صفحات العالم

معارك سورية الأخيرة/ يزيد صايغ

 

 

أفاض محللو النزاع السوري في الحديث عن «سباق» لاهث للسيطرة على محافظة دير الزور في شرق سورية، وعما وصفوه باقتطاع القوى مناطق نفوذ متنافسة في أنحاء البلاد. كما افترض كثيرون أن الإدارة الأميركية تنوي استخدام الأراضي التي استحوذت عليها الجماعات المسلحة التي تدعمها، كورقة ضغط للحصول على صفقة سياسية مواتية من روسيا ونظام الرئيس بشار الأسد. في حين كان آخرون يُبدون ثقة أقل بنوايا الإدارة الأميركية، لكنهم يرومون إقناعها بأن استخدام النفوذ أمر ميسور، على أن يستهدف تحقيق أهداف سياسية أكثر تواضعاً، مثل تعزيز ما تبقى من المعارضة السورية المعتدلة.

لكن، ليس هناك مؤشرات الى أن لدى الولايات المتحدة أي نية للدفع نحو تغيير سياسي في سورية، أو حتى أن لها أصلاً سياسة تجاه سورية. وبالتالي ستُسفر معارك سورية المقبلة عن نوع مختلف من النتائج عن تلك التي تصوّرها بيان جنيف في حزيران (يونيو) 2012، أو حتى إطار فيينا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. هذان الاتفاقان رسما لوحة لعملية ديبلوماسية بإشراف دولي تقود إلى تقاسم السلطة بين الحكومة السورية والمعارضة. لكن، لن يحدث في الحقيقة تقاسم للسلطة أو عملية انتقال سياسي في دمشق، ولا تخلٍ للأسد عن الحكم.

بدلاً من ذلك، سيكون الفعل الأكبر لمحادثات آستانة التي ترعاها روسيا، إن لم يكن المخطط المدروس لها دفع أجزاء أساسية من المعارضة المسلحة (بامتعاض) إلى الانضمام الى مسار يُتوَّج بإعادة دمجها في الدولة السورية، تحت مظلة الحكم الراهن. وكان الرئيس الروسي بوتين صريحاً حين قال في خطاب أمام منتدى دولي في 19 الشهر الجاري: «حالما تتشكّل مناطق خفض التوتر، سيبدأ الناس الذين يسيطرون عليها بإجراء اتصالات مع دمشق، مع الحكومة».

لقد تم قطع العديد من المراحل نحو هذه النتائج. وبالتالي، ستحدد المعارك المقبلة في سورية طبيعة العلاقة النهائية بين الحكومة والأكراد السوريين، وإن لم يكن هذا هو الهدف الفوري أو الوحيد لهذه المعارك.

المعركة الأولى تُجرى الآن بالفعل، وهي تتمثّل في طرد تنظيم «داعش» مما تبقى من معاقله على طول القطاع الأوسط لنهر الفرات في محافظة دير الزور. ويفترض بعض المراقبين أن هذه المنطقة ستشهد أيضاً تسابقاً للسيطرة عليها، استناداً إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستسعى إلى إحكام قبضتها على المنطقة الحدودية، بهدف منع إيران من شق ما رُوّج له كثيراً (وليس له أساس من الصحة) على أنه «ممر برّي» إلى البحر المتوسط. فالولايات المتحدة تدعم تقدُّم «قوات سورية الديموقراطية» ذات الأكثرية الكردية إلى تلك المنطقة. بيد أن بسط النظام سيطرته على مدينة الميادين سد الطريق أمام اندفاع تلك القوات لتحقيق المزيد من التقدم، وأتاح لقوات النظام نقطة ارتكاز تزحف منها، تحت غطاء جوي روسي، على البوكمال في الطرف الجنوبي من وادي الفرات. ومثل هذه المحصلة لن تُواجه باعتراض أميركي.

المعركة الثانية هي تلك المؤجلة في محافظة إدلب. والأهم هنا هو تصميم الحكومة التركية على منع حزب الاتحاد الديموقراطي، الكردي السوري، وهو فرع من «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا، من خلق ما وصفه الرئيس رجب طيب أردوغان «الممر الإرهابي الذي يبدأ في عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط». بيد أن التكهنات بأن تركيا ستلتزم مهمة تهدئة إدلب، التي تسيطر «هيئة تحرير الشام» على معظمها، في مقابل إطلاق يدها لاستئصال الجيب الكردي، ليست في محلها.

إن القوات التركية لن تشن معركة برية كبرى ضد خصوم مُحصنين جيداً، سواء في إدلب أو عفرين، من دون دعم جوي، وهو الدعم الذي تسبّب غيابه في تكبّد القوات التركية خسائر فادحة خلال تقدمها إلى بلدة الباب شمال حلب أوائل هذا العام. وفي حين أن روسيا عرضت استخدام سلاحها الجوي لحماية مراقبي الهدنة الأتراك المُنتشرين في إدلب، إلا أنها لا تسمح لسلاح الجو التركي بالقيام بمهمات قتالية في المجال الجوي السوري. ومع المحاصرة التامة لعفرين من جانب القوات التركية أو فصائل المعارضة المسلحة الحليفة لها، سيكون على أنقرة تأجيل أي عمل عسكري كبير، بما في ذلك العمليات ضد «هيئة تحرير الشام» التي سيتم احتواؤها بدلاً من مواجهتها، على الأقل حتى إشعار آخر.

علاوة على ذلك، يتوقف توقيت ومسار العمليات العسكرية المستقبلية في إدلب على المعركة الثالثة المتعلقة بالصراع بين النظام والأكراد، حول درجة الحكم الذاتي الذي سيتمتعون به حين تضع الحرب أوزارها. بالطبع، نجاح «قوات سورية الديموقراطية» في انتزاع السيطرة على الرقة ومناطق في المحافظات الشرقية، من يد «داعش»، سيشد من أزر حزب الاتحاد الديموقراطي الذي يسيطر على المكوّن الكردي الأكبر لتلك القوات. بيد أن قدرة الحزب على التفاوض مع النظام وانتزاع التنازلات منه تعترضه عقبات. إذ إن الاستفتاء على الاستقلال الذي أُجري في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي في كردستان العراق أجج مشاعر القلق لدى تركيا من النوايا الكردية في سورية، كما أنه جعل من الصعب على الحكومات الغربية الدفاع عن نصرة القضية الكردية في سورية. وقدّم مسؤولون حكوميون سوريون إشارة مهمة الى نواياهم حين دانوا الاستفتاء بكونه خطوة «انفصالية»، وهنأوا الحكومة والقوات المسلحة العراقية على نجاحها في «الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً»، من خلال انتزاعها السيطرة على مدينة كركوك المتنازع عليها من يد حكومة إقليم كردستان.

التهديد الضمني في ثنايا هذا التصريح جلي للعيان، ويتمثّل في إعادة فرض سلطة الحكومة السورية على المناطق التي تُسيطر عليها راهناً «قوات سورية الديموقراطية». لعل النظام يكتفي بداية بالمطالبة فقط بتسليمه الرقة وباقي المناطق غير الكردية، ولكن يمكنه بسهولة أن يوسّع هذا المطلب ليشمل القامشلي، عاصمة محافظة الحسكة، ونقاط عبور حدودية في قلب المنطقة الكردية مثل تل أبيض. صحيح أن هذا التهديد لن يرى النور طالما أن الولايات المتحدة لا تزال تعمل على إلحاق الهزيمة بـ «داعش»، لكن حالما يتم إنجاز هذه المهمة، لن تتدخّل لحماية حلفائها السابقين. وهذا كان واضحاً في مقال أخير نشره السفير الأميركي السابق لدى دمشق روبرت فورد، قال فيه صراحة أنه سيكون على الولايات المتحدة «التخلّي عن أي آمال تتعلّق بدعم منطقة كردية منفصلة»، في مواجهة تصميم الحكومة السورية على «استعادة كل البلاد».

صحيح أن المواجهة العسكرية بين نظام الأسد وبين الأكراد ليست حتمية. إلا أن أي حل سلمي سوف يعتمد على قدرة روسيا على ردم الهوة بين أقصى حكم ذاتي يكون النظام مستعداً لمنحه للأكراد، وبين أدنى حكم ذاتي يطالب به هؤلاء. وهذه مهمة شاقة نظراً للعداء الذي يكنّه النظام لفكرة اللامركزية التي سبق لروسيا أن حبذتها منذ أوائل العام 2016، كإطار لحل الخلافات. يضاف إلى ذلك أن أي صيغة يتم التوصل إليها، يجب أيضاً أن تهدئ من روع تركيا ومخاوفها من الحكم الذاتي الكردي، إذا كانت ستوافق على القضاء على «هيئة تحرير الشام» في إدلب، وتشجّع المعارضة السورية المسلحة على المضي قدماً بمسار آستانة حتى نهاية مطافه بالانخراط تحت لواء الدولة المركزية، والانسحاب من سورية.

ربما كانت هذه التحديات هي التي دفعت بوتين إلى الإعلان عن «خطة تقريبية» في 19 الشهر الجاري، لعقد «مؤتمر للشعب السوري يلم شمل كل المجموعات الإثنية والدينية، والحكومة والمعارضة». وهو في تحديده التسوية السياسية بصفتها حصيلة وفاق وطني بين السوريين، يكون قد تبنّى السردية الرسمية للنظام الذي طالما رفض الحاجة إلى وساطة الأمم المتحدة وإلى حل ديبلوماسي خارجي للنزاع.

إن مختلف سيناريوات المعارك لن تحدث بدقائق تفاصيلها. فروسيا تفتقد ما يكفي من النفوذ لإجبار نظام الأسد على قبول تسوية سياسية وفق شروط قد يعارضها بقوة، لكنها سوف تسعى إلى لجم اندفاعه إلى حرب مع «قوات سورية الديموقراطية». وهذا سيكون أمراً سهلاً طالما أن النظام لا يزال يقاتل لاستعادة وادي الفرات من قبضة «داعش»، بخاصة أنه قد يُيمم وجهته بعد ذلك صوب المجابهة مع «هيئة تحرير الشام» في إدلب. لكن، في مرحلة ما من السنة المقبلة، سيلجأ النظام إلى تكتيكه المعتاد: إجراء حوار سياسي عبر الضغط العسكري، في حواره مع الأكراد. في ذلك الوقت، قد تجد «قوات سورية الديموقراطية» نفسها عُرضة للخطر بسبب تمددها الزائد جغرافيا. والأخطر أنها قد تُواجه تحديات لتماسكها الداخلي من جانب مكوناتها العربية أو من جانب المنافسين الأكراد لحزب الاتحاد الديموقراطي، بخاصة حين يدفع تقاطع المصالح المعادية للأكراد بين تركيا والنظام إلى تغيير صورة التحالفات السياسية في الشمال السوري.

إن الأخطار عالية وعاتية. ويتعيّن على حزب الاتحاد الديموقراطي أن يتعلّم من أخطاء استفتاء الاستقلال في كردستان العراق المُجاورة، إذا أراد إنقاذ الأمل بنيل حكم ذاتي ذي معنى في سورية.

* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط – بيروت

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى