ما مصير سوريا… وانتكاسة الانتفاضة العربية تبلغ ذروتها؟/ جلبير الأشقر
إن الموجة الثورية العربية العارمة التي انطلقت من تونس قبل ست سنوات وأطاحت بزين العابدين بن علي، ازداد زخمها أضعافاً بانتقالها إلى مصر وإطاحتها بحسني مبارك. وقد أدّى ذلك إلى تدخّلات خارجية مكثّفة في الانتفاضات اللاحقة: فبينما تمكّن التدخّل الخليجي من إخماد لهيب الانتفاضة في البحرين في وقت مبكّر، ومن ثم التوسّط في تنحّي علي عبدالله صالح عن الرئاسة في اليمن بصيغة توافقية، أفضى تدخّل الحلف الأطلسي بمشاركة قطر والإمارات المتحدة والأردن في الساحة الليبية إلى تسهيل الإطاحة بمعمّر القذّافي وتسريعها. وقد أعطى سقوط هذا الأخير دفعاً قوياً للانتفاضة السورية التي ما لبثت أن تحوّلت إلى احتراب، بعد أن قرّر نظام آل الأسد القضاء عليها عسكرياً.
منذ ذلك الوقت، بات مصير السيرورة الثورية العربية برمّتها رهناً بالساحة السورية التي شهدت أعنف مواجهة بين النظام القائم وقوى التغيير. وبعد سنة ونيّف من القتال، جاء التدخّل الإيراني الكثيف إلى جانب نظام آل الأسد منذ ربيع سنة 2013 ليقلب ميزان القوى ويتيح للنظام الانتقال إلى الهجوم كي يستعيد بعض المواقع التي كان قد خسرها. وقد شكّل ذلك التدخّل الحدثَ المفصلي في انقلاب الأوضاع العربية من طور الصعود الثوري إلى طور الهجوم الرجعي المضاد للثورة، طور الانتكاسة.
ومع ذلك، وبالرغم من الحدود النوعية التي فرضتها واشنطن على تزويد المقاومة السورية بالسلاح من قِبَل حلفائها الإقليميين، ولا سيما الحظر الأمريكي على تسليم صواريخ مضادة للطائرات، وجد النظام السوري نفسه من جديد في وضع عسكري حرج بعد سنتين من تدخّل إيران وأدواتها الإقليمية لنجدته. فتدخّلت بدورها روسيا فلاديمير بوتين لتنقذه بحيث غدت المقاومة السورية تواجه تشكيلة من القوى العسكرية ـ قوات النظام وميليشياته، القوات التابعة لإيران، وقوة الضرب الروسية الهائلة ـ يصعب على جيش نظامي كامل العدّة أن يتفوّق عليها، فكم بالأحرى جمعٌ من القوى المتنافرة ومحدودة التسليح.
فمع التدخّل الروسي، لم يبقَ من سبيل أمام المقاومة السورية كي تعيد قلب الميزان لصالحها سوى تغيّر الموقف الأمريكي في اتجاه رفع القيود عن تسليحها بالمضادّات الجوّية وغيرها من الأسلحة النوعية. هكذا تعلّق مصير المقاومة السورية بالانتخابات الأمريكية، وكانت تأمل أن تفوز فيها هيلاري كلنتون التي يُعرف أنها، أثناء مشاركتها في إدارة باراك أوباما خلال مدته الرئاسية الأولى، كانت قد تبنّت وجهة نظر القائلين بضرورة مدّ المقاومة السورية بما يتيح لها أن تفرض على النظام السوري تسويةً تلبّي الشرط المتمثّل بتنحّي بشّار الأسد عن الرئاسة. وهو ما أسماه أوباما «الحلّ اليمني»، متمنّياً حدوث مثله في سوريا، لكنّه رفض خلق الشروط المؤاتية له خشيةً من أن تفلت الأمور عن السيطرة بحيث ينهار النظام السوري وتنهار معه الدولة السورية بأسرها على غرار ما حصل في ليبيا.
وقد جرت الرياح بما لا تشتهيه أشرعة المقاومة السورية، ففاز دونالد ترامب الذي دعا إلى التعاون مع بوتين في سوريا ومساندة نظام آل الأسد كدرع مزعوم في وجه إرهاب تنظيم داعش. والحال أن هذا التنظيم الأخير إن أفلح بشيء فبتحفيزه لصعود شتى القوى المعادية للمسلمين على نطاق بلدان الغرب بجملتها. فرأت موسكو في ذلك الفوز ضوءًا أخضر لشنّ هجوم كثيف بغية إحراز سيطرة النظام السوري وحلفائه الكاملة على مدينة حلب، كبرى المدن السورية. وقد ساءت آفاق الوضع فوق ذلك بأنه بات من المؤكد أن الدولة الغربية التي كانت الأكثر تأييداً للمعارضين السوريين، حتى ولو لم تقترن أقوالها بأفعال ذات شأن على الأرض، ستنتقل إلى موقف مشابه لموقف ترامب، وهو موقفٌ يجمع عليه فرانسوا فيون ومارين لوبين، المرشّحان اللذان يٌرجّح تنافسهما في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع عقدها في الربيع القادم.
والحصيلة المُرّة هي أن الحلم بسوريا ديمقراطية محرّرة من قبضة آل الأسد الخانقة بعد أربعة عقود من المعاناة منها قد توارى آنياً ليحلّ محلّه أفق استكمال آل الأسد عقدهم الخامس في حكم البلاد. ولا إذلالٌ للمقاومة السورية بإخفاقها في وجه هذا التحالف الجبّار من القوى، بل يحقّ لها أن تبقى مرفوعة الرأس لقدرتها على مثل الصمود الذي حقّقته بينما الأحرى بأركان التحالف المذكور أن يخجلوا من عجزهم عن التقدّم سوى ببطء شديد على الرغم من تفوّق قواهم الساحق بالإمكانيات العسكرية.
إلّا إنه، ومع أن ميزان القوى قد انقلب بهذا الشكل المأساوي ضد المقاومة السورية، لم تخسر الحرب وإن خسرت المعركة، بل لا تزال تمسك بورقة استراتيجية من خلال قدرتها على إطالة أمد القتال في سوريا، بينما ما من شكّ في أن قوات نظام آل الأسد على درجة عليا من الإنهاك وكذلك بعض حليفاتها من القوى التابعة لإيران، كما أنه من المؤكد أن موسكو لا ترغب على الإطلاق أن تغرق في الأوحال السورية كما غرقت في أوحال أفغانستان في الثمانينيات من القرن المنصرم، لا سيما أن حالتها الاقتصادية قد بلغت الحضيض.
ينضاف إلى ذلك أن أولوية البلدان الغربية إزاء الساحة السورية تقوم على انهاء التجذّر الإرهابي الذي يطالها ووقف تدفّق اللاجئين بل إرجاع قسمهم الأعظم إلى داخل الحدود السورية. ومهما ظنّ أمثال ترامب وفيون، فإن التعاون مع بوتين وآل الأسد لا يستطيع البتة أن يكفل تحقيق هذه الأهداف، بل لا يمكن تحقيقها سوى بإشراك المعارضة السورية. هي ذي الورقة الأقوى بيد هذه الأخيرة اليوم، فعليها ألا تهدرها في الحلقة القادمة من مسلسل المفاوضات وألا تقع في فخ المشاركة في لعبة استفرادها وتحييد الأطراف الغربية التي تحاول موسكو لعبها بغية إضعافها. بل ينبغي على المعارضة السورية أن تسعى وراء تحقيق الأهداف الجوهرية التي يتوقف عليها مصير سوريا وتتوقف آفاق التغيير فيها، ألا وهي وبترتيب الأهمية: وقف النزيف والدمار أولاً، وعودة اللاجئين ثانياً، وفسح المجال أمام درجة من التعددية السياسية في سوريا ثالثاً. أما آل الأسد فحسابهم أمام التاريخ مؤجلٌ، ليس إلّا، ومصير سوريا الوطن أعظم شأناً من مصيرهم بما لا يُقاس.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي