صبحي حديديصفحات الثقافة

باوند: الشاعر والفاشية/ صبحي حديدي

 

 

في المجلد الثاني، الذي صدر مؤخراً بعنوان «إزرا باوند الشاعر: السنوات الملحمية 1921ـ1939»، يستكمل دافيد مودي ما كان قد بدأه في المجلد الأول، سنة 2009 وكان عنوانه «إزرا باوند الشاعر: الموهبة الشابة 1885ـ1920»، كما يعدنا بالمزيد، الغنيّ والمثير والجديد، أغلب الظنّ، في المجلد الثالث والأخير. ذلك لأنّ ما اشتغل عليه مودي، في المجلدين، ليس سيرة حياة وأعمال بالمعنى المألوف للمصطلح، بل هو أقرب إلى ترسيم مسيرة نقدية وأدبية لواحد من أخطر الشخصيات الطليعية في القرن العشرين، وأحد أهمّ صنّاع الحداثة المعاصرة في التنظير كما في النصّ الشعري.

باريس عشرينيات القرن الماضي تستهلّ هذا المجلد الثاني، حيث نتابع تفاصيل انخراط باوند (1885ـ1972) في تيار تحديث جارف، وعاصف، جمعه مع أمثال جيمس جويس (وت. س. إليوت لاحقاً)، بيكاسو وبراك، برانكوزي وبيكابيا، سترافنسكي وساتي… كان منهمكاً في تأليف أوبرا من طراز جديد، كثيف الدلالات ومشبوب العواطف، اعتماداً على قصائد الشاعر الفرنسي فرنسوا فيون، وكان يطوّر نظرياته حول التناغم في الشعر، من خلال معطيات الموسيقى‘ كما كان يكتب ثلاثين قطعة أولى من الأناشيد (الـ»كانتو») التي ستظلّ، حتى إشعار طويل ومديد ربما، بمثابة البصمة الملحمية الأعمق في مشهد الشعر الحداثي، والحداثة الأدبية عموماً.

العقود اللاحقة، التي كانت في الأصل فاصلاً رهيباً بين حربين عالميتين، وشهدت فترة الركود الاقتصادي في أمريكا وبريطانيا خاصة، سوف تبلور الكثير من أفكار باوند حول السياسة عموماً، ومفهوم الديمقراطية خصوصاً، حتى أنّ المرء، الساعي إلى إنصاف باوند بمعزل عن التنميطات التقليدية، لن يجد إلا القليل، والقليل جداً، من المسببات التي قادته، منذ عام 1932، إلى التماهي مع الفلسفة الفاشية، وشخص روبرتو موسوليني تحديداً. وهكذا، نشر كتاباً بعنوان «جيفرسون و/أو موسوليني»، كما ألقى من إذاعة روما سلسلة أحاديث إذاعية دورية تدافع عن الفاشية الإيطالية.

وحين احتلّ الحلفاء إيطاليا عام 1945، ألقت القوّات الأمريكية القبض على باوند وزُجّ به في سجن عسكري في بيزا، حيث تابع كتابة المزيد من الأناشيد. ثمّ تعرّض لانهيار عصبي، أعلن الأطباء إثره أنه غير مؤهل نفسياً للمحاكمة، فنُقل إلى مصحّ عقلي قرب واشنطن قضى فيه 12عاما. وفي عام 1958، بعد حملات تضامن واسعة نظمتها شخصيات وهيئات ثقافية على امتداد العالم، أُفرج عنه، فعاد إلى إيطاليا، حيث تابع العمل على الأناشيد بصمت تام، إلى حين وفاته.

لافت، بالمعنيين الفكري والأخلاقي، أنّ حماس باوند للفاشية اتخذ وجهة إيطالية صرفة، قوامها ما فعله موسوليني ـ من وجهة نظر باوند، بالطبع ـ لخدمة المواطن الإيطالي الفقير، وبالتالي فإنّ الفاشية لم تكن، في يقينه، فلسفة كونية صالحة لكل المجتمعات، بدليل أنّ نصف اناشيده كُرّس لامتداح كونفوشيوس والتجربة الصينية، وجون أدامز والثورة الأمريكية. أمّا بالمعنى النقدي، فإنّ الجوهر في منجز باوند (الذي يُحسب له أكثر من 50 عملاً، بين شعر وترجمات شعرية، وكتابات نقدية وفلسفية وجمالية) كان إحياء الحداثة في الفنّ والمجتمع، وخلق وحدة ملحمية بين الماضي والحاضر، والمصالحة بين كلاسيكيات العالم، الغرب وآسيا تحديداً، وتلك خيارات يصعب أن تخـــدم الفاشية، أو تكرّس أية مركزية عرقية.

وليس في وسع دارس باوند أن يقاوم إغراء اقتباس العبارة الشهيرة التي أطلقها إليوت في وصف باوند، وذلك بعد زمن من الإهداء الشهير لقصيدة «الأرض اليباب» إلى باوند بوصفه «المعلّم الأمهر»، في مقال بعنوان «التفوّق المنفرد»، حيث يقول: «حدث أنني، في السنوات الأخيرة، أخذت ألعن السيد باوند مراراً، فلم أعد واثقاً البتة من أنني أستطيع نسب شعري إلى نفسي: كلما شعرت بالرضا عن ذاتي، أجدني أردّد بعض الصدى من إحدى قصائد باوند»! لقد مكّن عدداً من الأشخاص، بينهم أنا نفسي، من تطوير حسّهم بالشعر، وهو بالتالي حسّن الشعر من خلال الآخرين كما من خلال نفسه. وليس في وسعي أن أفكّر بأيّ شخص كتب شعراً، من أبناء جيلنا والجيل التالي، دون أن يكون شعره (إذا كان جيداً) قد تحسّن عن طريق دراسة باوند».

وهذا المجلد الثاني يزوّدنا بعشرات التفاصيل التي لا تؤكد مقولة إليوت، فقط، بل تبرهن أنّ الفاصل الفاشي القصير في حياة باوند كان أكثر خصوصية، وأعمق إشكالية، من أن يُرى من منظار مقعر، أحادي البُعد.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى