مقالات تناولت الأزمة الروسية الاوكرانية
تغيُّر في توازنات القوى الدولية: شبه جزيرة القرم وسورية كأنموذجين/ خالد بن نايف الهباس
تسارعت ردود الفعل الدولية بعد إحكام روسيا قبضتها على شبه جزيرة القرم، حيث دانت القوى الغربية الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، الخطوة التي أقدمت عليها موسكو، ووصفتها بأنها خرق للقانون الدولي وعدوان على دولة مستقلة، ويجب التراجع عنها. بينما تفهمت الصين التحرك الروسي، وأعلنت أن موقف الجانبين، الروسي والصيني، متطابق ومتفق.
هناك انقسام واضح في مواقف القوى الدولية مما حصل، وهذا مؤشر إلى حالة التأزم التي باتت تصبغ السياسة الدولية. فبعد مرور نحو 24 سنة على انتهاء الحرب الباردة شهد النظام الدولي فترة كانت أقرب إلى أحادية القطب، سيطرت خلالها واشنطن على مفاصل السياسة الدولية، مستغلةً في ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي وضعف القوى الدولية الأخرى، كالصين مثلاً. لكن تلك الوضعية الدولية كانت مرحلة تحول دولي ما لبثت في التلاشي في السنوات القليلة الماضية، مع تعافي روسيا والبروز السريع للصين، والذي تزامن مع تراجع ملحوظ لأميركا بعد أن أنهكتها حربي أفغانستان والعراق، والأزمة الاقتصادية العالمية، حيث تزايدت ديون أميركا حتى وصلت نحو 16 تريليون دولار. ومع أن أميركا لا تزال الدولة الأقوى عالمياً وفقاً لمعايير القوة المختلفة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتقنية، إلا أن بروز قوى جديدة، بخاصة روسيا والصين أصبح يشكل تحدياً صريحاً للوضعية الدولية التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ما حصل في شبه جزيرة القرم، وقبل ذلك في سورية، يدل على أن النظام الدولي يتجه نحو حالة من التأزم والاستقطاب؛ فالقوى الغربية استغلت ضعف روسيا في العقدين الماضيين وتوسع حلف الناتو حتى وصل إلى الواحة الخلفية لروسيا من خلال ضم مجموعة من دول أوروبا الشرقية سابقاً، بل أن أوكرانيا نفسها تحاول اللحاق بركب الاتحاد الأوروبي، وقد عملت أميركا على تحفيز هذا التوجه في السنوات القليلة الماضية من خلال العمل مع بعض القوى السياسية الأوكرانية المتعاطفة معها. من ناحية أخرى، حاولت أميركا محاصرة التمدد الصيني من خلال سياسة «الاستدارة نحو آسيا» التي بدأت إدارة أوباما بتطبيقها أخيراً، وسعت من خلالها إلى نسج علاقات تعاون عسكري واقتصادي مع الدول الحليفة لها في الشرق الآسيوي والمحيط الهادي، مثل الفلبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وأستراليا.
إن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذا الوقت يدور حول ما إذا كان النظام الدولي على شفير حرب باردة أخرى. وفي هذا السياق يمكن القول إن الحرب الباردة مصطلح يصف وضعية أو حالة تكون السياسة الدولية فيها على قدر كبير من التأزم والاستقطاب، تسخّر فيها الدول المتنافسة مواردها المتاحة وتقيم التحالفات لمواجهة الطرف الآخر، لكن من دون أن يقود ذلك إلى الاستخدام الصريح للقوة، وإلا تحولت إلى حرب ساخنة أو صريحة. وهكذا يمكن القول إن الحرب الباردة تصف وضعية دولية معينة لا يجب حصرها على حالة تاريخية معينة أو التعامل معها كحالة ماضوية، إذ يمكن حصولها مجدداً لكن وفق منطق دولي مختلف. فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإذا أعاد نفسه فوفقاً لشخوص ومعطيات ونتائج مستقبلية مختلفة عن السابق.
وبغض النظر عن النتائج التي ستؤول إليها أزمة شبه جزيرة القرم إلا أنها دللت وأكدت أن النظام الدولي بدأ أخيراً يشهد حالة انقسام وتأزم لا تزال في بدايات تكونها لكنها تشي بظهور محور روسي- صيني، قد تنضم إليه مستقبلاً قوى من الدول النامية، وأصبحت تأثيرات هذه الحالة تنعكس على كل أزمة تحصل من دون قصر ذلك على منطقة دون أخرى؛ الأزمة السورية كانت في الشرق الأوسط، بينما تقع شبه جزيرة القرم في أوراسيا، ومع ذلك كان الموقفان الصيني والروسي متسقين في كلتا الحالتين. ولهذا التأزم في النظام الدولي حتميته التاريخية نظير الترتيبات التي تمت بعد انتهاء الحرب الباردة وتغير موازين القوى الدولية في السنوات الأخيرة، لكن يمكن القول إن السياسة الخارجية «الرخوة» التي انتهجتها إدارة إوباما، مهما كان لها ما يبررها في الداخل الأميركي، إلا أنها ساعدت القوى التي تنافس أميركا على انتهاج سياسة خارجية انتهازية وتوسعية، وزاد من النتائج السلبية لها أنها شكلت تراجعاً ملحوظاً في النفوذ الأميركي بعد فترة من التوسع الجامح والشرس في مناطق عدة من العالم، بخاصة وسط آسيا والشرق الأوسط.
* كاتب سعودي
الحياة
بوتين يشيّب أوباما/ موناليزا فريحة
على طريقة الخطابات النارية للرئيس الايراني السابق محمود أحمدي نجاد ، أطل اعلامي روسي الاحد على التلفزيون الرسمي لبلاده متوعداً بتحويل أميركا “غباراً مشعاً”، فيما ظهرت على شاشة خلفه سحابة كثيفة ناجمة من تفجير نووي. ولم يقف عند هذا الحد، بل ذهب ليكشف “لغز” الشيب الذي خط رأس الرئيس الاميركي باراك أوباما، قائلا إنه الخوف من القدرات النووية الروسية.
دميتري كيزيلوف هو الوجه البارز في حرب البروباغندا الروسية. اختاره بوتين بنفسه في كانون الاول الماضي ليكون مديرا لوكالة انباء رسمية جديدة مهمتها اظهار روسيا في أفضل وجوهها! وبعدما رفع في “استعراضه” النووي الاخير المواجهة بين بلاده والغرب الى مستوى جديد غير مسبوق بين الجانبين منذ انتهاء الحرب الباردة، سارع بوتين أمس الى ملاقاته بانقلابه على كل الاتفاقات التي شكلت أساس النظام العالمي الجديد، واعادة ترسيمه الحدود الدولية لاوكرانيا والمعترف بها منذ استقلالها عام 1991.
على أهمية القرم لروسيا، بدا بوتين أمس كأنه بضمه شبه الجزيرة الاستراتيجية تلك ينتقم لبلاده من كل الضيم الذي لحق بها في عالم القطب الواحد. من حملة حلف شمال الاطلسي على يوغوسلافيا، وصولاً الى التدخل الغربي في ليبيا لاطاحة القذافي، مروراً بحرب العراق. وللحظات بدا كأنه يضع في سيمفيروبول حجر الاساس لامبراطورية روسية جديدة.
لم يكن خطاب بوتين مفاجئاً. منذ أسابيع، هو لا ينفك عن رفع سقف التحدي. كلما رسم له الغرب خطا أحمر ضرب به عرض الحائط. حتى بعدما لمّح البيت الابيض الى ترك القنوات مفتوحة معه، جمع برلمانه وطلب منه توقيع انضمام القرم رسمياً الى روسيا.
مرة جديدة، يقف بوتين وحيداً في مواجهة العالم. حتى أكثر المحللين الذين يدعون معرفتهم بطباعه لم يتوقعوا منه قرارات كبيرة بهذه السرعة. وحتى الان، تبدو الامور لمصلحته في الداخل. عودة القرم الى أحضان روسيا أيقظت الحنين الى الماضي. وعلامات الزهو كانت واضحة على وجوه البرلمانيين الروس وفي تصفيقهم. شعبية بوتين تتجاوز السبعين في المئة،وهي الاعلى منذ اعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة، أما المعارضون للتدخل الروسي العسكري في القرم فلا يتجاوزون ستة في المئة. وحتى آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشيوف الذي دق المسمار الاول في نعش الاتحاد السوفياتي، أيد نتيجة الاستفتاء وانتقد فرض عقوبات على موسكو.
يَحسب بوتين أنه يقوم بعمل بطولي في استعادته القرم. يعتقد أن جمعه الروس مجدداً على رغم التنديد الدولي الواسع، حدث تاريخي. غير أن المغامرة التي يخوضها سيد الكرملين خطرة جدا، وتداعياتها لن تقتصر على الدولتين الجارتين فحسب، وإنما ستتعداها حتما الى دول وملفات ساخنة أخرى.
النهار
ليسأل الأوكرانيون السوريين/ امين قمورية
تيودور روزفلت الذي يعتبر من الرؤساء الاميركيين العظام، اعتمد سياسة خارجية ملخصها: “تكلم بهدوء واحمل عصا كبيرة”. اما من خلفه في البيت الابيض بعد نحو مئة سنة، باراك أوباما، فقرر العكس تماما: “اصرخ بصوت عال ولا تحمل عصا”.
خلال الازمة السورية، قررت موسكو منع واشنطن من استخدام مجلس الامن لنزع الشرعية عن نظام بشار الاسد وتوفير مظلة لتدخّل خارجي يعجل في عملية اسقاطه.
وكثّفت تسليح النظام وأنقذته من الورطة الكيميائية ومنحته عبر “جنيف 1″ و”جنيف 2” فرصة لتحسين مواقعه. ومثلها فعلت حليفة موسكو ودمشق معا، طهران التي اعتبرت سوريا مسألة حياة او موت بالنسبة إلى دور ايران الاقليمي وهيبة نظامها والاوراق التي تملكها. مرت السنوات الثلاث المرّة للأزمة ولم تغيّر لا موسكو ولا طهران موقفهما من سوريا.
في المقابل، كان قرار اوباما عدم إقحام أميركا في حرب جديدة. وصم اذنيه عن المناشدات والصرخات التي تطالبه بالتدخل لوقف الكارثة الانسانية التي تحدث على الارض السورية. واكتفى باعلان “النصر الكيميائي” بعدما اذعنت دمشق لقرار تسليم ترسانتها من هذا السلاح بضغط روسي يضمن للنظام بقاءه في مقابل سلاحه النوعي. ولولا الخطر الارهابي المتجدد على هذه الارض، لما تذكر اوباما ان ثمة ازمة في الكون اسمها سوريا ولما رفع الصوت مجددا.
اليوم، يطبق الرئيس الاميركي السياسة نفسها في اوكرانيا، فرد فعل واشنطن على ما تعتبره اوروبا اكبر خطر امني يواجهها منذ عقود ليس حتى الآن الا خطابات وشعارات من دون افعال تذكر. وعندما استضاف رئيس الوزراء الاوكراني الموقت ارسيني ياتسينيوك الى مائدة غداء اكتفى نزيل البيت الابيض برفع اصبعه لردع الاقتحام الروسي للقرم واجزاء من شرق اوكرانيا! المسؤولون في كييف كانوا يتساءلون: “متى ستضع الادارة الاميركية قوتها مكان فمها؟ عندما تحترق كييف أم أبدا؟”. الاوكرانيون يريدون دعما ماديا ومعنويا وتدخلا اطلسيا لمواجهة حشود بوتين على الحدود… واوباما يكتفي برفع الصوت عاليا من دون عصا.
بوتين يتصرف مطمئن البال. الولايات المتحدة لم تفعل شيئا عندما قضمت قواته اوسيتيا الجنوبية وابخازيا من جورجيا عام 2008، ولم ترد عندما تجاوز النظام السوري “الخط الاحمر” الذي وضعه اوباما لدمشق. لو كان قيصر الكرملين الجديد يدرك ان تهديدات اوباما ووزير خارجيته جدية لما الحق القرم بالممتلكات الروسية.
أزمة اوكرانيا لا تقل تعقيدا وخطورة عن الازمة السورية، وقد تمر ثلاث سنوات على الازمة الجديدة كي يكتشف الكثير من الاوكرانيين ما اكتشفه الكثير من السوريين قبلهم، ان الترياق الذي انتظروه طويلا من العالم الحر لن يأتي أبداً.
النهار
بوتين مرّغ أوباما في القرم!/ راجح الخوري
عشية الاستفتاء الذي دبرته موسكو في القرم، كتبت كوندوليزا رايس مقالاً في “الواشنطن بوست” جاء فيه ان بوتين يوجه رسالة الى الغرب مفادها ان اوكرانيا لن تكون حرة بما يكفي للقيام بخياراتها الخاصة، لكنها رسالة روسية تتجاوز اوكرانيا الى باقي دول اوروبا الشرقية والبلقان.
القرم التي كانت تحت السيطرة السوفياتية وقدمها نيكيتا خروتشوف الى اوكرانيا، صوتت بنسبة ٩٦ ٪ لمصلحة الانضمام الى روسيا، وسط سلسلة من التحذيرات الغربية الكلامية، التي لن تثني بوتين عن مساعيه المتواصلة لإعادة تأسيس امبراطورية قيصرية على قاعدة “المفهوم الاوراسي”، الذي يعتبر ان الدول من بولونيا الى آسيا الوسطى كانت مرتبطة ثقافياً لقرون بالروس وينبغي إعادة إحياء ذلك! أمام هذا التصميم يصبح على اوكرانيا عينها وقرغيزيا وتركمانستان ان تتذكر حقيقة محبطة، وهي ان اميركا ودول اوروبا الغربية لن تقدم لها اكثر من البيانات الانشائية، فها هي تعلن عن عقوبات شكلية ضد مجموعة من الشخصيات الروسية والاوكرانية المؤيدة لموسكو، وها هو اوباما واشنطن ينتقد الاستفتاء لأنه “خطير ومزعزع للاستقرار وستكون له عواقب اقتصادية”، ولكن هذا التهديد لا يخيف بوتين!
التعليقات التي ظهرت في الصحافة الغربية، تجمع على الاستنتاج ان ضم القرم هو جائزة يحصل عليها بوتين اكثر مما هو عبء جديد يمكن ان يسبب له المتاعب، انطلاقاً من ان اقلية التتار (١٢ ٪) الذين كانوا قد وصلوا الى القرم ايام السلطنة العثمانية ثم قمعهم ستالين وهجّرهم، يمكن ان يشكلوا طرف مقاومة تتصل بالشيشان وانغوشيا وداغستان وأوسيتيا الشمالية ذات الغالبية السنّية التي ترفض الهيمنة الروسية!
من الواضح ان انضمام القرم سيعزز أمن الاسطول الروسي في البحر الاسود، وسيعطي شرعية للادعاءات التي طالما رددتها موسكو، عن حقها في امتلاك حقول الغاز البحرية هناك، والتي يمكن من خلالها تجاوز اي مفعول للعقوبات الاقتصادية التي اعلنها الاوروبيون!
النائب الروسي ليونيد سلوتسكي يقول: “ان اهمية القرم انها باتت المكان الذي تمكنا فيه من تحدي اميركا وانهاء حلمها بسيطرة آحادية”، وهذا الكلام يعيدنا الى مقال كوندوليزا التي تذكّر بأن واشنطن استطاعت عام ٢٠٠٨ ان تقطع على موسكو تحقيق الهيمنة في جورجيا، ثم تنتقل الى القول:
“يتعين على اميركا استعادة مكانتها التي تآكلت بسبب المبالغة في مد يد الصداقة الى خصومنا والتي تكون احياناً على حساب اصدقائنا. ان عدم تحركنا في سوريا عزز الحضور الروسي في الشرق الاوسط، وان الانطباع بأننا متلهفون على اتفاق نووي مع ايران، لا يمكن فصله ابداً عن تحركات بوتين الاخيرة…”!
لكنهم في البيت الابيض، لا يقرأون “الواشنطن بوست” سيدة كوندي!
النهار
بوتين يلعب بالنار/ الياس حرفوش
يعيد فلاديمير بوتين كتابة التاريخ. ليس تاريخ روسيا فقط بل تاريخ جيرانها وجغرافية دولهم أيضاً. بوتين يعتبر أن الزلزال الذي ضرب الاتحاد السوفياتي في آخر عقد الثمانينات من القرن الماضي كان خطأ تاريخياً. لكن بوتين يعرف انه لن يستطيع إعادة ذلك الاتحاد إلى ما كان عليه. والسبب أن المشروع الذي قام عليه الاتحاد السوفياتي، وهو وحدة القوى الاشتراكية وحكم الطبقات العاملة، بات كذبة لم يعد باستطاعته أن يبيعها لأحد، لا داخل روسيا ولا بين جيرانها. لقد انفضحت تلك الكذبة عندما انهار جدار برلين واكتشفت الشعوب التي كانت مقيمة خلف الجدار أن هناك عالماً أفضل يعيش ويأكل ويشرب ويستمتع بالحياة، بعيداً من النظام الشيوعي الذي كان يوزع وعد الرخاء الكاذب على أتباعه.
لهذا يلجأ بوتين اليوم إلى لعبة أخطر لإعادة لمّ الشمل، هي اللعب على العصبية القومية الروسية. وهذه مثل اللعب بالنار. لأن التلاعب بحدود الدول بعد إشعال مشاعر القوميات ينتهي في الغالب إلى أنهار من الدم، كما لا نزال نذكر من تلاعب أدولف هتلر بحدود الدول الأوروبية المجاورة لإعادة رسم الخريطة الألمانية. هذا ما يفعله بوتين في شبه جزيرة القرم من خلال تجييش الأكثرية الروسية هناك ضد مشاعر الانتماء لدولة أوكرانيا التي تتبعها شبه الجزيرة منذ عام 1954 عندما قرر نيكيتا خروتشوف «منحها» لأوكرانيا.
من هنا مخاوف الدول المجاورة التي تعيش فيها أقليات روسية، أو أقليات تتبع الديانة المسيحية الأرثوذكسية (وهذه عصبية أخرى يتاجر بها بوتين لم تكن المتاجرة بها ممكنة أيام الاتحاد السوفياتي). بين هذه الدول مولدوفا وليتوانيا وصولاً إلى جمهورية صربيا، التي دعا بوتين رئيس حكومتها خلال زيارة قام بها إلى موسكو في الشهر الماضي إلى وقف التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات، وطلب مساعدة روسيا بدل ذلك.
في أوكرانيا يعيد بوتين تصحيح «الخطأ» الذي يقول إن خروتشوف ارتكبه بحق الروس. يعتبر بوتين أن التخلي عن القرم من جانب خروتشوف كان عملاً «غير دستوري»، كما وصفه أمس أمام النواب الروس، ودعا إلى إعادة تصحيح هذا «الظلم التاريخي». وبصرف النظر عن الظروف التي رافقت قرار خروتشوف، يتجاهل بوتين أن أوكرانيا كانت في ذلك الوقت في حضن الاتحاد السوفياتي، وبالتالي فإن انتقال القرم إلى أوكرانيا كان مثل نقلها من الجيب الأيمن لسترة خروتشوف إلى جيبه الأيسر.
في تلاعبه بالحدود وتزويره التاريخ، لا يتردد فلاديمير بوتين في ممارسة الكذب المفضوح، الذي يذكّر بزمن صحيفة «برافدا» وإعلامها الدعائي، اذ تحت شعار «الحقيقة»، كما يشير اسمها، كانت هذه الصحيفة تمارس كل أنواع التزوير الإعلامي مستفيدة من قمع كل إعلام مشاكس، كما يفعل بوتين بالإعلام الروسي اليوم، فهو يتهم الغرب بخرق القانون الدولي في تعاطيه مع الأزمة الأوكرانية، في الوقت الذي يتجاهل أنه هو الذي يخرق هذا القانون بعدم التزامه بالاتفاق الذي وقعته روسيا (في زمن سلفه بوريس يلتسين) مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، والذي يقضي بالتزام الدول الثلاث بحماية وحدة أراضي أوكرانيا (بما فيها شبه جزيرة القرم) واستقلالها في مقابل تخليها الطوعي عن أسلحتها النووية.
إلى ذلك، يقارن بوتين بين تصويت أبناء القرم لمصلحة الانفصال عن أوكرانيا وتصويت إقليم كوسوفو للانفصال عن صربيا، متجاهلاً كذلك أن أهل كوسوفو كانوا يتعرضون للمذابح على يد حلفائه الصرب الذين ارتكبوا أبشع مجازر القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي لم يزعم أحد أن أهل القرم تعرضوا لأي اعتداء قبل أن يعمل بوتين على إذكاء عصبيتهم الدينية والقومية، لينتقم من حكومة أوكرانيا التي تجرأت على الخروج على أوامره.
الحياة
عالم ما بعد القرم/ سميح صعب
بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن، عملت الولايات المتحدة على تشكيل العالم بالطريقة التي تراها متناسبة مع مصالحها وخصوصا بعدما انتهى عالم القطبين الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية. وتمدد حلف شمال الاطلسي في دول أوروبا الوسطى والشرقية التي كانت تدور في فلك ما كان يسمى الكتلة السوفياتية السابقة. وكانت موسكو تنظر دوما بقلق الى هذا التمدد باعتبار ان روسيا هي المستهدفة به أكثر مما يعلنه الاميركيون من ان الغاية منه تثبيت الانظمة الديموقراطية الناشئة حديثا على انقاض الانظمة الشيوعية. وعلى رغم ذلك لم يكن الكلام الاميركي ليطمئن الروس الذين كانوا لا يزالون يحملون عبء الهزيمة في الحرب الباردة وأوزار الحرب الافغانية التي أنهكت الاتحاد السوفياتي وكانت من الاسباب التي عجّلت في انهيار الاتحاد.
وظنّ الروس أنهم بقبولهم بانهيار الاتحاد السوفياتي يمكن أن ينقذوا روسيا. وكانت أميركا ترسل لهم اشارات متناقضة. فمن ناحية دمج بعض نواحي الاقتصاد الروسي بالاقتصاد العالمي وباتت روسيا عضوا ثامنا في مجموعة الدول الصناعية الكبرى في العالم، وقبلت عام 2012 في عضوية منظمة التجارة العالمية. وأبرمت معاهدات للحد من الاسلحة الاستراتيجية بين واشنطن وموسكو. وبرز تعاون بين الجانبين في كثير من المسائل الدولية على رغم التحفظات الروسية في ما يتعلق بما جرى في يوغوسلافيا السابقة وصولا الى ظهور دولة كوسوفو التي سلخت عن صربيا التي تربطها بموسكو علاقات تاريخية وثقافية.
ومع ان الولايات المتحدة بعد هجمات 11 ايلول على نيويورك وواشنطن اعتبرت ان الاسلام المتطرف هو العدو الجديد الذي ينبغي ان تحاربه في أنحاء العالم، وعلى رغم قيام تعاون مع روسيا في هذا المجال، فان الاطلسي لم يتوقف عن التمدد في اتجاه الحدود الروسية وكان نشر الدرع الصاروخية في بلدان اوروبية بعضها كان ينتمي الى حلف فرصوفيا المنحل، جعل الشك يساور اكثر الزعماء الروس وخصوصا مع تولي فلاديمير بوتين الرئاسة مطلع العقد الماضي خلفا لبوريس يلتسين. ومع ان المسؤولين الاميركيين كانوا يكرّرون ان الدرع الصاروخية تستهدف “دولا مارقة” مثل ايران وكوريا الشمالية، فان بوتين لم يكن ليقتنع بهذا التبرير ويعلم علم اليقين ان المستهدف هو روسيا.
وبعد ما فعله الغرب في ليبيا وسوريا، لم يكن أمام بوتين سوى الرد في أوكرانيا. ومن ينعم النظر جيدا في خطاب الثلثاء الماضي امام الدوما، يدرك أن الرئيس الروسي قدّم جردة حساب للغرب على مدى ربع قرن. وربما لم يكن الغرب يتوقع ان يذهب الرجل الى حدود استعادة القرم. لكنه فعل.
النهار
عصر الأقليات وحمّى استفتاء القرم/ زهير قصيباتي
طعنوه في الظهر. قال قيصر الكرملين عن «الكبار» في الغرب الذين تفرّدوا بقرار غزو العراق واحتلاله، ثم «خدعوا» روسيا في ليبيا، مخاطباً الحماسة القومية لدى ورثة الاتحاد السوفياتي، في تبريره ضم شبه جزيرة القرم الى الاتحاد الروسي.
التقطت واشنطن خيط الحماسة لتنصح بقراءة تاريخ ما قبل الحرب العالمية الثانية، حين تعاظمت المشاعر القومية وتمددت عدواها. وإن كان في أوروبا الآن مَنْ يُشبّه الرئيس فلاديمير بوتين بالفوهرر هتلر، وتتلمّس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون مساعي القيصر وطموحاته وهو يحاول «إعادة رسم خريطة أوروبا»، فكثيرون يستعيدون وعود بوتين للروس باستعادة امبراطورية أَفِلَت بعدما سئموا «الإذلال» الغربي الذي تجرّعوا كأسه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإذ تتجاوز نُذُر الشؤم في أزمة أوكرانيا، القرم والشرق، وترد موسكو على التهديد بالوعيد، يفضّل الغرب عصا العقوبات التي فعَلت فعلها في تجارب سابقة (إيران مثال). وهو لن يذهب بداهةً، إلى التلويح بالقبضة النووية، على طريقة الإعلامي المقرّب من الكرملين الذي دغدغه حلم تحويل أميركا إلى «حطام مشعّ»!
ولكن، ألم يكن بوتين في خطابه الذي يذكّر الجميع برجل الـ «كي جي بي»، محقاً في اتهامه الغربيين باحتكار مصائر العالم، واستخدام أساليب الخداع، وسياسة الطعن في الظهر، لتحقيق مآربهم التي تُقَنَّنْ عادة بعبارة الأمن القومي ومتطلباته لدى «الكبار»؟
لماذا كوسوفو نعم، والقرم لا؟ كلام حق لكنّ ما يراد به قد يجرّ العالم إلى ما هو أسوأ بكثير من «الشتاء العربي» الذي تحدّث عنه «القيصر» في خطابه لدى إعلان اتفاق ضم القرم إلى روسيا. فتعميم مبدأ الاستفتاء على تقرير المصير، سيعني حتماً إعادة رسم كثير من الخرائط، خارج أوروبا، وعلى عتبتها. فالقومي يتحول سريعاً الى ديني في بقعة أخرى من العالم، والديني مؤهل ليصبح مذهبياً الآن في حقبة اختلال التوازن الدولي.
لنفترض ببساطة، أن ما فرضه الكرملين بقوة الأمر الواقع في أوكرانيا وشرقها، وتحت ستار استفتاء «قانوني»، يضع الأوروبيين أمام خيارين، كلاهما مُر وأحدهما لا تتعدى احتمالاته واحداً في المئة: تغذية شرارات حرب أهلية في أوكرانيا، تستطيع موسكو إخمادها سريعاً بما يُلحق هزيمة بالغرب. والخيار الثاني هو إعلان الأوروبيين وأميركا حرباً على روسيا، في وقت تحاصرهم أزمات الإفلاس ويتراجعون عن منافسة القدرات العسكرية في ترسانة لطالما تغنّى بوتين بخطط تحديثها… والأهم أن لا أحد بينهم يعتقد بأن القرم «العزيزة على قلوب الروس» تستحق تحويل القارة الى صحارى خراب، وقتل ملايين من الناس.
يدرك القيصر هذه الحقائق، لذلك يطلق يديه وجيوشه، ويتخلى عن الديبلوماسية في مخاطبة مَن كانوا شركاء له في مجموعة الدول الثماني. يُبلِغهم مسبقاً أنه يعرف نيّاتهم، ويتحداهم تحريك «الطابور الخامس».
في المنطقة مَنْ يشبّه نهجه بأساليب عسكر العرب الذين ركبوا موجة المد القومي وحماسته، ليخطفوا دولاً ويؤسسوا لأنظمة «أبدية»، لا تنتهي إلا بتصفيتهم أو اغتيال الدولة ومؤسساتها وشعبها.
وفي العالم العربي مَنْ يعتبر أن أسباب استمرار النظام السوري- حليف موسكو- وبقائه رغم ثلاث سنوات من الثورة والحرب، باتت أكثر وضوحاً بعد كل الذي فعله الرئيس الروسي في الخاصرة الأوكرانية، فيما الشراكة مع الدول الصناعية هبطت الى الحضيض، والغرب على طريقة الرئيس باراك أوباما، يكتفي بتوجيه اللعنات، ويهرب إلى سلاح لا يؤتي ثماراً إلا بعد سنوات.
حلفاء بوتين العرب، على خطاه، ومَنْ يتمعّن في تكتيك فرض الوقائع وحشر الخصم فيها، يجد لديهم النهج ذاته: استدراج الخصوم الى حافة الهاوية، أي بلغة غير ديبلوماسية، ممارسة «التشبيح» بجدارة.
والأهم، بعيداً من رؤى المتطيّرين في الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى، استعادة المثال الكوسوفي، كما ينصح فلاديمير بوتين. وهو إذ تدخّل لإنقاذ الروس في شبه جزيرة القرم من عدوانية القوميين «المتطرفين» في أوكرانيا، و «النازيين الجدد»، فصحّح خطأ خروتشوف (إهداء كييف شبه الجزيرة)… ما الذي يحول دون استعارة بعض حلفاء «القيصر» دهاءه، فيصبح الاستفتاء مطلوباً في المنطقة ايضاً، لتقرير مصير أقليات وأعراق وأتباع مذاهب؟
أليست عين الوليّ الفقيه على الشيعة في العالم، والعرب منهم خصوصاً، وعلى حوثيي اليمن؟ أليس قلب النظام السوري على علويي طرابلس اللبنانية فيما تستمر خرافة المواجهة المديدة بين بعل محسن وباب التبانة؟ كم خطوة إلى أمام تنقل أمازيغ الجزائر الى المطالبة باستفتاء على تقرير المصير؟… وماذا عن أقباط مصر الذين طوردوا حتى في ليبيا؟
بمنطق بوتين، كل الأكثريات والأقليات على براكين التلاعب بالحدود والخرائط، والشتاء الذي يأنفه، دخل حقبة الأعاصير والزلازل… لم تكن تنقصه إلاّ الحماسة لثارات التاريخ، كلٌّ يتهم الآخر بطعنات الإذلال، والتآمر.
الحياة
تداعيات أزمة القرم/ هشام ملحم
يتوقع المسؤولون الأميركيون أن يؤدي ضم موسكو شبه جزيرة القرم الى مراجعة نوعية لـ”شركة” التي طوّرها الرئيس باراك أوباما مع روسيا منذ انتخابه والتي أدت الى تعاون الطرفين في مجالات عدة كان آخرها اتفاق تفكيك الترسانة الكيميائية السورية. ويتوقع بعض المسؤولين أن يكون مؤتمر جنيف 2 حول سوريا أولى ضحايا أزمة القرم، خصوصاً أن فرص إحيائه كانت صعبة جداً قبل تفاقم التوتر بين واشنطن وموسكو، وثمة قلق من أن تقلص موسكو تعاونها مع واشنطن في سياق المفاوضات بين مجموعة 5 + 1 وإيران في شأن برنامجها النووي، وأن تعجّل من مفاوضاتها مع طهران لتزويدها مفاعلين نووين. ويقول المتشائمون، وهم كثر، إن جولة الممثل الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في سوريا الأخضر الابرهيمي ربما كانت المحاولة الأخيرة لإنقاذ جنيف 2 من الانهيار الكامل.
ومنذ اخفاق الجولة الثانية من جنيف 2، وخيبة واشنطن الواضحة من موسكو، بدأ المسؤولون الأميركيون يراجعون خياراتهم في شأن النزاع السوري، خارج نطاق التعاون مع روسيا ولكن مع التمسك بتطبيق اتفاق الأسلحة الكيميائية. وباتت عملية المراجعة أكثر إلحاحاً بعد أزمة القرم، ومع استمرار النجاحات الميدانية للنظام السوري وحلفائه الايرانيين و”حزب الله”، وآخرها السيطرة على يبرود، وتفاقم التحدي الإسلامي المتطرّف لقوى المعارضة غير الإسلامية التي تدعمها واشنطن.
وقالت مصادر مطلعة إن المسؤولين والأجهزة المعنية بالنزاع السوري وضعوا تصوراً كاملاً (يشمل عناصر سياسية وعسكرية) يقضي بتوفير مزيد من الدعم المالي (لدفع رواتب المقاتلين) واللوجستي (من أجهزة اتصال متطورة الى عربات سريعة) والعسكري (رشاشات ثقيلة يمكن أن تسقط مروحيات) لقوى المعارضة ولا سيما منها تلك الناشطة في الجنوب والتي يجري تدريب عناصرها في الأردن. لكن الفيتو الأميركي على تسليح المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف صينية الصنع اقترحتها السعودية، لا يزال سارياً.
وأوضحت المصادر أن هذا التصوّر نوقش بشكل أولي في سياق الاتصالات التحضيرية لزيارة الرئيس أوباما للسعودية للاجتماع بالملك عبدالله بن عبد العزيز في نهاية الاسبوع المقبل، على أن يناقش بعد تطويره في محادثات الرياض. وأشارت المصادر الى أن هناك تطابقاً في وجهات النظر بين الرياض وواشنطن في قضايا عدة منها ضرورة عدم بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، والتصدي للتنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل “النصرة” و”داعش”. ولفتت في هذا السياق الى تعاون واشنطن والرياض في لبنان والذي ساعد في تأليف الحكومة الجديدة.
وتحدثت المصادر بقلق كبير عن الدور الإقليمي المتزايد لـ”حزب الله” كجزء أساسي من المنظومة العسكرية الإيرانية. وتخوّفت، حتى في حال سقوط الأسد في سوريا، من عدم تقلّص نفوذ “حزب الله” في لبنان، لا بل من إمكان تعزيزه.
النهار
أوكرانيا وانفصال القرم: الواقع والمآل/ محمد صفوان جولاق
(الجزيرة)
ملخص
تصدر القرم المشهد العالمي بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمه إلى الأراضي الروسية، ليقلب المعادلة لصالح روسيا، ولتتحول عمليًا من موضع الدفاع عن حدودها إلى زحف يقرّبها من “أوكرانيا الموالية للغرب”، ويقتطع أراضيها. وتدرك أوكرانيا أن جيشها لا يقوى على مواجهة نظيره الروسي، وتخشى أن ما حدث في القرم قد يُغري موسكو أو حلفاءها بتكرار هذا السيناريو في مناطق أخرى ما قد يكلفها اقتطاع جزء آخر من أراضيها وخسارة إطلالتها على البحر الأسود. لدى كييف أوراق ضغط على القرم، منها: قطع إمدادات الماء والكهرباء والغاز والاتصالات بالإضافة إلى ورقة إغلاق الحسابات البنكية الخاصة بحكومة الإقليم؛ الأمر الذي تم فعلاً ولكنها ليست حاسمة. أما القوى الغربية فهي تدرك أن تعاظم النفوذ الروسي في القرم وشمال البحر الأسود يشكّل تهديدًا لها ولن تتنازل بسهولة، ما قد يطلق ما يقرب من حرب باردة أو حروبًا بالوكالة. ولكن لا تزال أوروبا تعاني اقتصاديًا وبعض دولها لا يستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي، ولن تمانع في عقد صفقات يتم بموجبها تبادل مواقع نفوذ عالمية ترضي الطرفين.
تحولت احتجاجات أوكرانيا عن هدف الشراكة الاقتصادية مع أوروبا إلى أهداف سياسية؛ فباتت أوسع من مجرد توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي؛ حيث جاء وصول الموالين للغرب إلى سدة الحكم، وعزلهم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وجميع رموز نظامه الموالين لموسكو(1)، ليؤذن بتغيير نظام الحكم وقواعد اللعبة السياسية في أوكرانيا والمنطقة برمتها؛ الأمر الذي جعل من الأزمة الأوكرانية ليست مجرد “أزمة نظام” بل “أزمة دولية” كبيرة بين فريقين دوليين -روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى- تهدد بإعادة أجواء الحرب الباردة إلى المشهد العالمي، لاسيما بعد أن شهد إقليم شبه جزيرة القرم(2) جنوب أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية، تدخلاً عسكريًا روسيًا، ترافق مع “حراك” أو تحريك حثيث نحو انفصال القرم عن أوكرانيا، وانتهى بضمه إلى روسيا.
يتصدر القرم حاليًا مشهد الأزمة الأوكرانية المستمرة منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2013 الماضي، خاصة بعد إعلان الرئيس فلاديمير بوتين ضم القرم إلى الأراضي الروسية. وكانت روسيا أنكرت أنها دخلت هذا الإقليم واحتلته قبل أسابيع، في حين يؤكد موالون ومعارضون لها أن المسلحين الذين أحاطوا وما زالوا يحيطون بمباني الحكم الرئيسة والمطارات والقواعد العسكرية الأوكرانية والمحطات التلفزيونية هم جنود تابعون لأسطول البحر الأسود العسكري الروسي، المرابط على سواحل مدينة سيفاستوبل جنوب غرب الإقليم.
وعززت روسيا من سيطرتها على القرم بعد أن حظيت بدعم البرلمان القرمي لتعيين سيرهي أكسينوف رئيسًا للحكومة، وهو زعيم حركة “الوحدة الروسية” التي حصلت على 3 مقاعد من أصل 100 في برلمان الإقليم، ولطالما جاهر وحركته بمطالب الانفصال عن أوكرانيا والالتحاق بروسيا، وكانت -ولا تزال- هذه الحركة توصف “بالمتطرفة” من قبل السلطات الأوكرانية والأقليات العِرقية والدينية القرمية.
صراع تاريخي على القرم
إن التنافس والصراع الإقليمي على القرم ليس جديدًا، وإن خمد لعقود؛ فالقرم كان جزءًا من الدولة العثمانية في أجزائها الشمالية، بعد أن دخله الإسلام في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، وكان معظم سكانه من أصول تركية، أُطلق عليهم لاحقًا اسم: “التتار”. وتسمية “القرم” تترية تعني القلعة، وكانت تضم مناطق ما يُسمى الآن “شبه جزيرة القرم” والأراضي المحيطة ببحر آزوف (في روسيا الآن) وشمال جزيرة القرم (في أوكرانيا اليوم).
قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية من العام 1441-1783، وهي مملكة ضعفت بضعف الدولة العثمانية، وتخلّت عنها هذه الأخيرة بتوقيع معاهدة “كوجك قينارجه”، التي نصت على منح القرم استقلالاً ذاتيًا عام 1774، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه الجزيرة، ولكن الإمبراطورة الروسية يكاتيرينا الثانية(3) أخلّت بالاتفاقية واحتلّت الجزيرة عام 1783، وأحرقت ودمرت عاصمتها (بغجة سراي آنذاك) والكثير من المعالم الحضارية التترية الإسلامية فيها(4).
تراجع الوجود التتري في القرم، وخاصة بعد سيطرة السوفيت عليه، ثم هجّر نظام الزعيم جوزيف ستالين التتار بالكامل عام 1944 قسرًا بدعوى الخيانة خلال الحرب، ووُزّعت بيوتهم وأراضيهم على “العمال الكادحين” من روسيا وغيرها، ليعظم وجود الروس في الإقليم. ووفق إحصائية أُعدت عام 2001 يشكّل الروس والمنحدرون من أصول روسيا نسبة تقارب نحو 58% من إجمالي عدد السكان البالغ 2 مليون نسمة، بينما يشكّل الأوكرانيون نسبة تقارب 24%، ويشكّل تتار القرم نسبة 12%. كانت جمهورية القرم واحدة من دول الاتحاد السوفيتي إلى العام 1954؛ حيث قرر الزعيم نيكيتا خروتشوف ضمها إلى أوكرانيا لتبقى كذلك بعد استقلال الأخيرة عام 1991.
الأهمية الجغرافية للقرم
ولتفسير الصراع على شبه جزيرة القرم تجدر الإشارة إلى أنه يتمتع بعدة ميزات، أولها: جيوسياسية؛ إذ تقع على الضفة الغربية لبحر آزوف، وتشرف على مضيق كيرتش الذي يفصل بينه وبين البحر الأسود، ويتحكم بمرور السفن التجارية والعسكرية إلى عدة موانئ أوكرانية وروسية وغيرها.
اقتصاديًا، يشكّل القرم وجهة رئيسية للكثير من السيّاح الروس والأوكرانيين والبولنديين والألمان ومن دول البلطيق؛ إذ يزور القرم ما بين 3 إلى 5 ملايين سائح سنويًا، لأنه يتمتع بجو دافئ شتاء ومعتدل صيفًا، وبطبيعة خلابة غنية بالغابات والجبال والأنهار، ما يعود على خزينة الدولة بنحو 2 مليار دولار. ولمناخه المعتدل، يُعتبر القرم سلة غذائية رئيسية لأوكرانيا؛ إذ ينتج العديد من المحاصيل والفواكه، كالعنب والخوخ والمشمش والتين، إضافة إلى إنتاج العسل، كما تحتوي أراضي القرم على النفط والغاز وبعض المعادن بكميات كبيرة غير مستثمرة.
أما في الجانب الأمني العسكري، فيطل شبه الجزيرة على شريط طويل من سواحل البحر الأسود الشمالية، وتوجد على أراضيه 15 قاعدة عسكرية أوكرانية بين برية وبحرية، لكنها صغيرة وضعيفة إذا ما قورنت بالتواجد العسكري الروسي، الذي يتمركز في ثلاث قواعد، أهمها: قاعدة سيفاستوبل التي تشمل أربعة خلجان مائية.
الحسم الروسي
حافظت روسيا على وجودها العسكري في القرم بعد استقلال أوكرانيا وتقاسم أسطول البحر الأسود السوفيتي معها، وكان لها النصيب الأكبر من ذلك الإرث، بثلاث قواعد عسكرية، من أبرزها وأكبرها قاعدة سيفاستوبل. ولكن الاتفاقيات الثنائية حظرت على الجانب الروسي زيادة أعداد قواته وتحديث قدرات أسطوله. برز الاهتمام الروسي بالأسطول مع وصول البرتقاليين الموالين للغرب إلى السلطة بين 2005-2010، ورفضهم التمديد لبقاء الأسطول إلى ما بعد العام 2017 وفق معاهدة الاستقلال 1991، وعزمهم ضم البلاد إلى الاتحاد الأوروبي حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ونصب قواعد صاروخية دفاعية للحلف على الأراضي الأوكرانية؛ الأمر الذي رفضته موسكو، وضغطت بجميع أوراقها السياسية والاقتصادية لمنعه، وما أن انتُخب فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا رئيسًا في العام 2010 حتى وقّع بعد أسابيع قليلة اتفاقية مدّدت لبقاء أسطولها حتى العام 2045، وسمحت بإجراء “إصلاحات وبعض التطوير” عليه، ليصبح حضور روسيا في القرم على الشكل التالي:
أولاً: القواعد العسكرية
قاعدة سيفاستوبل: القاعدة الرئيسية للأسطول البحري الروسي على سواحل البحر الأسود جنوب غرب القرم، تتمركز في أربعة خلجان: (سيفاستوبل-يوجنايا-كارانتينايا-كازاكيا)، وفيها أكثر من 30 سفينة حربية، وسفينة عبارة عن مستشفى، ومركز اتصالات متطور مجهز للحرب الإلكترونية، وعدة طائرات هليكوبتر.
قاعدة فيادوسيا: في شرق القرم.
ثانيًا: المطارات العسكرية الرئيسية
كفارديسكايا.
سيفاستوبل (كاتشا).
ثالثًا: المطارات العسكرية الفرعية
سيفاستوبل (خيرسونيس).
سيفاستوبل الجنوبي (يوجني).
رابعًا: وحدات الاتصالات العسكرية
كاتشا (في الجنوب الغربي).
سوداك (في شرق القرم).
يالطا (في جنوب القرم).
ويصل إجمالي عدد القوات الروسية الثابتة إلى 14000 جندي.
لا شك أن عزل يانوكوفيتش جاء ضربة قوية لموسكو، التي أدركت عزم السلطات الجديدة في العاصمة كييف على التقارب مع أوروبا؛ الأمر الذي سيتجاوز حتمًا البعدين: السياسي والاقتصادي إلى البعد العسكري، وبالتالي فإن زحف الغرب نحو حدودها الغربية بات وشيكًا؛ ما سيهدد أمنها وأمانها وقدراتها الدفاعية. لتدارك هذا الموقف، حسم الرئيس بوتين الأمر سريعًا، وقرر التدخل من بوابة القرم بشكل “عسكري استعراضي” للعضلات دون قتال عسكريًا، والعمل على ضمه إلى الأراضي الروسية، مستندًا إلى حقيقة أن الأسطول العسكري البحري الروسي قريب، ونسبة كبيرة من السكان تنحدر من أصول روسية وتعتبر أن روسيا هي “الوطن الأم”.
وجاء التدخل الروسي بحجة حماية أمن وحقوق الغالبية الروسية فيه من السلطات “الفاشية” في كييف، مستغلاً انشغال الأخيرة بملء الفراغات السياسية والأمنية والعسكرية في الوزارات وغيرها من المؤسسات بعد هروب يانوكوفيتش وجميع رموز نظامه.
التدخل العسكري “الناعم”، وتغيير السلطات المحلية، ثم الإعلان عن ضم القرم إلى روسيا، منح موسكو سيطرة شبه كاملة على سواحل وأراضي الإقليم، لا على جزء من شريطه الساحلي فقط؛ ما قد يمكّنها من نشر قواتها ودفاعاتها في جميع أرجاء القرم، وبهذا تصبح هي القوة الأكبر في شمال البحر الأسود. وبهذه السيطرة وذلك الولاء أيضًا، تستطيع روسيا أن تستخدم أراضي وسواحل القرم لتنفيذ مشروع خط “التيار الجنوبي” لنقل الغاز إلى أوروبا؛ ما يعني توفير نحو عشرين مليار دولار كانت ستنفقها لتجاوز المياه الإقليمية الأوكرانية.
والنجاح الروسي في القرم قد يغري موسكو أو حلفاءها بتكرار هذا السيناريو في مناطق أخرى تضم رعايا روس في شرق وجنوب أوكرانيا، لتحويلها إلى مناطق موالية أو حتى تابعة، أو رمادية تفصلها عن الغرب على الأقل، فتحمي بذلك حدودها ونفوذها.
موقف أوكرانيا
قلبت روسيا المعادلة لصالحها، فتحولت عمليًا من موضع الدفاع عن حدودها إلى زحف يقربها من “أوكرانيا الموالية للغرب” ويقتطع أراضيها، كما يقربها من الغرب الداعم لكييف. وتدرك أوكرانيا أن جيشها بعدته وعتاده وتعداد جنوده لا يُقارَن بقدرات نظيره الروسي، وأنه لم يخض أي حرب تمكّنه من كسب تلك الخبرات اللازمة لدفع أو هزيمة موسكو، ولهذا يؤكد على عدم استخدام القوة لتحرير القرم ومنع انفصاله.
كما تخشى أوكرانيا من تكرار السيناريو القرمي في مدينة أوديسا الساحلية وعدة مدن شرقية أخرى، خاصة وأنها تشهد حراكًا وأصواتًا تنادي فعلاً بالاقتداء بنهج القرم؛ ما يعني أن البلاد قد تخسر أية إطلالة لها على البحر الأسود، وأجزاء واسعة من مناطقها الشرقية. ولكن لدى كييف أوراق ضغط كثيرة على الإقليم، لا يتحدث المسؤولون عنها صراحة، ولكن بعضهم يلوح بها بين الحين والآخر؛ فأوكرانيا هي مصدر إمدادات الماء والكهرباء والغاز والاتصالات المهددة بالوقف أو الحجب، بالإضافة إلى ورقة إغلاق الحسابات البنكية الخاصة بحكومة الإقليم؛ الأمر الذي تم فعلاً.
قد تسهم روسيا فعلاً بدعم الإقليم كجزء بات من أراضيها، ولكن ذلك قد لا يطول؛ ما يشكّل تهديدًا كبيرًا لاقتصاد القرم الذي سيعتمد لأول مرة على نفسه منذ عقود؛ أما إذا ما وقعت معارك عسكرية، فإن القرم مرشح لتكرار سيناريو أبخازيا، بفقر شديد، وقلة من الدول تعترف به كدولة مستقلة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جميع المسؤولين في كييف يؤكدون على عدم اعترافهم بالقرم كجزء من روسيا، وجميع ما تقوم به سلطاته من إجراءات.
أوروبا وأميركا والناتو
بدعم المعارضة وتأييد مطالب المحتجين في الميادين والشوارع، حقق الاتحاد الأوروبي والغرب إنجازًا كبيرًا، بوصول سلطات موالية له مجددًا إلى الحكم، وهي سلطات أكثر عزمًا على التقارب معه من سلطات الثورة البرتقالية حتى؛ ما يعني أن أوكرانيا تحولت إلى معسكره بعد عقود من بقائها في المعسكر الشرقي.
لكن الموقف الأوروبي اليوم أمام اختبار كبير، فما حققه كان يعني تقديم دعم لإنقاذ اقتصاد أوكرانيا من الانهيار عبر مساعدات من صندوق النقد الدولي تقارب 15 مليار دولار، واليوم -بعد انفصال القرم- تتجه الأمور إلى مواجهة مع الدب الروسي، قد تخرج من الإطار السياسي والاقتصادي إلى العسكري.
يدرك الغرب حقيقة أن نفوذ روسيا سيتعاظم الآن في البحر الأسود بعد ضم القرم، وبالتالي فإن قوة عسكرية قديمة جديدة تظهر الآن في أجزائه الشرقية الجنوبية، وقد تشكّل تهديدًا استراتيجيًا لدوله. ويفرض الأوروبيون عقوبات على روسيا للضغط عليها، لكنها عقوبات رمزية لا تؤثر على المشهد حتى الآن؛ فالاعتماد على غاز واستثمارات الروس في أوروبا كبير، ووقف هذا الاعتماد بتوسيع العقوبات والقطيعة يعني خسارة كبيرة لها.
ولكن رغم الوضع الاقتصادي الصعب، يبقى الخيار العسكري واردًا، يُبحث ولا يتم الإعلان عنه لصد روسيا، وبغضّ النظر عن تكاليفه الباهظة؛ فالأمن أهم من الاقتصاد، وروسيا كسبت في القرم نقاطًا كثيرة كان من الممكن أن تُحسب للأوروبيين.
بهذا لم تعد أوكرانيا مجرد ساحة تجاذب واستقطاب بين روسيا وأوروبا، بل تتحول شيئًا فشيئًا إلى ساحة مواجهة بينهما، وهي مواجهة يحاول من خلالها كل طرف كسب أوكرانيا أو أجزاء منها إلى صفه، وحماية نفوذه ودعم اقتصاده وتعزيز حضوره فيها، والأهم من ذلك كله هو ضمان أمنه بخلو أراضيها من أي تهديد لحدوده وأراضيه. ولا يختلف الموقف الأميركي كثيرًا عن موقف الاتحاد الأوروبي؛ فتعاظم النفوذ الروسي في القرم وشمال البحر الأسود يشكّل ضربة لنفوذ أميركا وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، لأنه يُضعف حضورهما في هذه المنطقة القريبة من العدو التاريخي غير المعلن: روسيا. وانفصال القرم على وجه الخصوص يضع أوروبا وبريطانيا وفرنسا أمام اختبار كبير أيضًا؛ فهي الدول الغربية التي ضمنت لأوكرانيا أمن وسلامة أراضيها عندما تخلّت عن السلاح النووي بموجب اتفاقية بودابست عام 1994، واليوم “تُحتل” من قبل روسيا الضامنة أيضًا، وبالتالي فإن إخفاقها برد روسيا لن يمكّنها من إقناع دول كإيران وكوريا الشمالية بالتخلي عن الأسلحة والمساعي النووية مقابل ضمانات؛ ما قد يعني حدوث فوضى نووية عالمية.
الموقف التركي
ولا يمكن إغفال الموقف التركي إزاء أحداث القرم، وإن كان الأقل تفاعلاً حتى الآن؛ فبالعودة إلى تاريخ الإقليم ندرك أن لأنقرة مصالح قديمة جديدة فيه، من أبرزها وجود تتار القرم الذين تعتبرهم بمثابة رعايا لها، وهم معرضون لخطر الاضطهاد مجددًا بفرض نظام وقوانين الحكم الروسي.
تعي تركيا جيدًا أن الهيمنة الروسية عادت إلى القرم الذي كان جزءًا منها، وأعلنت سابقًا ومؤخرًا عن دعمها لحقوق التتار خوفًا على مصيرهم، وطلبت المشاركة في مجموعة الاتصال لبحث أزمة القرم إلى جانب الأطراف الرئيسية. قد لا تريد تركيا إعادة القرم إلى نفوذها مجددًا كما كان في القرون الوسطى، ولكنها أيضًا لا ترضى أن يعود النفوذ الروسي إليه مجددًا، فهذا سيذكّرها بهزائم الماضي، والأهم ربما أن ذلك النفوذ سيطوقها من الشمال ومن الجنوب الغربي، في قواعد القرم على البحر الأسود، وقاعدة طرطوس السورية في البحر المتوسط.
تركيا هي من أكثر الدول المعنية بما يحدث في القرم، ومن المؤكد أنها ستشارك بقوة في أي حل لأزمته، أو حتى تصعيد عسكري قد يحدث بسببه، كدولة لها مع القرم ارتباطات تاريخية واجتماعية واقتصادية، وكذلك كدولة عضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو” إذا ما تدخل.
مآلات الأزمة
الأزمة الأوكرانية ليست أزمة سياسة أو اقتصاد، بل هي أزمة جغرافيا ونفوذ بالدرجة الأولى، وانطلاقًا من جميع المعطيات السابقة، لا يُستبعد نشوب حرب باردة ما أو شبه ساخنة بين روسيا والغرب، وإن لم يكن ذلك، فاتفاقيات بين الطرفين على تبادل مواقع عالمية ترضي الطرفين.
روسيا لن تسمح بسحب أراضي أوكرانيا من معسكرها، فهي حديقتها الخلفية إن صح التعبير، وخاصرتها التي أحست بالطعن فيها خلال الشهور الماضية.
الإدارة الروسية كانت -ولا تزال- تنظر إلى أوكرانيا كدولة يجب أن تكون تابعة لقرارات موسكو أو فيتو الكريملن، أو رمادية لا تريد تقاربًا مع روسيا ولا تجنح نحو الغرب في أسوأ الأحوال.
وكما ساهمت بإخفاق الثورة البرتقالية، وبعد احتلال القرم والاستحواذ عليه وضمه، ستعمل روسيا على استخدام جميع أوراق ضغطها السياسية والاقتصادية على حكومة العاصمة كييف، كرفع أسعار الغاز الذي يحرك عجلة الاقتصاد أو وقف إمداداته، وعرقلة مرور البضائع الأوكرانية عبر الحدود الروسية، وعدم الاعتراف بالحكومة الأوكرانية وعزلها سياسيًا، حتى لا تحقق الحريات والديمقراطية في أوكرانيا أية نجاحات قد تحرك الشارع ضد السلطات الاستبدادية في روسيا وغيرها من الدول التابعة والموالية.
أما الغرب، فمعني بنجاح أوكرانيا، لا نصرة للديمقراطية والحريات فيها، بل لأن في ذلك نصرًا على روسيا في ساحة بعيدة عن حدود الطرفين، وشرارة قد تشعل الاحتجاجات ضد نظام بوتين لتحد من بروز نفوذه العالمي.
يستخدم وسيستخدم كلا الجانبين أوراق الضغط التي لا تستثني المواجهة العسكرية، ولكن من بين الحلول أيضًا اتفاقيات لتقاسم مواقع النفوذ في أوكرانيا وحول العالم، وتبادل بعض الملفات أو تقديم تنازلات فيها، والحديث هنا يدور بشكل رئيس عن المواقع في القرم وسوريا، وعن ملفات إيران وكوريا الشمالية.
إذا ما أصرت روسيا على التمسك بالقرم كجزء منها، وهذا هو المتوقع، فإن الغرب قد يعمل على زيادة حضور نفوذه على حساب النفوذ الروسي في البحر المتوسط، وقد يكون له موقف أكثر حزمًا إزاء الملفات الإيرانية والكورية الشمالية التي تدعمها موسكو. الخلاصة، أن الغرب لن يسمح لروسيا بالسيطرة على القرم بسهولة، وإن سمح، فإن ذلك سيكون على حساب نقاط وملفات نفوذ لها حول العالم.
______________________________________
محمد صفوان جولاق – صحافي وباحث متخصص بالشأن الأوكراني
المصادر
1- محمد صفوان جولاق، معارضة أوكرانيا والطريق لأوروبا عبر الحكم، الجزيرة نت.
http://www.aljazeera.net/news/pages/47ea560b-5c58-40d7-bfbf-3216d15e3796
2- يقع شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا ويتصل بها عن طريق شريط ضيق من الأرض، ويحيط به البحر الأسود من الجنوب والغرب، ويحده من الشرق بحر أزوف ويفصله عن روسيا مضيق كيرتش وتنوي روسيا بناء جسر عبره. مساحته حوالي 27 ألف كيلومتر مربع، وسكانه حوالي مليوني نسمة، وقد أظهر إحصاء سكاني عام 2001 أن نحو 58 في المئة من السكان من أصول روسية و24 في المئة من أصل أوكراني و12 في المئة من التتار الذين يؤيدون الحكومة الجديدة المؤيدة للغرب في كييف. يمكن العودة لرويترز:
http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARACAEA2903Q20140310?pageNumber=1&virtualBrandChannel=0
3- الإمبراطورة الروسية “يكاتيرينا الثانية” اسمها: صوفيا فريديريكا أفغوستا، وُلدت عام 1729 في مدينة شيتسين (أو شتيتين) وهي مدينة ألمانية حتى عام 1945؛ حيث ضُمت إلى بولندا بعد أن انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ويعتبر الروس الإمبراطورة يكاتيرينا روسية خالصة، وهي التي جاءت روسيا وعمرها الـ14 عامًا، ودرست اللغة والثقافة الروسية واعتنقت الأرثوذكسية، واقترنت بولي عهد روسيا بطرس الثالث، ثم وصلت إلى عرش روسيا نتيجة انقلاب سياسي.
4- د. أمين القاسم، جغرافيا شبه جزيرة القرم وتاريخ التتار فيها، أوكرانيا برس.