معـرض الكتـاب السـنوي فـي دمشـق: الثالـــوث المحـــرم
راشد عيسى
سبعة وعشرون عاماً هي عمر معرض الكتاب السنوي في دمشق. بين دورته الأولى العام 1985، والسابعة والعشرون التي انقضت في أيلول الفائت، تاريخ مديد من تجفيف لمنابع الثقافة؛ الكتاب والنشر والقراءة ودور مكتبات المدينة في حياة الناس. تجفيف، وإقصاء للمشهد الثقافي الأبرز إلى خارج المدينة، فقد بدأ المعرض في قلب دمشق، ساحة الأمويين، وانتهى في مدينة المعارض، على أطراف المدينة، حزيناً، معتماً، بعدد قليل من الناشرين والزوار متأثراً بالثورة التي تعصف بالبلاد. جاء كما لو أنه يكمل سيرة، كما لو أنه ختام لها.
لا شك في أن المعرض بدأ متحمّساً، وواعداً، وظل لسنوات علامة في حياة المدينة. كانت فعالياته الثقافية تستضيف وتستقطب أسماء إبداعية عربية بارزة، وذلك في ظل وضع قد يعتبر نسبياً ذهبياً في حركة الكتاب. يتحدث الناشرون عن تلك الأزمان بأنه كان من السهل أن تطيع ألفي نسخة من أي كتاب، في وقت لا يجرؤ الناشر اليوم على طباعة نصف ذلك العدد. إنه جزء من ذاكرة السوريين على أي حال، في جنباته التقى أناس لم يعودوا للقاء في أمكنة أخرى، فصار المعرض كل ذاكرتهم.
وعلى العموم فإن معرض الكتاب هو مشهد متكامل، لا حركة بيع وشراء وحسب، هو ذلك العدد الكبير من الضيوف المبدعين الذي يجتذبهم المعرض، والفعاليات المرافقة، من أمسيات شعرية وندوات ومحاضرات وتواقيع كتب، وطبعاً عدد العناوين الجديدة في كل عام، ومقدار ما سمحت به الرقابة من عناوين. بالنظر إلى كل ذلك سنرى التدهور المتسارع لحال الثقافة.
ولعل غياب الإحصاءات حول حركة الكتاب هو المؤشر الأول لفشل ذريع، فهو يعني غياب التخطيط، ومن يفكر بشكل جاد في بناء مشاريع ثقافية ينبغي أن يمتلك أرقاماً وإحصاءات، وكم من السهل بالنسبة للجهة التي تقيم المعرض (وهي هنا «مكتبة الأسد» التي تتبع لوزارة الثقافة)، أن تقوم بذلك، بإحصاء عدد الزوار، واهتماماتهم، وتبدلاتها، لتوضع تلك البيانات بين أيدي الناشرين والمؤسسات الثقافية. وربما كان ذلك سبباً في تخبط إدارة المعرض، التي راحت تتنقل بمكان المعرض، إلى أن انتهت به إلى خارج المدينة.
ليس ذلك وحده ما يفقد القارئ في معرض الكتاب، بل في أي معرض للكتاب هنا، فما دامت الرقابة فاعلة سيظل المرء يقول لنفسه إن الحقيقة تقع في كتب أخرى وراء الحدود، مهربة، أو على الأرصفة في معارض كتب موازية أيام العطل والأعياد. ولا شك في أن عدداً هائلاً من الكتب غاب في العقود الثلاثة من عمر معرض الكتاب، ولو أن من الشائع أن المنع في المعرض غيره في أيام السنة الأخرى. وبالطبع فإن ما يحكم الرقابة هو الثالوث المحرم إياه، السياسة والدين والجنس، ولو أن الحظوة هي للأولى بين هذه المحرمات.
رقابة فوق الرقابة
ولن نتوقع من اتحاد الناشرين، المولود حديثاً في سوريا أن ينقذ كتاباً أو يدافع عن ناشر، وقد صرّح رئيسه في حديث سابق لـ«السفير»: «نراعي متطلبات السلطة في أن لا ينشر ما يمس النظام السياسي، والوحدة الوطنية، والجوانب الأخلاقية». وقد حدث ذات مرة أن صودرت بعض كتب المعرض بعد أن نجت من الرقابة الحكومية واستقرت على الرفوف. مرت «دورية» وصادرت كتباً، فتركت وراءها ضوضاء وتكهنات، فهذا يقول إنها لوزارة الأوقاف، وذاك يقــول إنها جــهة أمنية، وسرعان ما اكتشفنا أن اتحاد الناشــرين هـــو من كان وراء تلك «الدورية»، بعد أن أرســل كـــتاباً يطالب فيه إدارة المعرض بمصادرة بعض الكتب المخلّة.
حادثة كهذه تدفع البعض إلى القول إن اتحاد الناشرين ليس سوى ممثل لوزارة الأوقاف. ويقول ناشر مستقل «الاتحاد لا يمثل التعدد الثقافي، ويقتصر على الترويج لدور النشر الإسلامية، والأخطر أن هؤلاء يخططون لوضع اليد على صناعة الكتاب، بما فيها أمر الرقابة». ولم يستبعد الناشر «طموح الاتحاد بالمشاركة بوضع الكتب المدرسية». ولهذا انفض عدد من الناشرين عن «معرض ربيع الكتاب» الذي أقامه اتحاد الناشرين كنسخة محلية خاصة به، أقامها في حديقة عامة وسط البلد. وعدا عن قربه من المدينة لم يأت معرض اتحاد الناشرين بجديد سوى بالتوجه للأطفال والعائلات بشكل جذاب.
أزمة القراءة لها أثرها بالتأكيد في أزمة النشر، لكن معرض الكتاب بإمكانه أن يكون جزءاً من الحل، فالدعاية، وهذه تحتاج إلى لمسات إبداعية خاصة، إلى جانب التعامل مع الكتاب كسلعة لها خصوصيتها، وبالتالي إلغاء الضرائب عن الناشرين المحلـــيين والأجانب، وتخفيض رسوم الاشتراك،.. استضافة مبدعـــين، وفعاليات مبدعة، وحتى استضافة نجوم سينمـــائيين وتلفزيونيــين يقرؤون للناس، كما حدث ذات مرة في فرنســـا في إطار عملية ترويجية هائلة أطــلق عليها اسم «جنـــون القراءة»، كل ذلك من شأنه أن يجـعل الكــتاب أقرب، وفي متناول القارئ الذي فــقد علاقتــه بالكتاب وبمكتبة المدينة.
ثورة للكتاب
الدخل المحدود والقدرة الشرائية المتواضعة دفعت القراء المزمنين إلى إعداد قوائم للكتب من عام لعام، يشترونها دفعة واحدة من معرض الكتاب، وهذا أثر من دون شك على علاقة القارئ بالمكتبة، وبالتالي بالمدينة، هو إقصاء آخر، بعد الكتاب، للقارئ من المدينة. وقد شهدت دمشق إغلاق مكتبات، من بينها «مكتبة ميسلون»، المكتبة الشهيرة التي كانت تسمى بالمكتبة الحمراء، والتي مرّت عليها أجيال وأجيال.
أغلقت مكتبات، وتعطلت دور نشر، وغابت مهنة النشر أساساً، حيث صار النشر مهنة ثانية، أو أنه أصبح للمتقاعدين. تراجع عدد العناوين، وراحت دور النشر تغتذي من قديمها. حوالى ثلاثمئة دار نشر سورية لا تنتج في العام أكثر من عشرات الكتب، ترجمة وتأليفاً، ثم يأتي معرض الكتاب ليقول إنه قد استضاف من ثلاثمئة إلى أربعمئة دار نشر بين محلية وعربية وأجنبية، فأي مشاركة واسعة!
هذا وصف كارثي لحال الكتاب، ولمعرض الكتاب، ومن قال إن الحال غير ذلك؟ لا نستمع مرة إلى ناشر إلا ويشكو سوء حال المهنة، ولا إلى كاتب إلا ويشكو، مثلما يشكو القارئ أيضاً غلاء سعر الكتاب، أو عدم القدرة للوصول إليه بسبب الرقابة. ألا يحتاج الأمر إلى ثورة أيضاً على هذا الصعيد؟
(دمشق)
السفير