مستشفى ميداني
جولان حاجي
(إلى سعيد علي وتيسير كريّم)
«أي مستشفى ميداني يا رجل! كان القطن في يدي هو القطن الذي يحشون به آذان الموتى وأنوفهم وأفواههم، وأنا وحدي الطبيب والممرض. ما تتخيله مستشفى كان مجرد غرفة صغيرة ذكرتني بمطبخ بيتنا الذي بعناه لتسديد الديون. في ذاك المطبخ سُجّي أبي، قبل أن يأتي صديقه ليغسله ويكفنه«.
قال دلكش، الطبيب الذي انقطعت أخباره عني أشهراً، ثم سكت وأشعل سيجارة غولواز أزرق، مميلاً رأسه بصلعته الخفيفة ومتقياً بكفه الريح في باحة مقهى الكمال. لوحت له عند وصوله أمام باب المقهى. مشى مسرعاً ورشيقاً بخطوات واسعة بين الطاولات، وقال فور جلوسه:
«هل رأيت ما جرى؟ أخذوا رجلاً من داخل المقهى، وحشروه على عجل في تكسي سابا«.
إنه يسبقني دائماً إلى رؤية ما كان ينبغي أن أنتبه إليه. أناقته متقلبة الأحوال، يبدو كالمتشرد أياماً، ونظيفاً أنيقاً ليوم واحد. سكبت بضع قطرات من الماء في المنفضة المتسخة وقلت:
«لم يفرجوا عن تارين بعد. ستنتظر أمه عفواً في عيد آخر. المهم أن مكانه معلوم، سجن عدرا لا بأس به. هل أنت جائع؟«
«العفو ومكرمات العيد ومنح نصف الراتب واللعنة! لم آكل شيئاً منذ الصباح ولم أخلع حذائي. قدماي تكلمانني كما يقول الحلاقون. تأخرت عن الفطور في المواساة، ولا أتناوله عادة. وغداء اليوم لا يؤكل، غثت نفسي فور رؤية قطع اللحم نصف النيء تسبح في المرق. وفوق ذلك، الطباخ يطالب بالقسيمة. هذه هي الأوامر الجديدة. هناك طلبة جامعة يتسللون ليأكلوا في مطعم الأطباء«.
بدا حديثنا عادياً. لم نخفض أصواتنا ولا غيرنا الموضوع ولا صمتنا حين اقترب النادل. طلبنا كأسين كبيرين من الشاي الخمير. على هذه الكراسي البلاستيك نفسها استجوبوا بعضاً من الشبان الذين اعتصموا أمام السفارة الليبية في شباط. وهنا أيضاً التمَّ الذين هربوا من مؤتمر سميراميس. كنا نراهم ونحن نأكل سندويشات من فلافل المعرض على الرصيف.
«لم أنم جيداً خلال الليلتين الفائتتين. منذ يومين، كنت قد عدت للتو من مناوبة خصوصية، فخلعت ملابسي لأستحم فوراً وأنام بضع ساعات. أحرقت رغوة الصابون عيني حين قرع الباب ورن الجرس معاً. ترددت قليلاً. ثم تمهلت في ارتداء بيجامتي قبل أن أفتح الباب، والأجوبة الجاهزة تدور في رأسي، أستمدها مما سمعته عن تحقيقات الأمن. بطاقة النقابة التي لم أسدد رسومها لن تحميني، لن تأتيني بأية حصانة أو احترام. الطب تهمة. تصور التهم في الملفات: تجبير كسر أو تكييف المتظاهرين برش الماء على رؤوسهم في رمضان. احزر من كانوا زوار آخر الليل؟ كان جاراً جاء بابنه الصغير من أجل حقنة بنسلين. قال: «عفواً دكتور، أزعجناك». كان عائداً من عيادة أنور طبيب الأسنان، فاغتنم الفرصة. أنور يفتح عيادته بعد الثامنة مساء، لأن زبائنه عمال البناء معظمهم فقراء لا يجدون وقتاً خلال النهار، كما أن آلام الأسنان تباغتهم في الليل. رأيت عيادته. كلهم يدخنون، الطبيب بسبب مرضه النادر، التهاب الكولون القرحي، والمرضى مقتنعون بأن السجائر تخفف من أوجاع الأسنان أيضاً، والعيادة تغص بالدخان أكثر من أي مقهى. جلسة استحضار أرواح«.
وأشار بيده دون أن يلتفت إلى صالة المقهى وراءه.
«على أية حال، كان الأب راجعاً ومعه طفله المريض، لمح آرمتي المضحكة فتذكرني وعاونه ابنه في قرع الباب. لم أغضب حين رأيته، بل ارتحت وكتمت تنهيدة ارتياحي. لم يبكِ الطفل، وقال والده «ما شاء الله، يدك كالريشة». ثم وضع على الطاولة خمساً وعشرين ليرة خمس قطع، قبل أن يعيد قطعة منها إلى جيبه. أعدت الباقي إلى جيب الطفل وصفعت مؤخرته صفعة خفيفة مثل ابتسامتي. أنور أحد أسباب أرقي«.
كنت قد رتبت قائمة بمستلزمات طبية سئلت عنها، كتبتها بقلم رصاص على الورقة الأخيرة من كتاب مستعمل اشتريته من تحت جسر الرئيس. متململاً في جلسته، حدثني دلكش دون أن أسأله:
«لا يزال أسفل ظهري يؤلمني أحياناً. الربيع الماضي، جين انفجرت قنابل مسمارية في مسجد داريا كنت مختبئاً في أحد منازلها، أشرب شاياً وأدخن وأنتظر وصول الجرحى. كل ما أتذكره من هذه البلدة هو الكراسي التي اشتراها أحد أصدقائنا من أجل عيادته في جبل الرز، كان قد تعرف إلى نجار موبيليا هناك بعد أن ساعده في التسريع بإجراء عمليته. حين سمعت زخات الرصاص وصراخ الناس وتكبيراتهم، جاء صاحب البيت واستعجلني لنخرج على الفور. كان هناك أناس كثيرون ولا أعرف أياً منهم على الإطلاق. دخلتُ بيوتاً لا أعرف أحداً من أهلها، وكانت فقيرة مثل البيوت التي لا أزال أتنقل بينها. كان هناك جريح يركض معنا وكيس السيروم معلق إلى ذراعه. أشار أحدهم بالقفز عن جدار عالٍ قليلاً في شارع فرعي، اختصاراً للمسافة وتضليلاً للأمن. سقطت على الطرف الآخر وصرخت وكأن عصعصي قد تهشم. سيخ ساخن نفذ إلى دماغي وأوشك يوقف قلبي. فتحت باب الدار وواصلت الركض. لا أعلم ماذا جرى للفتى الذي أصيبت عينه. كارثة إذا أصيبت عينه بالتهاب العين الودي. لثوانٍ كنت أرى محجره فارغاً وعينه الأخرى جاحظة مهددة بالاقتلاع وتنزُّ قيحاً.
«الجريح الذي كان ينتظرني في منزل آخر لم يكن من أهالي داريا. قالوا لي إن الحارة آمنة، فالوشاة محتملون في كل مكان وفي أية لحظة. كانت هناك جراح عديدة في وجه محمد ورأسه، اضطررت إلى خياطتها دون تخدير لأن أمبولات الليدوكائين انكسرت في حقيبتي هذه، حين قفزت وسقطت. كان الشاب يكتم صرخاته في منشفة يعضُّها مثل امرأة تضع مولودها الأول، وعرقه يسيل ويصب في مخدة وسخة وشرشف مقلم بخطوط رفيعة ملونة مثل الشراشف التي تشتريها أمي. أنت تعرفها بالطبع. لم يشك الشاب بكفاءتي وخفة يدي، فالألم ألهاه عن كل شيء. حاولت أن أخيط الجرح خياطة تجميلية لا تترك أية ندبة. كنت مستعجلاً، حاولت أن أتمهل لكيلا أتعرق ولا أنسى القواعد الأساسية في تدبير مثل هذه الحالات. في تلك الفوضى تحدث أحد الحاضرين عن الكزاز. لا بد أنه قد سمع به كثيراً لفرط ما تحدثوا عن الحاجة إلى مصل الكزاز وأكياس الدم. عاد الشخص نفسه وكرر رجاءه أن أعطي المصاب إبرة كزاز. «والله ليست مغشوشة. الإبرة أصلية». لم أجبه ولم أشرح شيئاً. لم يكن هناك من معنى للكمامة التي وضعتها في تلك الغرفة. حين بدأت بالتضميد ظن الشاب أنني سأنتهي بتكفينه كمومياء، وكأنني سأظل أضمده وألفه بالشاش إلى أن أنتهي عند قدميه. كان الملتمُّون الذين لا يعرفونه مثلي يتعجبون من جلد هذا الشاب النحيل وتحمله، وفي استلقائه على إسفنجة رقيقة يسندونه بالابتسامات والأدعية والشتائم. الضماد المبقع باليود والدم أبقى لعينه فرجة ضيقة كان يرى منها الصبار حين زرته النهار التالي في حي الإخلاص. هل ستأتي معي إلى هناك؟ سأعوده بعد قليل. نحن أصدقاء الآن.
«أنا من سيسدد. لن نتشاجر هذه المرة. لست مفلساً. استلمت مبلغاً عن المناوبة. عدت إلى المناوبات الليلية في المستشفيات الخاصة بعد أن تركت العمل مندوباً في شركة الأدوية». ثم أردف بعد انصراف النادل، «أستلم النقود وهي تطقطق، ثم تتجعد محشورة في جيبي. هذه اللامبالاة ستعود علي بالنحس، وأبداً لن أصبح ذا مال في حياتي كما تنبأت أمي. إنها تفتش جيوبي خلسة في كل رحلة أزور فيها البيت، وأحياناً تدس لي مبلغاً صغيراً لا أدري من أين تأتي به«.
ظللنا جالسين. دخن سيجارة أخرى مستمعاً إلي، ولم ترق له عبارة ارتجلتها ولا أدري من أين حلت علي البلاغة في تلك اللحظة: «صارت لنا صداقات جديدة. كانت جراح الناس أبوابنا إلى معرفتهم ومحبتهم«.
تداركت الأمر قبل أن يسخر مني: «أخبرتك أنني كنت أدوخ وأتقيأ إذا سمعت الأعيرة النارية في الأعراس. الآن أعرف أسماء العديد من الأسلحة الخفيفة. أيام المعسكرات كنا نضع جزرة في فوهة الكلاشينكوف حين نعيد فكها وتركيبها، ونضحك ونحن نرفعها كما ترفع المشاعل في مسيرات الشبيبة الحقيرة. الرصاصة الوحيدة التي أطلقتها في حياتي كانت من مسدس أبي، مسدس ماكاروف انتحر به صديقه في منزل مستأجر هرباً من الديون. كان أبي يحب اهتمامي بتزييت المسدس وترتيب الرصاصات، كنت أزنها بكفي وأحب ثقلها ولمعان أغلفتها والدوائر الحمر أسفلها. مرة سرقت إحدى رصاصاته، وضعتها في نار أوقدتها بالقرب من مزبلة نهر الخنزير، وابتعدت لأراقبها متوهماً أنها ستحمرُّ قبل أن تنفجر، بينما رفاقي منهمكون بتذويب أكياس النايلون في قوارير شراب السعال الفارغة، تلك اللعبة مثال عن ولع الأكراد بالنار. اقتربوا حين ناديتهم وانتظروا معي أن تنفجر الطلقة. طال انتظارنا وما عاد أي منا يجرؤ على التحرك حتى تأكدنا من انطفاء النار الصغيرة. عندها ركضنا جميعاً دون أن نسمع شيئاً.
«أخذني أبي معه إلى التلال ليعلمني كيف أهتدي إلى الكمأ. لاحظ أنني لاحظت مسدسه. عند عودتنا إلى البيت، أوقف بيك آب التويوتا على طريق ترابي بعيد قليلاً عن الحدود التركية. نزلت معه، ودعاني إلى جواره فقرفصت مثله وناولني المسدس. فرحت بثقله بين يدي الضعيفتين. سددت على تنكة صغيرة ملقاة على الضفة الأخرى وتردد صدى الطلقة في البراري مخيفاً وساحراً. لم يرد الجنود حرس الحدود الأتراك بشيء. كان صديقي في المدرسة الإعدادية يتناول معهم الجبنة والبندورة على سكة القطار، فمعظمهم أكراد ويتحدثون لهجتنا. ذات مرة كانت الدورية قد تغيرت. أطلق جندي النار عليه، ثم احترق القش المتبقي في حقول القمح المحصودة فتفحمت جثته مع بضعة أغنام كان يرعاها، ولم ينج حماره أيضاً«.
ذهبنا بالسرفيس إلى نفق الآداب ثم أكملنا الطريق الموحش مشياً. لم يهطل المطر المنتظر ليهمد غباراً كثيراً في الهواء حجب قاسيون عن الأنظار. كان دكان السمان مقفلاً فلم يشتر دلكش أي شيء لصغار العائلة، توفي الأب منذ سنوات، ومعيلها محمد دهّان لم يُشفَ بعد ولم يكمل دراسة الحقوق في التعليم المفتوح.
كان الزقاق مدروزاً بالأبواب، وبيت محمد مثل حفرة محاطة ببيوت كثيرة متماثلة. كان البيت هادئاً، والهمسات تدور بين الأفواه والأطفال مطيعين والتلفزيون مطفأ. على الأرض قبالة السخان المتوهج كان طبق موز وتفاح ربما جلبها الجيران، هذا إن كانوا قد تجرؤوا على الزيارة. حين رحبت بنا الأم التي فتحت الباب الحديد هامسة :»أهلا دكتور أهلا»، بكت الطفلة وهي تختبئ وراء أمها تتحاشى النظر إلينا. لم نكن قد هددناها بأية حقنة. سمعنا صرخة من الغرفة العلوية لتخرس الطفلة، وأشارت الأم بإصبعها «فوق». «هذا هيجان المؤرقين»، قال صديقي. «هائج محروم من النوم، ولم أستطع تأمين أية مهدئات، ذلك صعب في الشام«.
كانت لمحمد الغرفة الأفضل في البيت، لكن إطلالتها على البساتين تفاقم غثيانه، فالروائح القادمة من مساكب البندورة والفليفلة تفوح عفناً. تابعت الأم «حين سمعنا صراخه فجر الأمس ظنناه يسلم الروح. أرجوك. جد له حلاً. الوضع لا يطاق». كانت الطفلة قد اختفت وسكتت في غرفة أخرى، وفي الصمت الوجيز سمعنا ذبابة كبيرة ترتطم بالنيون. لم يكن البرد قد اشتد بعد. هذه المرة لم نضطر إلى قياس ضغط رتل من الكهول الفضوليين الجالسين على الأرض، لينتفخ رأسي مع كل ضغطة على المنفاخ. ولم يحرجنا أحد بالاستفسار عن مبلغ المعاينة وكم نريد. لم يأت أحد بتحاليل وصور شعاعية نرفعها أمام المصابيح لنؤكد التشخيص المعروف مسبقاً. في نهاية الدرج الواطئ الذي صعدناه كانت هناك أركيلة مغبرة قرب أصص الورد.
استقبلنا محمد في ضوء غرفته الخافت الكئيب. جلسنا على الأرض.
«لا تقلق. أنا رائق اليوم. بقيت حياً وأبدو معافى، ولكن لا أحد يرى الألم. الألم كافر. أحياناً أنتظر ما سميته النسمة، فأعلم باقتراب الساعة، ساعة الدوار اللعين الذي لا يزال ينتابني. أدوخ فور النهوض أو الاستلقاء، وأوشك أن أستفرغ أحياناً. المصيبة أن يظنك البعض تمثل أو تدعي. أنزوي وأستسلم وأنتظر أن يزول الألم، ولا أنام ولا أطيق أن يراني أحد في هذه الحالة. لا أطيق أي صوت وأكره صراخي إذا علا أي صوت. هل سبق أن قرأت القرآن وأنت تتألم؟ إلى متى سيرافقني هذا الألم؟ مدى الحياة؟» أشار إلى صدغه، وكأن سبابة أخرى تهدده بفوهة مسدس لامرئي.
«كأنني أرى المحقق أمامي أحياناً فأغلي وأغلي وأخنقه. أحياناً أتمنى لو كان ألمي معدياً ليصيب جميع من عذبوني. صار النوم أمنيتي الأعز، وهذا الطنين اللعين لا يتوقف، كأن شاحنة قاطرة ومقطورة تعبر بين أذني ذهاباً وإياباً. تمزق غشاء الطبل في أذني أثناء خدمة الجيش. خلال تطعيم المعركة، انبطحت ونسيت أن أفتح فمي عند إطلاق قذيفة المدفعية كما نسي الملازم أن يعطينا الإشارة. وعلى الفور سمعت هواء ناعماً يتسرب من أذني مثل قطار يتوقف في محطة بعيدة. ظلت تلك القذيفة تصفر داخل رأسي وقتاً طويلاً«.
«أنت في نقاهة الآن. ستتكيف وتنسى. اصبر«.
«أية نقاهة! وأي تكيف وأي نسيان! أنا مجرد نقطة صغيرة في هذه المأساة. التحسن بطيء جداً، ولا أدري إن كنت أتحسن حقاً. حالتي لا تقتضي الإقامة في مستشفى. أحمد ربي. كانوا سيقيدون قدمي بقفل إلى قوائم السرير مثلما فعلوا مع كثيرين. لكنني كلما تذكرت لون دمي ارتفعت حرارتي. استغربت كيف يجري دم غامق كالفحم في عروقي وأنا، كما تعلم، لا أدخن«.
أوقفه عن الحديث قرع خفيف على باب الغرفة. كان إبريق الشاي وثلاث كؤوس تلمع على العتبة بين يدي أخيه الصغير. نسي دلكش أن ينفخ على الشاي، جرياً على عادته القديمة، فأحرقت الرشفة الأولى لسانه، وقال: «أكمل«.
«علي أن أتحمل نفسي كما أتحمل كل شيء، الثرثرات وهذا البؤس والفقر. لا أطيق أن تقبلني أمي، لا أطيق هذا الحنان أمام الناس. وهل بي شهية لكي تحدثني عن الحمية؟ تذكرني بمصابين حالتهم أسوأ من حالتي، زارتهم وواستهم طبعاً. يسعلون ويختنقون ويبصقون دماً. بربك، أهكذا ترفع المعنويات؟ بأن تسميني بطلاً وشجاعاً؟ ينقصني أن تذكرني بالزواج وهي تحمد الله على كل مكروه. البعض يحسبون المستلقي والساكت مرتاحاً. هذا إنهاك وليس تهرباً، وعجزي يشعرني بالتفاهة. أحياناً أمد رأسي من باب هذه الغرفة وأختلس النظر إلى المرآة فوق المغسلة لأتأكد من أنني ما شبت وما شخت.
«حين اعتقلت لاحقاً في مظاهرة الميدان، كان شعري قد طال قليلاً وأخفى ندوب رأسي الأولى. جروني إلى الباص الأخضر الخالي واستفردوا بي. لا أتذكر عدد الذين انهالوا علي بالركلات والصفعات، وأنا أحاول أن أحمي وجهي. بعيني هاتين رأيت المساعد ينزل من الباص ويسدد النار على ما تبقى من المظاهرة. أعتقد أنني غبت عن الوعي بسبب ضربة من عقب مسدسه. استكملوا الضرب على أدراج الفرع وفي ممراته. كنت أنهض فأترنح وأتهاوى، وتلك الضربات لا تتوقف ولا تنتهي. خوفي الأكبر هو أن يعتقلوني وأنا جريح، فأخرج، إن خرجت حياً، معاقاً أو مشوهاً. لا أبالي بالموت ولا أخشاه، أما الإعاقة فأمر لا يمكنني تصوره. تخيل أن تضع أمي المبولة تحتي أو تنظفني وتحممني مثل طفل رضيع، أو يدفعني أخي الصغير على كرسي متحرك«.
كان كمن يتحدث عن ذكريات وهواجس ظل يتأملها طويلاً في صمته،ثم أعاد روايتها على مسامعي. ارتفع آذان العشاء في جامع الحي حين استأذناه بالانصراف بعد فحصه عصبياً. «المسكنات مرة أخرى؟» سألنا، فهززنا أنا ودلكش رأسينا في نفس اللحظة. كانت عينات من الأدوية المجانية موضوعة في علب أخرى، ودلكش لا يعرف كيف تأتي التبرعات والإغاثات وكيف توزع، ولا يخوض أي موضوع يتعلق بالنقود.
ظلت الجملة الأولى والأخيرة التي قلتها وأنا أصافح محمد: «انجُ الآن ثم انتصر لاحقاً» تتردد في رأسي وتقلقني. بدا صوتي هامساً متهدجاً، وكأنني تفوهت بحماقة مشينة وأسأت التعبير فقلت ما لست مقتنعاً به. لم يقطع صمتنا في الزقاق إلا رنين جوال دلكش. الرنة لم تتغير، أغنية شفان برور عن الفرات. «هذه أمي واتصالات الاطمئنان المسائية»، قال ضاحكاً. «لم أغير رقمي. أحياناً أستخدم رقماً آخر لشخص أجنبي لا أعرفه غادر الشام منذ أشهر. ما عدت أجرؤ على إغلاق هاتفي أو التأخر في الرد. أمي على الأقل قد تحسبني معتقلاً«.