مصائر المستبدين
عبدالوهاب بدرخان
كثيرون تذكروا المشهد قبل أن تستعيده الشاشات: معمر القذافي يقول للقادة العرب الحاضرين قمة دمشق عام 2008: “يمكن الدور جاي عليكم كلكم”. كان يتحدث عن المصير الذي آل إليه صدام حسين. وكان بين الذين تضاحكوا على ملاحظته زين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح فضلاً عن مضيفهم بشار الأسد.
لم يشعر أي منهم، بمن فيهم القذافي نفسه، أنه معني بهذا التحذير. ربما لأن صدام سقط بفعل الغزو الأميركي، كونه عاند الولايات المتحدة وتحداها، أو لأنه خاض مغامرة إقليمية وخسرها.
في ذلك الوقت كانت سوريا وإيران منتشيتين بنجاح مناورتهما الكبرى لتحويل غزو العراق والتهديد الأميركي المباشر لهما كابوساً لجورج دبليو بوش. وكان اليمن استهل استضافة بعض فلول “القاعدة” استدراجاً لاهتمام الولايات المتحدة بتطوير علاقتها مع نظام صنعاء. أما تونس فلم يكن نظامها يعاني أي نوع من المشاكل. وأما النظام الليبي فسارع إلى رمي “برنامجه النووي” واستكمال إقفال “ملف لوكيربي”.
وعندما تفجّرت الأوضاع الداخلية، بدءاً من تونس، حاول هؤلاء وغيرهم توسل مؤامرات خارجية لاستقطاب شعوبهم وراءهم، ولم يوفقوا. قابلوا الانتفاضات بالتجاهل والاحتقار، ثم بإنكار حق الشعب في المطالبة بتنحي الحاكم أو رحيله، ودائماً باستخدام القوة لاستعادة الثائرين إلى جدران الصمت والخوف، ولم يوفقوا.
دخلوا مساومات من أجل البقاء في مناصبهم، ناوروا وراوغوا، اعتقلوا وضربوا، نكّلوا وقتلوا وقتلوا وقتلوا. وصار القتل عنوان النهاية رغم أنه بدا لزمن طويل جداً عنواناً للاستمرار والتجبّر. ارتسمت المصائر: التنحي، السجن، الرحيل، الفرار والتواري، والموت.
حتى الآن، كان القذافي أول من اختار، من بينهم جميعاً، سبيل الموت. بل اقتاد مدينته وقبيلته وعائلته إلى معركة قسرية ومعروفة النتائج. لم يتنحَّ عندما كان ذلك ممكناً، ولم يغادر بضمانات عندما كان ذلك ممكناً، وفوّت الفرصة الأخيرة التي أتيحت له لإعلان نهاية القتال إثر دخول الثوار طرابلس، بل لجأ إلى رهان أخير على إحداث شرخ أهلي من خلال التمترس في سرت وبني وليد. لم يرد أن يفهم مغزى الحدثين التونسي والمصري، ولا مغزى ثورة شعبه عليه، فسقط في سياق القصف والقتال كما لو كان يشخّص دور رجل آخر غير معني بالبلد الذي يفترض أنه بلده.
قتل القذافي منتصف نهار جمعت فيه جريدة “الاتحاد” كتابها للبحث في مستقبل التغيير الذي طرحته الثورات والانتفاضات على العالم العربي. وكان طبيعياً أن يتأثر النقاش بالحدث المستجد، فالأنظمة المأزومة كانت تتشابه شكلاً وتختلف في كثير من التفاصيل، وكذلك الانتفاضات لإطاحتها تتقارب وتتباعد، ومثلها استطراداً المراحل الانتقالية هنا وهناك.
لكن ما اتفقنا عليه أن الأنظمة الجديدة التي لا تزال في إرهاصاتها ومقدماتها لابد أن تحظى بقبول الجميع على اختلاف تياراتهم لصيغة الديمقراطية المدنية، فالعسكر أعطوا ما عندهم طوال العقود الماضية وأصبح لزاماً عليهم أن يعودوا إلى الدور الأكثر أهمية المتوقع منهم، وهو صون السيادة وحماية النظام والسهر على السلام الأهلي.
كما أن استحقاقات ما بعد التغيير ألقت على التيارات الإسلامية مهمة ومسؤولية جسيمتين، فهي قويت وانتظمت بفعل قسوة الأنظمة السابقة وهناك خشية كبيرة من أن يكون الإسلاميون الوجه الآخر لتلك الأنظمة نفسها، وبالتالي فإن مجيئهم بديلاً منه حتى ولو بات بالانتخاب يكثّف المخاوف من “سرقة الثورات” أو مصادرتها.
فلا أحد سمع خلال تلك الثورات من يطالب بـ”إمارة” أو “دولة” إسلامية، بل سُمع بوضوح من يُطالب بـ”دولة للجميع” و”دولة القانون” التي تساوي بين جميع المواطنين.
ولعل هذا هو الرهان الأكبر لنجاح التغيير.
لا شك أن سقوط أي نظام مستبد شق الطريق لسقوط متوقع للآخرين مهما حاولوا تأخير هذا المصير أو تأجيله. لكن سيبقى مقلقاً ومؤرقاً البحث في جذور هذه الثقافة التي زينت لهذا الحاكم أو ذاك أن يقتل بلا رحمة، أن يتمسك بالحكم رغم تأكده بأنه بات مرفوضاً، وأن يفضل التخريب أو الحرب الأهلية أو زرع بذور الشقاق كأنه يريد الانتقام من مستقبل الوطن والشعب.
لا يمكن ضمان عدم تكرار هذه المخاطر المفزعة إلا بتعاقدات اجتماعية نابعة من الحوار، ودساتير تُحترم وتُلتزم وتطبق، وقوانين يخضع لها الكبير قبل الصغير. فهذه أدوات الثقافة النافية للدكتاتورية.
مع الإيذان بنهاية مقررة لعمليات حلف الأطلسي في ليبيا، كترجمة للنهاية الفعلية للقذافي ونظامه، تتجه الأنظار إلى سلوك الليبيين لجعل خاتمة الثورة بداية قصة نجاح أخرى عناوينها: الوحدة الوطنية، إعادة الإعمار، ضمان المستقبل. انتهى الكابوس فلتضمّد الجراح وليبدأ العمل.
الاتحاد