مفارقة الهويّة الوطنيّة في العراق وسورية/ موريس عايق
يقدم تاريخ الدولة الوطنية في سورية والعراق مفارقة، تتجلى في أن الأيديولوجيات الوطنية والقومية ازدهرت كثقافة سياسية تبنّتها حركات سياسية وحزبية عدة، مثل حزب البعث، في العهود الأولى للدولة الوطنية، أي فترة الديموقراطية البرلمانية التي اعتُبرت فترة حكم البورجوازية الكومبرادورية والإقطاع والخضوع للاستعمار، وفق رواية الزمن الثوري اللاحق.
في المقابل، ضعفت هذه الأيديولوجيات الوطنية وانحسر نفوذها في شكل كبير في عهد السلطويات الشعبوية، الثورية والمتماهية مع هذه الأيديولوجيات، وعوضاً عنها صعدت ثقافة سياسية تستند إلى هويات طائفية وجهوية وعشائرية.
ففي الأربعينات والخمسينات، صعد نجم الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية في سورية والعراق. غير أن الواقع تحول جذرياً منذ نهاية الستينات مع ترسخ السلطويات الشعبوية التي أنشأتها هذه الأحزاب، حيث خبا نجمها وانحسرت أيديولوجياتها الوطنية والقومية، وحلّت مكانها ثقافة سياسية تستند إلى الهوية الطائفية والجهوية والعشائرية. يصدق هذا أيضاً على الإخوان المسلمين، الذين انتقلوا بين العهدين من خط منفتح على الآخرين تحت قيادة مصطفى السباعي، إلى تبني خط شديد الطائفية والتقليدية والانغلاق مع مروان حديد و»الطليعة المقاتلة».
كيف لحزب، كحزب البعث، أن ينجح في بناء نفوذه السياسي في العهد الرجعي والمتواطئ مع الاستعمار، وأن يخسره لاحقاً في عهده هو، على رغم كونه الحزب الحاكم للدولة؟ كيف لنا أن نفسر هذه المفارقة؟
لا تقدم القوة، قوة الدولة، تفسيراً لمثل هذه المفارقة. فالدولة الوطنية في عهدها البرلماني كانت ضعيفة في مواجهة مجتمعها أو لدى مقارنتها بدولة العهد الثوري اللاحق. كانت الدولة السورية عاجزة عن فرض إرادتها على العديد من الجماعات والمناطق في سورية كما في وجه التدخلات الخارجية، يصدق هذا وفي شكل أكبر على العراق الملكي. في المقابل، فإن الدولة الثورية حازت قدراً كبيراً من القوة، القوة المادية عبر الريع الذي حازته من النفط مثلاً أو عبر التأميم وتحطيمها القاعدة الاقتصادية للقوى الاجتماعية المناوئة لها. وقد استثمرت الدولة قوتها الاقتصادية في التدخل الواسع في مجتمعها عبر التعليم العام والتجنيد الإجباري واحتكار القضاء، أي ما يعتبر الأدوات الرئيسة لخلق ثقافة وطنية متجانسة. لكن، على رغم هذه القوة التي حازتها الدولة الثورية مقارنة بسابقتها، كانت نتائجها أسوأ بما لا يقاس على صعيد بناء هوية وطنية وتعزيزها. وفي الختام، كانت المحصلة معاكسة للدعوة الأيديولوجية التي تبنتها الدولة على طول الخط.
الفارق الأساسي بين العهدين لا يتمثل في القوة إنما في المجال العام. في المجال العام، يتم تداول الآراء ومناقشتها بحرية والسعي الى التأثير في الآخرين، بمن فيهم الدولة، بغرض فرض سياسات محددة أو العدول عن أخرى. يتجلى المجال العام في حياة حزبية وسياسية حرة، وحياة صحافية غنية وثرية، ووجود نواد سياسية واجتماعية، وحيز واسع من الحريات المصونة التي تمكّن الناس من الانتظام بما يمكّنهم، نظرياً على الأقل، من أن يكونوا مؤثرين ومسؤولين عن مصيرهم.
بالطبع لم يكن المجال العام مثالياً في العهد البرلماني، كما يسعى البعض اليوم الى تصويره كرد فعل على الدولة السلطوية الحالية. وقتها، كان المجال العام مقيداً وبشدة أمام العديد من الجماعات، بخاصة الفلاحين والعمال وفقراء المدن، ما جعل النظام برمته هدفاً للنقمة الاجتماعية وغير قادر على حماية نفسه لاحقاً في مواجهة الحركات الشعبوية. العوائق التي اعترضت توسيع المجال العام كانت من طبيعة اقتصادية وليست قانونية أو إثنية، أما نظرياً، فكان للجميع الحق في الدخول إليه. في العهد البرلماني، كان المجال العام موجوداً لكنه كان في الآن ذاته ضعيفاً وصغيراً ومقتصراً في شكل كبير على المدن، إلا أنه لاحقاً سيزول في شكل كامل تحت وطأة السلطوية التي نشأت مع العهد الثوري. في العهد الثوري، زالت الحياة السياسية وخنقت الحريات تماماً في مقابل تسيّد الحزب الواحد وعلاقات الولاء في الدولة، كما اختفت الصحافة الحرة وبقيت الصحف الناطقة بلسان الحزب والدولة، وانتهى أمر الذين سعوا إلى التعبير عن آرائهم المعارضة إلى السجون والمنافي.
ميزة المجال العام أنه الفضاء الوحيد الذي يسمح بنشوء هويات مجردة وعامة، مثل الهوية الوطنية، باعتبارها هوية تقوم على تخيل جماعة تتجاوز تلك التي نعاشرها ونعرفها خلال الحياة اليومية. في الحياة اليومية، نواجه أهلنا وأصدقاءنا وجيراننا، من يشبهوننا، لكننا في المجال العام سنضطر إلى محاورة جماعة أوسع بكثير من الجماعات الصغيرة التي تحيط بنا. هنا سيتفاوض الناس حول قضايا عامة تتجاوز الهموم اليومية التي يعرفونها في دوائرهم الصغيرة، وعليهم السعي الى إقناع آخرين لا يعرفونهم ولا يعرفون ما هي خلفياتهم واعتقاداتهم، وعليه فإنهم مضطرون إلى أن يستخدموا حججاً عقلية عامة ولغة قياسية يمكنها أن تخاطب أي شخص في معزل عن خلفيته الإثنية أو الطائفية.
جمهور المجال العام هو «جمهور عام» لا يُعرف بإثنيته أو طائفته، وهو المجال الذي يفرض تطوير لغة عامة ومعايير عقلانية متحررة وغير مقتصرة فقط على خبرة الجماعات الخاصة وتقاليدها، حتى يمكن أفراداً مختلفين في أهوائهم وبيئاتهم وانتماءاتهم من الحوار سوية والوصول إلى توافقات وتكوين تحالفات وائتلافات تسمح لهم بالتأثير في الدولة وسياساتها، وبالتالي يكون لهم القرار في مصيرهم وحياتهم.
وفق بنديكت أندرسون، كان المجال العام، المرتبط بنشوء سوق رأسمالية للطباعة وسوق من القراء المتخيّلين، الأساس لخلق الأمة في أوروبا بوصفها جماعة متخيّلة. كذلك، فإن نشوء المجال العام وتوسعه مع صعود البورجوازية الأوروبية كان الأساس في تطور ثقافة عقلانية، كما برهن يورغن هابرماس ذلك.
على رغم تقييده وضعفه، كان هذا المجال العام حاضراً خلال العهد البرلماني للدولة الوطنية، لكنه زال في العهد السلطوي اللاحق. لم يعد الكلام العلني مسموحاً، واقتصر الكلام على أهل الثقة في الدوائر الخاصة، وأهل الثقة يشبهوننا، فهم أبناء حيّنا وطائفتنا وعشيرتنا. غير أن الكلام معهم ليس في حاجة إلى تطوير معايير عقلانية للحوار، فنحن نصدر عن الخلفية نفسها، بمخاوفها وقيمها ومعاييرها. أما فضاء الكلام العلني فاحتلّته الصحافة الرسمية تماماً، واقتصر الكلام فيه على التعبير عن ولائنا وحبنا للقائد والحزب. الوصول إلى السلطة والنفوذ والقدرة على التأثير في السياسة أصبح يقوم على معيار الولاء القائم أساساً على الاستثمار في القرابة والجماعات الأهلية.
مقتل البعث كان تدميره المجال العام باعتباره الشرط الأساسي الذي يسمح لنا بتخيل جماعة «مجردة» مثل الأمة العربية أو الشعب، نحيل إليهما ونتحدث عنهما ونشعر بالانتماء إليهما. مع تغييب هذا المجال العام، عدنا إلى الجماعات الأهلية الصغيرة التي نعرفها خلال حياتنا اليومية من طوائف وعشائر لتكون هي الخبرة الوحيدة التي لدينا في تعريف أنفسنا.
* كاتب سوري
الحياة