محاولة لتفجير الذات/ سامر مختار
ربما أكثر إهانة شديدة الخصوصية لـ”روح” الكاتب، هو عجزه عن الكتابة، ماذا يعني أن تنصهر كل الصور المزدحمة في الخيال، مع كل هذا الزخم الذي يلامس أو يرتطم بشكل عنيف بقلبك وعقلك وتفكيرك ووعيك ولاوعيك من تفاصيل تجمع الحياة والموت معاً، أو الحياة والموت منفصلين، أو أن يتناوبوا على إحداث صدمات كهربائية في جسدك. كالشهيق والزفير.. جرعة حياة/ جرعة موت.
في عام 2004 لم أجرؤ على البوح لأحد بأن هناك شعورا عميقا يدفعني إلى أن أكتب، وهل من الممكن أن أكون يوماً ما كاتباً؟!
ودافع الكتابة جاء في ذلك العام، من الشعور بأني أعاني من فِصام مع الواقع الذي أعيش فيه. المدرسة كانت كالسجن، واستيعابي لصراخ المدرسين وإهاناتهم التي لا تنتهي، وتصدير شعور الدونية للآخر “التلميذ” كان أشبه بجدار إسمنت. وفي المقابل العائلة المتدينة جداً، والتربية التي أودت بي بأن تكون حياتي مبنية على خيارين: إما أن تكون من أهل الجنة أو أن تكون من أهل النار، وإما أن تكون ابناً ناجحاً ومتفوقاً في كل المجالات “وهكذا تكون ابناً باراً”، أو أن تذهب لخياراتك أنت، وتكون ابناً فاشلاً بالحياة وعاقاً لوالديه.
أول ماكتبت، كتبت عن ضعفي، وتلاه الكتابة عن أمنياتي لأبسط الأشياء التي كان من الصعوبة أن تخترق قلبي: الحب من أي آخر مجهول!
وكتبت عن أحلامي، وفرّغت كل كرهي للحياة على الورق، كتبت عن كرهي لأحكام أبي المطلقة عن فشلي، وكتبت عن أصدقائي الذين خذلوني، وعن ابنة الجيران التي أحببتها من دون أن تعرف حتى اسمي، وتزوجتْ وأنجبتْ بينما كنتُ أكتبُ لها القصائد!
وكتبت أسئلة كثيرة لله، من بينها: لماذا كل هذا الحزن؟ ولماذا كل هذا الفقر؟ ولماذا أنا ضعيف ووحيد؟ لماذا كل أقربائنا أغنياء ونحن فقراء؟
ظلّت هذا الهواجس مثل الجيوش المنتظمة في أرض المعركة “دفتر اليوميات” من دون أن يتحقق الحلم، ومن دون أن يتغير شيء! .. إلى أن توقفت عن الكتابة، وماعدت قادراً على التعبير، ودخلت في مرحلة الهلوسة مع نفسي بـ”اللغة العامية” وكأنني انقمست نصفين.
ومع بداية عام 2006م كنت قد التحقت بالجيش “الخدمة الإلزامية” وما نتج عن الدخول إلى هذا الكوكب الغريب، هو ليس الفصام فقط، لكن أيضاً أضيف لذلك الشعور بالفراغ المطلق، وهنا تعرفت بشكل جدي على اختراع لم أعرفه لا في البيت، ولا في المدرسة، ألا وهو القراءة!
والشيء المضحك أنني لم أبدأ بداية تعتبر نوعاً ما كلاسيكية لشاب حالم في عالم الكتابة -وهو ابن مدينة دمشق- أي أنني لم أقرأ مباشرةً للشاعر نزار قباني، لكن ما قرأته -ومن وجهة نظر شخصية- قد لا يليق بحجم الحلم الذي كان يحتل خيالي، وهكذا بدأت بقراءة “كتب التنمية البشرية”، فمثلاً أقدمت على قراءة كتاب من 500 صفحة تقريباً بعنوان “قدرات غير محدودة لمؤلفه أنطوني روبنز” ومن هذا الكتاب عرفت كيف أن “كنتاكي” صنع مجده من خلال اختراعه خلطة الدجاج المشهورة! وبعد ذلك اكتشفت أن 99% من كتّاب التنمية البشرية يشيدون بهذا التجربة!
إلا أن الشاعر الدمشقي نزار قباني لوّع قلبي بأشعاره الغزلية، وأيقظ عندي الحس الوطني والقومي، وأذكر أني تعرفت جيداً وأعجبت كثيراً بجمال عبد الناصر بعد قراءتي القصيدة التي كتبها نزار في رثاء عبد الناصر “قتلناكَ .. يا آخر الأنبياء”.
بعد عامين، كنت قد انتهيت من الخدمة الإلزامية، وكنت سعيداً أنني بالتوازي مع انتهائي منها، انتهيت أيضاً من كتب التنمية البشرية، ونزار قباني وجمال عبد الناصر، مع خلخلة في الشعور بالانتماء للوطنية والقومية .. وما إلى ذلك من شعارات عريضة وأفكار تعفنت في داخلي إزاء 21 عاماً هي نتاج ما عشته في البيت والمدرسة وتكللت تجربتي في الحياة في “الخدمة الإلزامية” للوطن!
كانت عائلتي سعيدة جداً من خلاصي من الخدمة الإلزامية، وها أنا الآن جاهز لـ”الحياة العملية” وإلى بناء المستقبل. لكن أول كائنات غريبة دخلت البيت، وكانت مصدر استهجان أبي هي الكتب التي تراكمت على مدى عامين في الجيش، وتلاه الصدمة التي زلزلت البيت في اعترافي العلني أخيراً أمام الجميع: أنا لا أريد أن أكون تاجراً كبيراً في “سوق الحميدية”، أريد أن أصبح كاتباً!
ومنذ عام 2008 إلى عام 2011 وجدت عملاً في متجر لبيع الإسطوانات الموسيقية بدوام ست ساعات فقط، وبراتب ينتهي من أول عشرة أيام، أنفقه في شراء الكتب وأفلام السينما والموسيقا. هكذا تعرفت على كتّاب و شعراء مثل ميلان كونديرا، وعبد الرحمن منيف، وبول إيلوار، ورياض صالح الحسين، وأمل دنقل، والموسيقي “رخمانينوف” .. الخ. إضافة إلى كتابة قصائد ونشرها في بعض المدونات والمواقع الإلكترونية.
خمس سنوات مضت -منها عامان خارج سورية، وأنا تقريباً أحاول أن أكتب “ما أتمناه” أن يكون على الورق، وإلى الآن أنا عاجز، لا أظن أن ما كتبته خلال السنوات الخمس الماضية يعبّر بشكل واضح وضوح الشمس عما تراه العين، ويُتعب القلب والروح، وكأن المشهد أشبه بجسد يحتضر ويصارع الموت، ولا يليق به بكاء مسطح “الشعور والأفق” ولا يليق به كتابة المراثي، لا يحتمل الركاكة، ولا يحتمل لغةً تُخدر الذاكرة، وتحيل كل شيء إلى صورة بالأبيض والأسود، وكيف للون الدم أن يقبل بذلك؟
(سورية)