صفحات سوريةميشيل كيلو

مجتمع قوي وسلطة متوحشة!


ميشيل كيلو

شاعت في الآونة الأخيرة رؤية تقسم السلطة السورية إلى دولتين: إدارية تعتبر برانية ومدنية، و«عميقة» تعد عسكرية وقمعية، هي الدولة التحتية أو الخفية، التي تتخذ القرارات وتتولى مقاتلة الشعب السوري، وتستخدم الدولة الأولى، دولة الوزارات والمؤسسات المدنية والحزبية، من اجل التعمية على حقيقتها كدولة قمعية، عنيفة ومقررة، لن يكون التغيير جديا او مجديا، إن كان لا يتناولها هي او لا يستهدفها ويطاول مؤسساتها واجهزتها ووظائفها .

ومع ان هذا التصور الذي يفرز السلطة الى قسمين يركب احدهما على ظهر الآخر، مع أنه يحاول إبراز دوره ومكانته في الحياة العامة كي يحمله المسؤولية عن أفاعيله، أي عن جرائمه وفساده، وينسبها إليه، فإنه ليس صحيحا بخصوص سوريا، لسببين:

– أنه يرى في السلطة الاستبدادية النافية للدولة دولة عميقة، مع انه لا يجوز الخلط إطلاقا بين سلطة مافيوية تستخدم لمصالح خاصة وتضع القانون تحت تصرف أصحابها والمقررين فيها، وبين الدولة، التي تتكون من مؤسسات شرعية تستمد سيادتها من القانون، ومن رقابة الرأي العام والصحافة الحرة والاجهزة المتخصصة في السلطتين التشريعية والقضائية بصورة خاصة، ليس المنتسبون إليها غير موظفين عموميين خاضعين للمساءلة والمحاسبة، فهم خدم مصالح الدولة العليا باعتبارهم إما بيروقراطية عاملة في خدمتها وقائمة على إدارتها، أو مفوضين حكوميين في مقاعد الوزراء أو المدراء العامين… الخ. هذه السلطة السرية، التي لا تقر بوجود مؤسسات ولا تخضع لقانون أو مساءلة، لا يمكن أن تسمى دولة، عميقة كانت أم سطحية، بل هي في حقيقتها، العميقة جدا، عصابة من اللصوص الفاسدين، الذين وصلوا إلى سدة الحكم بالقوة والترهيب، فاداروا بلادهم كما تدار السجون، التي كان يجب أن يزج بهم وراء قضبانها بدل أن يجدوا أنفسهم في مقاعد الرئاسة والأجهزة القمعية: مؤسسات سلطتهم العميقة الوحيدة الفعلية والفعالة، التي يتوقف بقاؤهم عليها، ولولا دورها وفاعليتها لكانوا سقطوا لوحدهم دون كبير عناء من الشعب.

– لأن الصراع الجاري أكد أن الطرف القوي في سوريا هو شعبها، الذي كان يقال عموما إنه ضعيف ومفتت، وليس القوي، هو السلطة التي خدعت بحساباتها، عندما توهمت أنه لم يعد هناك شعب في سوريا، وطرحت على نفسها السؤال التالي: إذا كان عندنا مليون عنصر في الشبيحة والأمن والجيش، ومليونين ونصف المليون إلى ثلاثة ملايين في الحزب، وكان الشعب مؤطرا كله في «منظمات شعبية» وخاضعا لرقابة الأجهزة والحزب والمخبرين المبثوثين بكثافة في كل مكان، وكان اللعب الطائفي بالمجتمع قد شقه إلى كتل متنافسة متصارعة، وكانت المعارضة ضعيفة ومشتتة، وكان المواطنون عزلا ومتفرقين وبلا وعي سياسي، وأخيرا، إذا كنا نحن، اهل السلطة، من يوزع عليهم الطعام والشراب، ويقطع ارزاقهم أو يجريها عليها، فمن اين سيأتي الشعب، ومن الذي سيهدد وجود السلطة والنظام، ومن الذي سيتظاهر أو سيقوم بثورة ضدنا، ولماذا نلبي مطالب الراغبين في الإصلاح، وهم، كما صرح الأسد الإبن أكثر من مرة، قلة لا قيمة لها، لا تحظى حتى بجزء من التأييد الذي لدى النظام، الذي يطالبون بإصلاحه، كي يقيموا هوة بينه وبين الناس، تمهد لتفجر مشكلات، يظنون أنه لن يكون قادرا على مواجهتها، فهم يريدون اذن تخريبه باسم إصلاحه، متجاهلين أن أربابه يقرأون نوايا المعارضة السيئة، ويفكون أسرار شيفراتهم، ولن يتجاوبوا معهم، لانهم ليسوا مضطرين لذلك .

من أين جاء الشعب، أو بالأحرى: أين كان خلال نيف وخمسين عاما تحكم فيه خلالها رهط من الحكام الظالمين؟. أعتقد أن على من يتحدثون عن الدولة العميقة أن يروها في هذا الشعب، الذي حملها في حناياه طيلة فترة خمسين عاما ونيف، غيبتها السلطة فيها عن البلاد والعباد، وحفظها الشعب في أعماق روحه، وتمسك بها حتى عندما ضمرت حتى بدا انها تلاشت واضمحلت تماما وزالت من الوجود. وخال ارباب النظام انها زالت وانتهى امرها وانهم مسحوها من ذاكرة ووعي أناس، فمن أين يمكن أن يأتي الخطر، ومن سيصنع، تحت اعين هذه الكثافة الامنية الساحقة، شعبا، ومن سيقوم بثورة في بلاد هذه حال شعبها منذ وقت طويل؟

لا مراء في ان الشعب السوري هو دولة سوريا العميقة، وأن نظامها هو نفي الدولة: عميقة كانت ام سطحية. ولا مراء في أن شعبها يقاتل باسم دولتها الآتية على جناح تضحياته، وأن السلطة تقاتل باسم مصالحها ونظامها النافي للدولة كيانا ووجودا ووظائف. ولا مراء أخيرا في أن حسابات النظام لم تتحقق، وأن ما جرى يتطلب قراءات متعمقة، ستتم من دون أي شك في المستقبل، بعد زوال الكابوس الجاثم على صدر سوريا.

ان ما جرى تم لأسباب، منها:

– أن السوريين أحرار. لو لم يكونوا كذلك لما شكلوا من أنفسهم شعبا مناضلا تخطى، وهو تحت النار، حال الفرقة والتمزق، ولما واجهوا قوة منظمة على خير وجه وممولة ومكلفة بمهام معروفة جيدا ومبنينة بدقة. لو لم يكن السويون أحرارا، ولو لم يلتقوا على الحرية كهدف جامع وملموس، لما نجحوا في تشكيل مقاومة منظمة في حمأة المعارك، ولما كانوا قد قطعوا المسافة التي اجتازوها نحو تغيير معناه الوحيد في نظرهم، جعل المجال السياسي في بلادهم حرا، لأن هذا هو المعنى الممكن الوحيد لاسقاط النظام، ولأنه المعنى الذي يمكنهم إنجازه انطلاقا من ذواتهم الحرة. يطالب السوريون بالحرية ويريدون بها الدولة الحرة، التي سينتجها نضالهم كبشر أحرار، لم يكن النظام قادرا على رؤيتهم أو تلمس وجودهم، لاعتقاده أن الشعب العادي لا يتحسس الحرية ولا يهتم لغيابها عن حياته، وتلك غلطة لو لم يقترفها لما ثار الشعب عليه ،ولما كان هناك من يقول اليوم: سوريا، اي الدولة، بدها حرية.

من الذي صنع هذه القسمة، التي جعلت السلطة نقيض شعب ودولة وحدتهما حتى صار الشعب يموت من أجل تحريرها من الطغيان، وها هي توشك ان تنبثق من حطام مدن وقرى يدمرها النظام، لكنه يعجز عن تدمير حملتها من أبناء الشعب العريق الذي كان احد مؤسسي الحضارة، واستحال قهره على مر التاريخ، كما استحال القفز من فوقه في أية مرحلة تاريخية أو حقبة تحديات حاسمة، علما بأنه كثيرا ما خبر مراحل من الشدة والعنف لا تقل عما يواجهه في المرحلة الراهنة، وصد أخطار الفرنجة والمغول ثم التخلف العثماني وأخيرا الاستعمار الأوروبي، من هنا كان أستاذي الياس مرقص يقول دوما: إن هدف حرب حزيران كان تدمير القيادة في مصر والمجتمع في سوريا، وإن من فعل ذلك هم اهل السلطة من جنرالات وعسكر.

– انماط التضامن الجديدة التي ولدت خلال معركة الشعب من أجل بلوغ الحرية، وتقوم على قدر أعظمي من الغيرية والتضحية في سبيل الآخر، أيا كان، انطلاقا من وعي يرى في السوريين جسدا واحدا يجب أن يكون لكل مواطن فيه قدرا متساويا من حق المشاركة في الوطن، الذي سيبنى لبنة فوق لبنة على أنقاض حال التمييز والأنانية والإفساد والفرقة، التي عاشت بفضل تحريض السوريين بعضهم ضد بعض وإثارة خلافات مفتعلة غالبا بينهم، وتواصل اليوم العمل لشق صفوفهم وضربهم، أحدهم بالآخر، لكن التضامن الشعبي/ الوطني يفوت عليهم فرص تحويل التنوع إلى تناقضات، ويحول بينهم وبين قلب ثورة الحرية إلى اقتتال طائفي، رغم حوادث طائفية مدانة وقعت هنا أو هناك، كما يفوت عليهم أخيرا فرص إثارة حرب أهلية أرادوا أن يغرقوا فيها الشعب المصمم على التخلص منهم. تتخلق سوريا الجديدة في الصراع، ومع تخلقها يولد الشعب الذي كان النظام يتساءل باستغراب عن مكان وجوده في النظام، فيطمئن لأنه لا يجد له مكانا فيه، وبالتالي في وطن تملؤه أجهزته وتسد جميع مسامات جلده، بما انها تغطي البلاد وتكتم انفاس العباد!.

– خروج النظام من الشعب، الذي يعبر عن نفسه في درجة العنف التدميري الشامل الذي يستخدمه ضده، كأنما يريد عبر عنفه، الإقرار بأنه ليس شعبه بل هو شعب عدو، وخروج الشعب من النظام، الذي يجد تعبيره في حجم المقاومة الوطنية الهائلة الاتساع والتصميم، التي حولت النظام إلى غازٍ خارجي، وفاقت بأشواط ما أبداه خلال ثورته ضد الانتداب الفرنسي، الذي لم يستخدم ولو جزءا ضئيلا من العنف الذي يستخدمه ضدهم نظامهم الذي نزع عنفه عنه صفات الممانع والمقاوم والوطني، التي كان يعزوها لنفسه.

يتقدم المجتمع السوري من الغياب إلى الحضور، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة، ومن السلبية إلى الفاعلية، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الخنوع إلى رحاب الحرية، ومن عالم مأزوم ومتخلف إلى عالم حر ومتجدد، ومن قيم الذل إلى قيم الكرامة، ومن واقع التمييز إلى وعد المساواة والعدالة، ومن سلطة أكلت الدولة إلى مجتمع يقيم دولته ويقضم السلطة قرية قرية وبلدة بلدة ومدينة مدينة وفي كثير من الاحيان بيتا بيتا .

أيهما أقوى: هذا المجتمع أم سلطته التي فات زمانها واخذت تلفظ أنفاسها الاخيرة في اربع زوايا سوريا، الذي لم تعد تشبهه او يشبهها، ولم يبق لديها من خدمات تسديها له غير تدميره المنهجي، دفاعا عن تسلط يقتله بالعنف العاري؟

ملاحظة: ثمة نقطتا ضعف خطيرتان في المجتمع السوري هما أولا: تعبيراته السياسية الحزبية، التي عجزت عن الارتقاء إلى سويته الخارقة، ولا بد أن تتخلق من الآن فصاعدا تعبيرات سياسية تجسد رغباته ،على أن تنطلق من قاعدته المجتمعية وما أفرزته من قوى جديدة، وتفعل ذلك بسرعة، ولا تنطلق من فوق: من نخبه السياسية البائسة. وثانيا: استقواء هذه التعبيرات الحزبية بالخارج وعملها على وضع القضية السورية بين يديه، في تنافس خسيس مع السلطة، التي سعت منذ اليوم الأول لإخراج حلول الأزمة من أيدي السوريين.

كاتب سياسي ـ سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى