محنة المثقف بين المعرفي والأيديولوجي/ حسام أبو حامد
عبرت اليوتوبيا الأفلاطونية عن حلم المثقف صانع الفِكَر في أن ينتزع من المجتمع الاعتراف به وبدوره القيادي، لكن كان على المثقف أن ينتظر قروناً عدة قبل أن تصبح هذه اليوتوبيا واقعاً بمعنى ما وتحديداً في أوروبا القرن الثامن عشر، الذي أعلن فيه تشارلز دوكلاس بكل ثقة أن «أهل الفِكْر هم الذين يحكمون لأنهم يصنعون الرأي العام». إنه عصر التنوير الذي تعاظمت فيه سلطة العقل وسلطة المثقف صانع الفِكَر وحامل مشروع الحداثة، ابتداءً من رسالة فولتير في التسامح (قضية كالاس)، مروراً بالثورة الفرنسية التي قادها فكر فلاسفة الأنوار، وصولاً إلى بيان المثقفين (زولا وقضية دريفوس).
ابتداءً من القرن الثامن عشر برز المثقف كموجه وصانع للرأي العام متحرراً من سلطة الدولة والكنيسة، مكتسباً مشروعيته أمام الرأي العام من خلال دفاعه عن القضايا العامة. هكذا يمضي جان بول سارتر في القرن العشرين حاملاً لواء الالتزام ومنظراً له من خلال مجلة «الأزمنة الحديثة» التي أطلقت عددها الأول في أيلول (سبتمبر) 1944. وسرعان ما انتقلت قضية الالتزام هذه إلى مثقفينا العرب، فأعلنت مجلة «الآداب» البيروتية منذ عددها الأول في كانون الثاني (يناير) 1953 عن أن الأدب «نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة هي غاية الأدب الفعال (…) أدب الالتزام».
وبدعوى الالتزام، وجد المثقف نفسه أكثر فأكثر متورطاً في السياسي فكراً وممارسةً، مدفوعاً بحسن النوايا وبالرغبة في التأثير في الرأي العام والتغيير الاجتماعي، ومتمترساً خلف الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيارات السياسية. وربما كان للانتماء إلى خط سياسي تنظيمي وحزبي معين دور كبير في رواج عدد من الأسماء الثقافية وتصديرها إلى شريحة واسعة خارج دائرة الثقافة النخبوية. لكن هذا التداخل بين المشروعين الثقافي والسياسي كان على حساب الأول، إذ أصبح الثقافي رهناً بالسياسي لا يتحرك إلا من خلاله وبتوجيه منه، مما أدى إلى سيطرة حالة من السياسوية التي لا ترى في أي نشاط إنساني بما فيه الفكري والثقافي إلا بعداً وحيداً هو السياسي نظرياً وعملياً، مما أدى إلى بروز أزمة مزدوجة على الصعيدين المعرفي والسياسي. تمثلت هذه الأزمة سياسياً بحالة من الرومانسية أدت إلى العجز عن ممارسة السياسة كفن للممكن. وبتلك الدوغمائية التي أوقعت التنظير السياسي في الأيديولوجيا من حيث هي وعي زائف، عجزت عن التأثير الفعلي في واقع الأشياء.
أما معرفياً، فأفصحت الأزمة عن نفسها عبر فكر لم يعد قادراً على إدراك العام في الخاص، وعجز عن امتلاك البعد الفلسفي اللازم لتكوين المفاهيم الضرورية للقبض على الواقع نظرياً. وكانت النتيجة، أشباه من المثقفين وأشباه من السياسيين ساهموا في فشل ذريع سياسياً وثقافياً.
ومنذ التسعينات أخذت تظهر تحولات سياسية فرضت واقعاً سياسياً جديداً وأدت إلى تصدع في الشعارات السياسية الكبرى، ترافق مع فشل الأحزاب والحركات السياسية العربية عن تحقيق الحد الأدنى من هذه الشعارات، وبالتالي الإعلان الفعلي عن حالة الإفلاس السياسي والتنظيمي والاجتماعي لكثير من الأحزاب والحركات السياسية العربية، مما أصاب المثقف السياسي أو السياسي المثقف بمزيد من الإرباك الفكري والإفلاس السياسي، وكانت آثار ذلك كارثية على المجتمعات العربية التي تُركت عرضة لمزيد من التهميش والإقصاء الاجتماعي الاقتصادي لمصلحة النخب الحاكمة.
من خلال فكرة الالتزام نيط بالمثقف إلى جانب وظيفته المعرفية وظيفة اجتماعية. وكان من المفترض أن يكون السياسي مجرد أداة يمارسُ من خلالها المثقف تلك الوظيفة الاجتماعية. لكن انجرار المثقف إلى تلك الحالة السياسوية أدى إلى عجزه حتى الآن عن ممارسة الوظيفة المعرفية الاستشرافية وأصبح دوره مقتصراً على البحث في تداعيات الأزمات المتكررة على المجتمعات العربية وتقديم قراءة ارتجاعية للحدث. لقد أدى تغييب الدور المعرفي الحقيقي لمصلحة السياسي إلى الاخفاق في تلك الوظيفة الاجتماعية.
لا شك في أن الثقافة بوصفها نتاجاً بشرياً في مجتمع معين هي منحازة وملتزمة على نحو ما، وهنا سنكون أمام السياسي بلا شك، لكن هناك فرقاً بين الوعي السياسوي الذي يُخضع الثقافي والفكري والمعرفي عموماً للسياسي وبين الوعي الذي يقبض على العلاقة الجدلية بينهما ويحافظ على الاستقلال النسبي لكل منهما تجاه الآخر. إن الفرق بين الحالين هو الفرق بين الفكر اللانقدي والفكر النقدي. الأول هو في نهاية المطاف شكل من أشكال الأيديولوجيا بوصفها وعياً زائفاً. أما الثاني فهو معرفة. وإذا كانت كل معرفة لا تخلو من الأيديولوجيا فإنه وفي الثاني فقط تظهر وحدة المعرفي بالأيديولوجي. لهذا يلوذ الثاني بأحكام الوجود أما الأول فيبقى مجرد نظرة معيارية قيمية.
فالفكر النقدي المرتكز على البحث الأكاديمي الرصين والجاد والقادر على النقد الموضوعي لما هو قائم من مؤسسات هو الذي يضمن الخروج من تلك الحالة السياسوية، والتمهيد لتلك الوظيفة الاستشرافية التي يلتقي فيها دور المثقف الاجتماعي بدوره المعرفي.
* كاتب فلسطيني
الحياة