معارضة لم تجد لغتها/ ملاذ الزعبي
“لقد سادت الاجتماع روح رفاقية عالية، وشهد مناقشات مستفيضة، لم تخلُ من حماس في الغالب الأعم، وتقديم اقتراحات كثيرة لكنها في مجملها كانت بناءة، وعلى درجة عالية من المسؤولية أيضاً”.
الفقرة السابقة ليست من بيان صادر عن القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، القائد السابق للدولة والمجتمع في سورية، ولا هي من محضر اجتماع رفاق شيوعيين في العقد الخامس أو السادس من القرن الفائت، بل جاءت في سياق بيان صحافي أصدرته مؤخراً هيئة سورية معارضة للنظام السوري تهدف إلى إقامة دولة ديموقراطية.
منذ بيانها التأسيسي، شكلت اللغة الخشبية جزءاً أساسياً من الأداء الإعلامي لـ”هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا” (سيفضل مستخدمو “تويتر” عدم الإشارة إلى اسمها الكامل)، وتتالت سقطاتها الإعلامية دون أن يدفع ذلك إلى أي تغيير لا على مستوى الشكل ولا على مستوى المضمون.
لا يقتصر الأداء الكارثي إعلامياً للهيئة على بياناتها الصحافية بالطبع، كانت بعض الإطلالات التلفزيونية لأبرز وجوهها -المعارض المقيم في فرنسا هيثم مناع- محط جدل واختلاف بين السوريين، وهو أمر قد يكون صحياً إن لم يفسد للود واحترام الآخر قضية. لكن ما يجب أن يكون مصدر اتفاق بين السوريين، هو رفض توجيه مناع للشتائم بحق معارضين آخرين في بعض هذه الإطلالات، بطريقة تذكر بأسلوب وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس، في خُطبه الحماسية المسربة عن الراحلين الملك الأردني الحسين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وإن لم تصل إلى مستوى الابتذال والفضائحية ذاته.
واليوم تركن هيئة التنسيق إلى قدرتها على جذب كتلة “انتخابية” واسعة (ربما) في سورية، بل إلى تمثيلها لخيار العديدين من السوريين المندرجين تحت تصنيف “الكتلة السورية الصامتة”، لكن ما قد يغيب عن بال أعضاء الهيئة أن خطابها الإعلامي القائم على دغدغة مشاعر الكتلة الصامتة لا يفيد في التغيير الديمقراطي المنشود، فالكتلة الصامتة هي مجرد كتلة “انتخابية” “سلبية” لم تحركها الأحداث المهولة التي شهدتها وتشهدها سورية منذ أكثر من عامين وسبعة أشهر. فدور هذه الكتلة كقوة تغييرية في سورية ينتفي لغياب ميدان قدرتها على التأثير، أي التغيير عبر الانتخابات الحرة والنزيهة.
أما بالنسبة إلى قطاعات واسعة من جمهور الثورة، فتسببت هيئة التنسيق في العديد من الإطلالات الميدياوية لقياداتها باستفزاز قطاع واسع من هؤلاء، خصوصاً في المناطق الثائرة. وقد يكون المثال الأبرز على ذلك “ستاتوس” في “فايسبوك” لرئيس مكتب الإعلام في الهيئة منذر خدام، بُعيد مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق، والذي أشار فيه إلى مسؤولية مفترضة للمعارضة السورية عن استخدام السلاح الكيماوي.
المسار اللاحق الذي اتخذته مسألة السلاح الكيماوي في سورية، وصولا إلى قبول النظام السوري تفكيكه وتسليمه، لم يدفع رئيس مكتب الإعلام بصفته الشخصية، ولا الهيئة بصفتها المؤسسية، إلى تقديم اعتذار علني وشجاع إلى ذوي وضحايا مجزرة الغوطتين على الأقل، إن لم يكن لعموم السوريين.
على الجانب الآخر تستعير بيانات “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، لغة الإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري. فشل الائتلاف، كما فشلت هيئات وتشكيلات المعارضة السورية، في مهمة بسيطة خالية من التعقيد، وهي إيصال قضية عادلة وواضحة وبالغة التأثير، كقضية السوريين، إلى الرأي العام العالمي.
في أحد بياناته المنهمرة يومياً خلال الشهر الأخير، يختار الائتلاف أن يخاطب المجتمع الدولي بأسلوب يشبه أخبار وكالة الأنباء الرسمية- سانا، يقول الائتلاف في بيان بعنوان “نظام الأسد يكذب أمام العالم”، وكان مخصصاً لخطاب وزير خارجية النظام وليد المعلم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: “الحقيقة التي وثقها بشكل كامل الخبراء ومعاهد الدراسات والصحافيون، وأظهرتها وسائل التواصل الاجتماعي واضحة للعالم أجمع؛ هي أن الشعب السوري معتدل ومتسامح ومتقبل للآخر، إنه شعب ينشد مستقبلاً ديموقراطياً يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات”.
يعتمد الائتلاف على مصادر غامضة وغير محددة للحديث عن “الحقيقة”، اعتماد لا يختلف كثيرا عن أسلوب قناة “الدنيا” السورية التي كانت تختم تقاريرها التلفزيونية المليئة بالمغالطات بعبارة “يتساءل مراقبون”، والتي تحولت إلى إحدى تيمات المحطة ومحطّ تندر خلال الفترات الأولى من عمر الثورة. لا أحد يعلم من هم هؤلاء “المراقبون” الذين يتساءلون في تقارير “الدنيا”، تماما مثلما لا نعرف من هم الخبراء ولا هوية معاهد الدراسات التي توصلت إلى هذه “الحقيقة” في بيان الائتلاف. حقيقة تبدو هنا أشبه بحتمية تاريخية تصف الشعب السوري بالمعتدل، وهي نقيض الحتميات العنصرية التي قد تصف شعباً ما بأنه إرهابي.
تتواتر الأخطاء الإملائية في بيانات الائتلاف، ولا تغيب الرطانة واللغة الخشبية عن بعض أعضائه، ليس غريباً أن يلقب العديد من السوريين جورج صبرا رئيس “المجلس الوطني السوري”، أحد أبرز مكونات الائتلاف، بـ”الرفيق جورج”، في إشارة إلى خطاباته المكررة التي لا تأتي بجديد.
على النقيض من ذلك، جاء بيان تيار “بناء الدولة السورية” بُعيد قبول النظام تسليم سلاحه الكيماوي، متصفاً ببرود تقني لافت، وكأن الموضوع لم يعقب مجزرة راح ضحيتها مئات المدنيين، هكذا اختار التيار أن يقول إنه “فضلاً عن أن هذه الأسلحة محرّمة فإننا لسنا بحاجة إليها، بغض النظر عمّا إذا كان النظام قد استخدمها في نزاعه المسلح ضد مناوئيه أم لم يستخدمها”.
بكل بساطة، يغض تيار سوري معارض النظر عن مئات الضحايا السوريين المدنيين، بينهم عشرات الأطفال والنساء، في مجزرة مروعة، مفضلاً الحديث بطريقة أبوية عن “البداية الوحيدة لحل الأزمة السورية”.
المفارقة البارزة هنا هي أن هذا الفشل الإعلامي لأقطاب المعارضة السورية يقابله نجاح استثنائي لمواطنين صحافيين وناشطين إعلاميين، كانوا المنبر الأبرز للثورة السورية طيلة أشهرها الأولى.
المدن