صفحات الحوار

محمد فؤاد: شهدت على موت أخي وهو ينزف من مرض أصابه


هناك لحم وروح في الكتابة لا انفعال وعاطفة فقط

اسكندر حبش

تتنوع مسارات الشاعر السوري محمد فؤاد الشعرية، منذ كتابه الأول، حتى تبدو الكتابة عنده وكأنها محاولة دائمة للبحث عن مقتربات أخرى للكتابة، كما البحث عن أسلوبية مختلفة، لا تقترب كثيرا من سابقتها. آخر مجموعاته «أجزاء الحيوان» الصادرة عن «دار التكوين» (استعارة من أرسطوطاليس) وفيها هذه الكتابة التشريحية لأعضاء الجسد، التي تتقاطع مع مهنته كطبيب جراح، حيث يحاول إعادة تأويل الأعضاء البشرية، مستفيدا أيضا من تجربة القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات».

حول الكتاب، هذا الحوار.

[ قبل أن ندخل إلى مجموعتك الأخيرة، ما أتساءل حوله حقا هو سعيك ـ إذا جاز التعبير ـ للإقلال من الكتابة، كأنك تأتي إليها على فترات متباعدة. هل هذا صحيح؟

ـ صحيح نسبيا، أو على الأقل صحيح بشكل كبير، لناحية نشر الكتابة أكثر من فعل الكتابة نفسه. لكن هناك حقيقة ما في الإقلال منها: أتهيب في الواقع الكتابة حين أقارنها بالقراءة دائما. ففعل القراءة لديّ أشمل وأكبر بكثير، ما يجعل للكتابة مسؤولية، أعتقد أنني أنهك بتحملها. ثم إنني أظن أن الكتابة ليست فعل تحرر بل قيد يجعل المرء أسير ذاته، لذلك أتملص فعلا في بعض الأحيان من الجلوس إلى الطاولة أو الكتابة. لكنني دائما أشتاق لهذا الفعل، أشتاق له لدرجة أنني أؤجله.

[ يبدو منجزك كأنه يقع على اختلافات عدة، أقصد أن كلّ مجموعة جديدة عندك تحاول أن لا تستعيد التجربة السابقة، كأن ثمة انقطاعات مقصودة بين عمل وآخر. هل ترى أن الكتابة عودة أبدية دائمة إلى بدايات جديدة في كلّ مرة؟

ـ أعتقد أن في هذا السؤال إجابة لي عما يبدو ترددا أو خوفا من النشر. كنت قلت إنني لم أتوقف عن الكتابة أبدا، لكنني فعلا كنت أحاول أن أبدو ولو قليلا مختلفا عند نشر أي مجموعة جديدة. ما يبدو انقطاعات على مستوى أسلوبية النص أو موضوعاته بالمجمل هو ليس كذلك في سير العملية الكتابية، ثم إنني أرى في الكتابة الشعرية معرفة متحققة بشكل ما، وعليه لا بدّ من أن يكون هناك لحم وروح في مادة الكتابة لا انفعال وعاطفة فقط، ولا تتأتى هذه المادة المحسوسة إلا من تراكم معرفي، قرائي، بشكل ما، وحياتي بشكل آخر، لا بدّ من أن يدخل في نسيج المادة المكتوبة. أظن أن كل مجموعة نشرتها من هذه المجموعات الأربع تختلف بدرجة ما عن بعضها البعض وإن كنت أرغب في أن تكون مختلفة كليا. ولربما هذا ما حاولت أن أحققه عن وعي في المجموعة الأخيرة…

[ هذه المجموعة الأخيرة «أجزاء الحيوان»، تبدو كأنها نابعة من حياتك الثانية أقصد من مهنتك كطبيب جراح، ما هي هذه الرغبة في أن تستعيد الحديث عن أعضاء الجسد عضوا بعد آخر؟

ـ لأعترف في البداية أن الأمر كان مفكرا فيه، ولو بشكل خفي، لكنْ، هناك تصميم مسبق عادة ما يناقض فكرة تلقائية الشعر وعفويته. فالكتاب يمكن أن أسميه محاولة واعية للكتابة في موضوع ليس موجودا تماما في الشعر العربي، وهو الكتابة التشريحية كما يمكن أن أسميها بالمعنى العلمي لكلمة التشريح. حاولت في هذا الكتاب أن أكون بارد الانفعال، ضعيف العاطفة، كما لا بدّ لأي مبضع أو أداة تخترق الجسد، وأعترف أيضا أنني ربما لم أنجح تماما، لكن الرغبة القوية في مقاربة أعضاء الجسد، عضوا عضوا، بوصفها ذاتها، لا بوصفها اسقاطات لمشاعر وانفعالات، وهذا تحقق في بعض الأعضاء/ القصائد، وإن لم يتحقق في جميعها، فما زال هناك انفعال ما أسعى جاهدا وواعيا لإخفائه. التجربة بذاتها كانت مغرية بشكل كبير. أسماء الأعضاء بذاتها إمكانيات مكتنزة، خذ مثلا «جارات الدرق»، أو «الصائم» أو «البنكرياس». تبدو هذه الأسماء العربية، في بعضها، وهي ترجمة أحيانا غير دقيقة لمصطلح لاتيني، لكنها أسماء شديدة الإيحاء وغرائبية التداول. ربما هذا يعطي دفعاً أحياناً للشاعر كي يدخل من الزاوية الصعبة للجسد، وهي زاوية العضو التشريحي نفسه. ربما ساعدتني المهنة لكن لم أكن أكترث لهذا المعنى تماما، فالكتاب ليس عملا تصويريا للعضو أو لجزء الحيوان، وإن كانت هناك استفادة من هذا التصوير. سأقول بالمجمل إن التجربة ممتعة في الكتابة، لكنها صعبة في محاولة الإقناع بمبرر شعريتها، علماً بأنه ليس للكتابة مهمة تبرير، المهم المنجز بذاته.

تأويل الأعضاء

[ ولم الحيوان؟

ـ كما لا يخفى عنوان المجموعة هو تطابق مع عنوان كتاب أرسطوطاليس «أجزاء الحيوان» الذي كان كتاباً في التشريح. والحيوان هنا، لغة، هو الحياة، أي كائن حيّ، وبالتالي حين كتب أرسطو عن تشريح الحيوان كما كان متاحاً في ذلك الزمن، فإنه كان يفعل مطابقة أو تقرباً من شبيهه الإنسان. بالنسبة إليّ أعتبر كتاب أرسطو أو كتاب القزويني «عجائب المخلوقات» مصدراً حقيقياً لفهم الجسد، بوصفه ممكنا شعريا مستمرا، وليس إنجاز هذا الكتاب سوى اقتراح متواضع يضاف إلى تلك الاقتراحات التي أتى بها القزويني وأرسطو.

[ لكنك هنا تأخذ التشريح إلى نوع من السرد أقصد تتخلص من عبئه الطبي إلى عبء آخر، فلسفي وربما تعيد اختراعه من جديد؟

ـ فلسفيا نعم لكن ليس بمعنى إعادة اختراعه بل تأويله فالعضو هنا هو تشريح لغاية ووجود. كل هذا يكمن في هذا الكائن الضعيف الذي تقوده خطاه دائما إلى تدمير ذاته. تأمل الإنسان في ذاته كموضوع أبدي للفلسفة هو هنا في هذا الكتاب، لكن هنا يأخذ أيضا طابعا محسوسا، أنا أتأمله بعين جراح ليمس الداخل بيدين حقيقيتين وليس فقط كما الفيلسوف، بيدي العقل أو بيدي الفكرة. أنا أشم العضو وألمسه وأعبث به بحرص من يعرف قيمة الحياة ويمجدها، لكن في الآن ذاته بمعرفة المآل الذي لا مهرب منه، الذي هو التفسخ والانحلال والزوال.

[ كم تطلب هذا المشروع من وقت للكتابة؟ وهل عدت إلى كتب أخرى غير أرسطو أو القزويني؟

ـ في الحقيقة كتبت هذا الكتاب في عمومه لفترات متقاربة لكن كنت في مشكلة نقله أو جعله كتابا، فما مبرر اختيار بعض الأعضاء من دون الأخرى، وكيف يمكن أن يكون كتبا أو سردا تشريحياً ووصفياً لجسد، ولم يتحقق هذا الانهاء إلا في لحظة شخصية كنت أقف فيها أشهد على موت أخي، وهو ينزف لمرض صعب أصابه؟ كنت ألمس تماما هذا الغياب وهو يتحقق أمامي على جسد، ومن هنا جاءت القصيدة التي أنهت الكتاب وجعلت له هذا الكيان.

أما عن المصادر فأنا ممتلئ أيضا بطبيعة المهنة بقراءات كثيرة علمية، لكن في لحظة ما بعد انجاز معظم الكتاب بدأت أبحث إن كان هناك ما يشبه هذه المقاربة، ووجدت جزءا منها كما لا بد تعلم عند غوتفريد بن، وقتها أدركت أنه يمكن أن تكون هناك مشروعية لهذا النمط في الكتابة.

أجرى الحوار: إسكندر حبش

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى