورت، وأن أميركا تضع يدها على الثلث المفيد، مياهاً وثروة باطنية وزراعة في سورية، وتعمل على إنشاء جيش من 30 ألف مقاتل، وأنها باقيةٌ، حتى يكون هناك حل سياسي في سورية، وحتى يتم الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرارات الدولية. ولتأتي أميركا، ومعها أربع دول معنية بالقضية السورية بما سمته “لا ورقة” عشية مؤتمر سوتشي؛ لتقول لبوتين إن خطوته البائسة في إيجاد “حل سياسي” في سورية خلبية.
والآن، ما معنى أن تفعل أميركا ذلك كله، وماذا تريد واشنطن من موسكو في سورية؛ ولماذا
عهدت لها بالملف السوري، وهل تختلف السياسة الأميركية تجاه قضايا حساسة عالمية، بتبدل رؤسائها، أم أن المنظومة الأميركية الأعلى المتحكمة، بما يدور في عالمنا، صغيراً كان أم كبيراً، هي المحرّك لتلك القوة الأميركية تفرداً بمصير عالمنا، وغير مسموح بتعدّد القطبية التي تفلسف بها بوتين؟ أمام هذا السؤال والواقع الاستراتيجي الكبير، يخلص المرء إلى أن وضع اليد الأميركية على القطعة الأهم من الجغرافيا السورية، ليس لمائها وغازها ونفطها وزراعتها، بل لأغراضٍ تتقدمها رسالة لموسكو بأن هناك مقرراً أساسياً لمصير عالمنا، صغر أم كبر.
إنه تلقين درس لروسيا بوتين أن القطب الواحد لا يزال هناك، والحلم الروسي في عودة الإمبراطورية ليس إلا وهماً؛ إنه تثبيت لمقولة أوباما إن روسيا ليست إلا دولة إقليمية كبيرة.
من هنا، يمكن القول إن ذلك التأليب السياسي على ترامب، والتحريض الإعلامي عليه، وفزاعة التدخل الروسي في انتخابه، ليست إلا أدوات لاستنفاره وتحريضه، لوضع حد للروس، وإعادة بوتين إلى حجمه الحقيقي.
إضافة إلى هذا الهدف الكبير الذي أنجزته على الحالة السورية، باستخدام بوتين قفازاً أميركياً غير مرئي، فإن الولايات المتحدة أنجزت أيضا أهدافاً ثانوية، لا تقل وزناً عن هدفها الأكبر، فهي أراحت إسرائيل سنوات تساوي السنوات التي أراحها خلال حكم المنظومة الأسدية بهدوء جبهتها الشمالية الشرقية؛ وذلك بجعل سورية حالةً لا تقوم لها قائمة عقودا. من جانب آخر، كشفت القوة العسكرية الروسية الغاشمة إيران؛ وعرّت مخططاتها الطامحة، لكن العاجزة عن التمدّد، إلا في ظل يد باطشة، كاليد الروسية. وهنا فضحت أميركا الجهتين معاً.
ويبقى آخر اهتمامات لعب الكبار مصير الشعوب وعذاباتها، وتبقى التفاتة بسيطة، وتوافق شفوي كفيل بحقن الدماء ولملمة الجراح؛ فمتى تتم تلك الالتفاتة التي تعيد أهل سورية إلى سكة الحياة؟
العربي الجديد